لماذا ينهار التعليم في تونس؟

تعيش المنظومة التربوية التونسية، خاصة العمومية منها، خلال العقد الأخير فترة هي الأسوأ والأحلك في تاريخها منذ ما بعد الاستقلال. وقد مرت في السنتين الأخيرتين إلى ما هو أقرب للتردي والانحطاط. ويعود ذلك لعوامل عديدة

2016-08-03

شارك

تعيش المنظومة التربوية التونسية، خاصة العمومية منها، خلال العقد الأخير فترة هي الأسوأ والأحلك في تاريخها منذ ما بعد الاستقلال. وقد مرت في السنتين الأخيرتين إلى ما هو أقرب للتردي والانحطاط. ويعود ذلك لعوامل عديدة نذكر منها على سبيل المثال:

- تدخُّل صندوق النقد الدولي في السياسات التعليمية للبلاد، والتوجه نحو "خصخصة" التعليم والاتجار بالمعرفة أو ما يتعارف عليه بـ "تسليع المعرفة".

- غلق مدارس ترشيح المعلمين واعتماد انتدابات عشوائية لغير ذوي الكفاءة والاختصاص الذين أسقطوا على المؤسسة التربوية إسقاطاً، دونما تكوين مسبق، مما أضرّ بجودة العملية التعليمية.

غير أن الأزمة الخانقة التي يرزح تحتها التعليم العمومي والخصوصي أيضاً، تعود أساساً لتبني سياسات ضربتها في مقتل، وهزّت صورتها وهيبتها في آن. لقد كان التونسي ولزمن قريب أفضل تجسيد لمبدأ كان هو الأساس والعمود الذي ارتكزت عليه السياسة التعليمية التونسية. تاريخ العلوم في البلاد يعود للحضارة القرطاجنية، ولكن العلامة عبد الرحمن بن خلدون ترك بصمة واضحة في منهجية العملية التربوية في هذه البقعة من العالم. فقد اعتبر في مقدمته أن أهم غايات التربية هي بالضرورة تهذيب المتعلِّم وإكسابه خصالاً حميدة وتنشيط فكره وتحفيزه، وإتاحة الفرصة له حتى يعيش حياة كريمة في مجتمع متحضر وراقٍ وتسهيل سبل التكسب لديه. وشدّد على استمرارية التعليم من المهد إلى اللحد، وأنه ليس هناك حد ينتهي عنده. وكان ابن خلدون أول من نادى بعدم إثقال كاهل المتعلِّم، خاصة في بداية تحصيله، حتى لا ينفر من التحصيل العلمي.. والعكس بالضبط هو ما يحدث في المدرسة التونسية حيث تفوق محفظة تلميذ الابتدائي المثقلة بالكتب وزنه.

ثم بعد قرون، استوحى آباء الحركات الإصلاحية في تونس أفكارهم من ابن خلدون، وتأثروا في مناهجهم الإصلاحية بأفكاره، بل جعلوها أساساً لأبحاثهم، كالمفكر التونسي المجدِّد عبد العزيز الثعالبي في مؤلفه "روح التحرر في القرآن"، حيث أكد أن "التعليم عامل ترقٍ اجتماعي"، وأنه من المهم "تزكية شخصية الفرد التونسي المسلم بأن يستمد العناصر القادرة على تغيير عقليته وتحويله إلى إنسان جدير حقيقة بهذا الاسم. أي إنسان حر ومتعلم ومتأثر بكل ما له علاقة بالإنسانية والحضارة".

ومثله كان الطاهر الحداد أباً ومؤسساً للإصلاح التربوي التونسي، وصاحب رؤية ثاقبة سابقة لعصرها في تكوين أجيال محافِظة على عراقتها وأصالتها، منفتحة على العلوم الحديثة المأخوذة من الغرب دونما تنكر لانتمائها الإسلامي وهويتها العربية.

خاض هؤلاء المصلحون معارك ضارية مع أنصار "المدرسة الزيتونية" وصلت لحدّ اتهامهم بالزندقة والتكفير، غير أنهم لم يستسلموا إلى أن وجدوا آذاناً صاغية وتطبيقاً لنظرياتهم مع حكومة الاستقلال الأولى.

وبقدر ما أظهره هؤلاء المجدّدون من استبسال لتحقيق إصلاح جذري غير ترقيعي للتعليم، بقدر ما كان فكرهم ناجعاً في العمل على إنتاج فرد يتميّز بتعليم متين ومتمكن في آن واحد من مختلف العلوم الحديثة والآداب المتنوعة… أما ما نراه مؤخراً فهو تقويض لبنيان التعليم من أساسه.

نسمع عن إصلاح التعليم ولا نراه

أهم مؤشر على تردّي الوضع التعليمي في تونس يظهر في تراجع ترتيبها عالمياً وعربياً، حيث أشارت دراسة لـ"منظمة الاقتصاد والتعاون والتنمية الدولية" أن تونس تأتي في المرتبة 64 من أصل 76 دولة أجريت عليها الدراسة. ويعزو المتخصصون تقهقر التعليم بها إلى "تدني المستوى التعليمي، وافتقار الطلبة إلى مؤهلات مناسبة بعد التخرّج، وعدم تحديث المناهج التي لم تتغيّر منذ عقود، مما أدى إلى تدني قدرات التلاميذ، وانتشار ظواهر خطيرة مثل الانقطاع عن التعليم، وانتحار التلامذة"، كما أنه صار مؤخراً يعاني من تفشي العنف الجسدي واللفظي ضد الأساتذة، وهو ما تعزوه نقابة التعليم لحملة تشويه ضد المربين قادها وزير التربية، وكانت لها تبعاتها الخطيرة، حيث إن تصريحاته ضدهم كانت دائماً تتبع بأعمال انتقامية وصلت لحد جرائم الشروع بالقتل من دهس بالسيارة لطعن، لحروق متفاوتة الخطورة في أماكن حساسة من الجسد، للتعنيف الجسدي واللفظي على أيدي الأولياء وأبنائهم. لقد فقدت المدرسة العمومية مصداقيتها وأصبحت منتجاً لمواطن هو أقرب للأمية، إذ إنه بلا مبالغة.. بإلامكان إيجاد شباب في المراحل الإعدادية أو حتى الثانوية لا يحسنون كتابة أسمائهم.

ورغم الحديث الكبير والمتواصل منذ سنة 2015 عن "حوار وطني لإصلاح المنظومة التربوية"، غير أن تصريحات غير مطمئنة صدرت عن الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي من المفروض أنه طرف في هذا الحوار. وعلى سبيل الذكر فإن بعض الكتب المدرسية هي قيد الطباعة دون اطلاع أعضاء الحوار عليها، بل يذهب نقيب الأساتذة للقول (على صفحته الفايسبوكية) أنه حين يتكتم وزير التربية عن الكتب المدرسية التي تم إعدادها وطباعتها منذ أشهر خارج أي اتفاق أو توافق مع مكونات الحوار الوطني حول البرامج والمناهج، فهذا يعني أننا أمام إصلاح بواجهتين، واحد للاستهلاك والدعاية وآخر وراء الكواليس يديره لوبي الصفقات والمنتعشين من سوق الكتب المدرسية والتكوين والتخطيط والبرمجة.. وهو الذي يعمل عراباً لإملاءات الجهات المانحة. التحدي المطروح علينا الآن: هل سنفقد زمام المبادرة ونسلم للتيار الجارف، أم نتحمل مسؤولياتنا التاريخية ولو ببعض التأخير؟". كما ندد في تصريح لجريدة الشروق في 27 أيار/ مايو الفائت، بما وصفه "التفاف" الوزارة على مشروع الإصلاح التربوي و "امتثالها لأوامر حركة نداء تونس وإملاءات البنك الدولي". وأكد أن بعض قرارات الوزير "الارتجالية" كإفراغ المدارس التقنية الإعدادية من محتواها، يندرج في إطار المرحلة الثالثة والأخيرة لمشروع قبر التعليم التقني بإملاءات من البنك الدولي واللوبيات وأصحاب رؤوس الأموال التي تسعى إلى خصخصة هذا القطاع..".

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

بين الاحتياج وبخس الأجر

نساء مكدّسات مع الفجر في شاحنة مكشوفة، ومثله عند الغروب، وقد بدا عليهن الإرهاق جارحاً للعين في المدن ولكنه منظر مألوف في المناطق الداخلية للشمال الغربي التونسي. نساء ريفيات عاملات...