حين تغيب السياسة عن الدراما السوريّة

احتشدت المسلسلات السوريّة داخل وليمة البث التلفزيوني التي أعدّتها الفضائيات العربية لملاقاة شهر الصيام، واجتهد الناس أيضاً طيلة شهر رمضان الماضي في البحث عن صور حياتها الواقعيّة داخل نسق الصور البصرية التي اقترحتها الأعمال الدراميّة عليهم. المقارنة تحدث هنا عن غير قصد، متجاهلةً غايات الإنتاج الدرامي الرامية في أصلها إلى اصطياد انتباه المتفرجين، واقتناص أموال المعلنين المرصودة لهذه الغاية.
2016-08-03

أيمن الشوفي

صحافي من سوريا


شارك
رائد عيسى - فلسطين
احتشدت المسلسلات السوريّة داخل وليمة البث التلفزيوني التي أعدّتها الفضائيات العربية لملاقاة شهر الصيام، واجتهد الناس أيضاً طيلة شهر رمضان الماضي في البحث عن صور حياتها الواقعيّة داخل نسق الصور البصرية التي اقترحتها الأعمال الدراميّة عليهم. المقارنة تحدث هنا عن غير قصد، متجاهلةً غايات الإنتاج الدرامي الرامية في أصلها إلى اصطياد انتباه المتفرجين، واقتناص أموال المعلنين المرصودة لهذه الغاية. تلك القصديّة لا تمنع بالضرورة تسلّل الحياة الواقعية المعيشة في سوريا إلى فضاءات الأعمال الدرامية ذات الإنتاج المحلّي، ليس لأن الواقع أكثر رحابة من أقفاصٍ تسجن النصوص الدرامية داخل الورق مؤتمرةً بنواهي الرقيب، ومتقرّبةً من رؤى السلطة لمسار الأحداث داخل البلاد، بل لأن الواقع يدوّن نفسه داخل الذاكرة الجمعيّة، وهذه لا يمكن تزويرها مع مرور الأيام، كما أن تخطّيها دراميّاً يطعن بمصداقيّة تلك المقاربة الدراميّة للواقع الموضوعي.

الواقع في مواجهة الدراما

يتناوب البؤس والقهر منذ أعوام على اقتراح ترجمة يوميّة للحياة داخل سوريا تشبه إلى حدٍّ كبير سرد السيرة الذاتية الخاصة بمأساة. وهذا يجافي أيّ محاولة لبلوغ ذاكرة انتقائية تتجنّب الانزلاق مرّة أخرى إلى فداحة الواقع، ومعاينته تراجيديّاً كحتميّة لم تتزحزح من مكانها طيلة خمسِ سنوات. وهي أخفقت في أن تنعكس مردوداً معرفيّاً على البنية الفكريّة للمجتمع، وهذا بفعل تمكّن الأدوات القمعيّة الرقابيّة للسلطة تارةً، وبفعلٍ ميراثٍ طويلٍ من الخوف تارةً أخرى. ولهذا نجد أنَّ الدراما السورية ذات الإنتاج المحلّي تخفّفت من أحمال الواقع المصوغ سياسياً هذا العام أكثر من الأعوام التي سبقته، غضّت النظر عن حياة مُعْتلّة من كل جوانبها، فتقشّفت نصوصها عن سرد الواقع بصورته السياسيّة القائمة.
مثل هذا التملّص من تقديم استنتاجات درامية جديدة تُجاري حياة السوريين المؤلمة، يعود في الأصل إلى سقوفٍ انتقائية تحدّد نوع الحبكات المستحبّة لدى السلطة، والتي يمكن تظهيرها تلفزيونياً على نحوٍ غير صادم. وهنا تفترض السلطة القائمة أن وفرةً في مسلسلاتٍ لا تُقرّع أساس المشكلة يكفي للتخفيف من حدّة ورطة النظام في مشاركته إنتاجَ واقعٍ مأزوم منذ سنوات. يكفي الإطلال على نوعيّة الإنتاج الدرامي داخل سوريا والذي جرى عرضه خلال الموسم الرمضاني الفائت لتبيان نسيج الهواجس التي تريد السلطة تمريرها من جهة، أو التي تريد الاكتفاء بها كصيغة ثابتة في المعنى من جهةٍ أخرى. يمكن حشر تلك المضامين الخطابية في سياق بنى تهويميّة رثّة لا تحترم البنى الواقعية للحياة القائمة، وهذا ليس سببه تشجيع النظام لدراما محليّة تجيء إلى مشاهديها من باب الترفيه، بل يشبه الأمر على الأكثر الافتراء على الواقع. وهذا ظهر في مسلسلات سردت علينا إما حياةً عاطفية مأزومة لشخوصها مثل مسلسل "نبتدي منين الحكاية"، أو أحالتنا إلى حبكة عنف ومطاردة وإثارة مثل مسلسل "دومينو"، أو إلى نمطٍ من الكوميديا الساذجة مثل مسلسل "سليمو وحريمو".

دراما الواقع تستأثر بالقسوة مُخرٍجاً

تبدّلت خيوط نسيج الحياة الواقعي في سوريا وألوانه بصورةٍ لافتة خلال الأعوام الثلاثة الماضية. لم يبقَ المناصرون للنظام أسرى انقيادٍ اعتباطيٍّ أعمى صاروا يحسبون أنّه قد يوصلهم إلى مشارف الإلغاء القسّري، وهم يتلمّسون التآكل المرير الذي أصاب قدراتهم الشرائية. ثم أنّ مواقفهم المؤيدة للنظام تبدّلت بعدما قذف الفرز الطبقي الجديد بالكثيرين منهم إلى تحت خط الفقر الأعلى المقدّر بنحو دولارين للفرد الواحد يومياً، والكثيرون ملّوا أيضاً من ديباجاتٍ ممجوجة تُسوّق لحربٍ طويلة تبدو عصيّةً على الانتهاء، فامتنعوا عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، كما ماطلوا في التقاط مرادفاتٍ واقعية لمعنى الوجود داخل سراديب بلدٍ منكوب بالبطالة والعجز والاستهتار بالشأن العام. بالمقابل ثمة مَن انتسب إلى التشكيلات الاجتماعية الجديدة التي تبلورت أكثر في لجّة الصراع الدائر فأصابت ثراءً سريعاً من خلال احترافها للجريمة المنظّمة بما تشمله من اختطافٍ وتهريب وتجارة بالمتعة الجسديّة وبصنوف المخدرات أيضاً، تحت رداءٍ من صمت السلطة.. إضافةً إلى الاختلال العميق في التوازنات المصاحبة لتوفير احتياجات الحياة الأساسية. وهذه كلّها مستمسكات حقيقية على الواقع، كانت تستحق بنيةً درامية أعمق تكشف جذورها وتعيد لنا سردها من هناك، قبل أن تكتفي بعدّ الأوراق المتساقطة وكأنها أساس الكارثة ونتائجها معاً. انعكس ذلك ظهوراً خاطفاً ضمنه هذا العام الموسم الجديد من لوحاتِ المسلسل السوري الساخر "بقعة ضوء"، الأزمة الوجوديّة التي تقبض على حياة السوريين هنا لا تَحتمل مثل تلك السخرية الخفيفة، ولا تكتفي بها، كما لا يمكن أن تُختزَل على هذا النحو، إذ لا يمكن الاستهانة بكل جلافة العطب المتراكمة كحصيلة لسنوات الحرب الشقيّة. من حق الواقع هنا أن يستحصل على مرجعيّة دراميّة تُحْسِن إعادة تمثيله.

دراما تتجاوز السياسة بخفّة

إذا اعتبرنا أن السياسة بمقدورها إجراء جراحة آمنة للواقع بغرض فصل مكوّناته بعضها عن بعض، ما يتيحُ لنا فهمه في سياقه الطبيعيّ، فإن إزاحتها عن لغة السرد الدرامي قد يعطّل أدوات الفهم كليّاً لدى المتلقي، الذي تراه السلطة في سوريا مجرّد كائنٍ مسلوب الإرادة والفكر، يحتاج إلى وجباتٍ دسمة من التلقين المباشر لمواصلة عطالته الوجوديّة. الأمر هنا يتعدّى المزاج الإنتاجي لشركات الدراما السورية، المشتق أصلاً من مزاج السلطة بشكلٍ عام، ويصل إلى تمييع العناوين الأساسيّة للحياة المعاشة بحجّة التباس الظرف الموضوعي، وبحجّة فقدان الحريّات العامة، حيث إن النص البصري الذي تؤسسه الدراما التلفزيونيّة بمقدوره تلويث النص البصري الحقيقي الذي تقدّمه الحياة عن نفسها، فتكون بذلك الأزمة السياسية العميقة التي تعيشها البلاد مجرّد فقاعة تطفو على سطح الواقع المقترح دراميّاً. ذلك أن الاقتراح الدرامي لديه قوّة حضور داخل منظومة الوعي الفردي لا يمكن التقليل من شأنها كأداة معرفية لإعادة إدراك ذلك الواقع بصورة غير مباشرة، وأخذ موقفٍ إيديولوجيّ مناسبٍ منه. والخطورة أنّ يجري استبدال الواقع بالمشهد الدراميّ على مهلٍ، وبلا إدراكٍ كافٍ من المتلقي.
تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة الأعمال الدرامية ذات الإنتاج السوري التي فُتحت في جسدها مساماً تتنفس من خلالها السياسة، ولو على نحوٍ مقتضَب. والأهم أنّ تلك الأعمال عرفت منحى بيانيّاً يشير إلى تراجعٍ سنويّ مستمر من حيث قوّة المحتوى، ودرجة مصداقيته. هنا يمكن استذكار مسلسل "قلم حِمرة" من تأليف الكاتبة يم مشهدي وإخراج حاتم علي، الذي عُرض في رمضان 2014، وهو سيرة ذاتيّة تفضح في بعض جوانبها آليات قمع السلطة، والحياة داخل المعتقلات. ثم جاء مسلسل "غداً نلتقي" وهو تأليف مشترك بين الممثلين إياد أبو الشامات ورامي حنّا، وأخرجه أيضاً رامي حنا، وعُرِض خلال رمضان 2015، وحمل مقاربات الوثيقة الدراميّة في متابعتهِ لجلبة حياة اللاجئين السوريين داخل لبنان، ضمن كل الانعطافات السياسيّة الممكنة داخل مسار الحبكة.. لكنها لم تكن على أيّة حال دراما صادمة للنظام السوري، وإن خرجت عن درب التسطيح المألوف في غيرها من أعمال تلفزيونيّة. هذا العام حمل مسلسل "الندم" الذي كتبه حسن سامي يوسف وأخرجه الليث حجو، الهاجس السياسي على نحوٍ طفيف تكاد السيرة الذاتية لبطله أن تزيله كليّاً. نلمح فقط العودة إلى استذكار سطوة الأجهزة الأمنية في موضوع الاعتقال السياسيّ التي عرّجت عليها مشاهد معدودة للغاية، جاءت على هامش السرد الدرامي الرئيسي. كما لم تستأثر التفاصيل المعطوبة للحياة اليوميّة المنغمسة في احتمالات الجوع والغلاء وانقطاع الكهرباء سوى بعبور طافٍ فوق سطح السرد فقط.
تغيب السياسة عن الدراما إذاً، وكأنهما لن يلتقيا في سوريا أبداً. يجري تجاهل السياسة وكأنها ليست ضرورةً موضوعية لتأسيس سردٍ مطابق للواقع الجديد، لكنها ليست أيضاً ترفاً في سياق ما سبق، أو تصنيفاً لموضوع العمل الدرامي. هي رؤية متأنّية تقي السرديات الدرامية من الإصابة بالفصام.

 

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

في سوريا: العمل بالأمل؟

ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا...

ما بعد الخمسة آلاف ليرة سورية...

سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس...

راس السنة، أصابع ملوثة بالحبر

خلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية في المطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على...