ليست المدينة هي ما يكتبه المؤرخون عنها، بل هي كل ما تدوّنه الذاكرة الجمعية، وهي "نوع من الكتابة ضد تاريخ المؤرخين" كما قيل، أي أنها ذلك ''التاريخ الحيّ" الملموس والمتنوع، المنثور بين ثنايا التاريخ الرسمي. المدينة تغدو على هذا النحو فضاء ديناميكياً في حالة تحوّل دائم، وهي كذلك الفضاء الذي تتجذّر فيه ذاكرة المجموعات والأفراد وممارساتهم اليومية.
هوية جماعية مجروحة
هذا الأمر هو ربما ما غاب عن افتتاح تظاهرة "صفاقس عاصمة الثقافة العربية 2016" التي غلبت عليها اللغة الخشبية لبيروقراطيين مثلتهم وزيرة الثقافة، وسادتها ''النزعة الفلكلورية للثقافة" التي يغلب عليها الطابع السياحي. وهو ما جعل جزءاً كبيراً من سكان صفاقس، عاصمة "الجنوب التونسي"، يشعرون بالإحباط وخيبة الأمل، حيث بدا افتتاح التظاهرة بلا روح، لأنه لم يُبرِز تنوّع المدينة وثراءها الثقافي ماضياً وحاضراً، معمّقاً بذلك "هوية جمعية مجروحة". فأهل المدينة يعتبرون أن مدينتهم منسية ومضطهدة من قبل السلطات المركزية بسبب تاريخها النقابي العمالي، حيث تقول القاعدة إنه "حين "تغضب صفاقس يسقط النظام"، لوجود فئات عمالية واسعة، وطبقة متوسطة كبيرة، وتاريخ نقابي طويل. حتى أن مؤتمر الحزب الدستوري العام 1934 انعقد في صفاقس، وساند فيه النقابيون بورقيبة ضد اليوسفيين. وقد كان دور المدينة حاسماً في إسقاط نظام بن علي..
وعلى ذلك، تكمن مفارقة تظاهرة "صفاقس عاصمة الثقافة العربية 2016" كحدث ثقافي إقليمي ينتظم في ظل "التجربة الديمقراطية"، في أنها لم تمنح لصفاقس ''روح المدينة"، وكأن لا شيء يحدث. فالشوارع التي نظفت على عجل (مثلما يحدث في المناسبات التي يزور فيها كبار المسؤولين الجهات) عادت إلى اتساخها، والمداخل الرئيسية لا توحي للزائر بأنه يدخل ''عاصمة الثقافة العربية". فقط أعلام الدول العربية المرفوعة في مركز المدينة هي ما يوحي أن ثمة شيئاً بصدد الحدوث.
صفاقس.. هل هي مدينة؟
تبدو صفاقس مدينة مفارِقة وملتبسة، فهي عاصمة "الجنوب التونسي" وعاصمة البلاد الاقتصادية وذات حجم ديمغرافي يفوق المليون ساكن (من أصل 11 مليوناً)، وتمتلك أطول شريط ساحلي في تونس، إضافة إلى نسيج صناعي وفِلاحي متنوّع، وتحتل سنوياً المرتبة الأولى في نسب النجاح في البكالوريا على المستوى الوطني.. إلا أن زائرها لا يعتريه الشعور أنّه يدخل "العاصمة الاقتصادية للبلاد". فالبنية التحتية ممثلة بطرقات مهترئة ورثة ما يؤدي إلى الاختناق المروري الدائم، في حين يتآكل أسطول النقل العمومي ممثَلا بحافلات الشركة الجهوية للنقل التي لا تلتزم بمواعيد الرحلات فيضطر الكثير من تلاميذ الأحياء الفقيرة المحيطة بالمدينة إلى التأخر عن مواعيد الدراسة. وينتشر باعة البنزين المهرّب على طول الطرقات المؤدية إلى مركز المدينة، ويستعمل جل السكان التاكسي الجماعي الذي يفرض بعض سائقيه شروطهم أوقات الذروة. وتغيب المناطق الخضراء عن مدينة يواجه سكانها معضلة التلوث البيئي بفعل "المجمع الكيميائي التونسي"، أكبر مصانع تحويل الفوسفات الآتي من مناجم مدينة قفصة المجاورة، إضافة إلى عدد من المصانع الأخرى التي يتهرب أصحابها من مسؤوليتهم البيئية بذريعة تحريك الاقتصاد، وهو ما حوّل الشواطئ إلى أماكن تُمنع فيها السباحة. وتغيب كذلك المشاريع العمومية الكبرى هنا، وآخرها كان في ثمانينات القرن الفائت وتعلق بحزام بورقيبة لحماية المدينة من الفيضانات.. ما لا يمنع تحولها إلى مستنقع كبير عند نزول الأمطار الشتوية. وحتى منظومة الحماية المدنية متخلفة، وغير ملائمة لحجم مدينة صناعية، فقد احتاج إخماد حريق شبّ في أحد المصانع إلى دعم من المحافظات المجاورة..
كل هذه العوامل أسقطت حظوظ المدينة في اختيارها لتنظيم الألعاب المتوسّطية 2021 (ستقام في مدينة وهران الجزائرية). بهذا الوجه الذي تحاول السلطات المحلية إخفاءه وتجميله، تحتضن صفاقس الثقافة العربية. وعلاوة على كل الغيابات، تغيب البنية التحتية الثقافية! فالمدينة تحتوي على مكتبة جهوية عمومية يتيمة لم تجدّد أغلب الكتب الموجودة فيها العائدة إلى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت. وفيها مسرح بلدي صغير، ومسرح صيفي تنظم فيه مهرجانات يغلب عليها الجانب التجاري والترفيهي. كما تغيب الندوات العلمية العالمية عن المدينة على الرغم من احتوائها قطباً جامعياً كبيراً. بالإضافة إلى هذا تغيب فضاءات الترفيه، مما يجعل سكان المدينة وشبانها يشعرون بالضيق والحنَق الدائمين، فيُضطرون لمغادرتها إلى المدن الساحلية المجاوِرة قصد الترفيه. ويرى سكان صفاقس أن سياسة اختزال المدينة في العمل والإنتاج هو أمر متعمَّد من قبل السلطة المركزية التي تتعامل معهم وفق الذهنية المخْزنية (المخزن هو تسمية الدولة المركزية البرَّانية في المغرب، واستُعمل المصطلح كتعريف لحكومة السلطان منذ عهد السعديين بداية القرن السادس عشر إلى عهد الاستعمار، ومعناه المجازي متصل بالضرائب) القائمة على جني الجباية. وأدّى هذا الشعور بالتهميش المتعمَّد إلى خطابات ذات نزعة جهوية لدى بعض الفاعلين والرموز المؤثرين في المدينة على نحو يتناقض مع فكرة المواطَنة ومع فكرة المدينة كفضاء للعيش المشترك. ولا تزال تسود في صفاقس الثقافة المحافظة التي تحدّد الأفراد وفق انتماءاتهم العائلية، كما أن البنى الأولية هي المحدِّدة لسلوك الفرد وهي تضغط عليه. ولهذا فلا يتمتع الباحثون عن ممارسة فردانيتهم في صفاقس بـ "شعور الحرية" الذي يميّز المدينة (وفق الفيلسوف الألماني هيغل)، فيضطرون إلى ممارستها على نحو سري.. صفاقس تبدو بمثابة "القرية الكبيرة" والمدينة ذات ''الوجوه المخفية'' التي تخنق ساكنيها وتشعرهم بالحنَق الدائم.
تشظّي الفضاء العمراني وتنامي الإقصاء الاجتماعي
لم تعد صفاقس "بلاد الزوالي" (تعني باللهجة كل من هو فقير وله دخل محدود) أي مدينة الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي يلجأ إليها نازحو المناطق الداخلية الفقيرة. فقدرتها الإدماجية تتراجع بفعل عوامل عدة أبرزها انخراط الاقتصاد المحلي في منظومة الاقتصاد المعولَم، مما أدى إلى إغلاق أكثر من نصف مصانع النسيج والأحذية، بالإضافة إلى تنامي قطاع "الاقتصاد اللانظامي" الذي أدّى إلى إغراق السوق المحلية بالسلع المهرّبة بثمن بخس والتي تتلاءم مع القدرات الشرائية للفئات الفقيرة. وقد انعكس هذا الأمر على المجال الجغرافي فتحوّلت صفاقس إلى مدينة متشظية مجالياً، حيث تتنامى على أطرافها أحياء السكن العشوائي والفوضوي الذي يستقطب الفئات الفقيرة. وأغلب تلك الفئات نازحة من الأرياف ولم تستطع أن تجد لها مكاناً في المدينة بفعل تقلّص فرص العمل ووجدت نفسها في وضعية الـ ''بين ــ بين". وفي هذا السياق يتنامى تريّف و "ترَيُّث" (من رثّ) الفضاء المديني، ويتزايد العنف الحضري بأشكاله المتعددة. بالمقابل يتزايد ارتفاع المباني والعمارات الفخمة في أجزاء أخرى من المدينة دون أي تخطيط عمراني وتناسق جمالي أو احترام للمثال العمراني. ويعبّر هذا التمدد غير المتحكم به من قبل السلطات المحلية عن وجوه متعددة للحالة العمرانية للمدينة التي صارت تتحكم فيها مجموعات مالية متنفذة، يشكل سوق العقارات أحد وسائلها لتبييض الأموال والتهرب الضريبي، فصارت صفاقس مدينة تسير بسرعتين متنافرتين. فبقدر ما يوجد تمدّد عمراني اقتصادي يفسح المجال لرجال الأعمال ويعطي سطوة للأثرياء الجدد، يتمدّد التحضر الهامشي ويسيطر على المدينة التي صارت بعض أحيائها تتحوّل إلى ما يشبه الغيتوات الحضَرية المنقطعة عن المدينة، حيث يتكدس أبناء الجيل الثاني والثالث لنازحي السبعينيات والثمانينيات بلا عمل وبلا أفق في مدينة عرفت بكونها مدينة ''الجد والعمل''. التحوّل الذي حفّ بالمدينة هو بالأساس تحوّل من صيرورة الإدماج إلى صيرورة الإقصاء، فأصبحت صفاقس فضاء جغرافياً يتعايش فيه المتساكنون ولا ينصهرون. فالمسافة بين أهل المدينة ونازحي الأرياف الذين لم يندمجوا في العالم الحضري لصفاقس تتباعد وتتزايد وتخلق حالة من العنف الرمزي والمجاني.
صفاقس مدينة إخوانية؟
على خلاف ما كانت عليه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، عبر حركتها الثقافية ونشاطات نخبها الطليعية الفاعلة التي ساهمت في تأسيس أهم "ملتقى سينمائي للجنوب" في إفريقيا والعالم العربي، أدى "ترْيّث" المدينة وتهاوي قدرتها الإدماجية اجتماعياً واقتصادياً، إلى تحولها إلى أهم معاقل تيار الاتجاه الإسلامي الذي تمثله حالياً "حركة النهضة" وجل أصول قادتها التاريخيين منها، وحققت فيها حركة النهضة فوزاً كاسحاً وصل إلى سبعة نواب خلال انتخابات المجلس التأسيسي في تشرين الأول/ أكتوبر 2012، كما في انتخابات 2014 حيث تصدر إسلاميو المدينة قائمة الفائزين، في حين هُزمت القوى اليسارية على الرغم من الطابع العمالي للمدينة ووجود نقابات قوية. فخطاب الإسلاميين المحافظ يتلاءم مع النزعة المحافظة القائمة هنا. بالإضافة إلى هذا، لاقى الإسلاميون دعماً كبيراً من رجال الأعمال والبازار التجاري للمدينة الذي يهمين عليه تجار صغار ومتوسطون كونوا ثروتهم في ظل اقتصاد التضامنات العائلية الذي خرج من رحم الصناعات التقليدية واليدوية المنتشرة في المدينة العتيقة. وصفاقس، على خلاف بعض المدن الداخلية، تعج بقيادات إخوانية دينية بين أئمة الجوامع إلى الحد الذي صار فيه "جامع سيدي اللخمي" أكبر مساجد المدينة، محل نزاع سياسي في 2015 بين داعمي إمامه المنتمي لحركة النهضة وبين بعض منظمات المجتمع المدني ذات التوجه اليساري الداعية إلى تحييد المساجد. ففي اللحظة التي قررت فيها السلطة حينها ''عزل الإمام"، أضرب المصلّون عن ''صلاة الجمعة'' وخرجوا في مظاهرة حاشدة لدعمه! ويستغل الكثير من رجال الأعمال المحليين قوة حركة النهضة في المدينة لخدمة مصالحهم، حيث يتحالف في صفاقس الديني والاقتصادي والسياسي.
في ظل هذا السياق، ينتكس الإبداع في المدينة وتتقلص الحركة الثقافية كشأن مواطِني ومجتمعي من الممكن أن يولِّد فضاء للعيش المشترك والممارسة التي تدعم الديموقراطية.. صفاقس تحتفل إذاً بالثقافة العربية بوجوه وبخطابات وبأدوات قديمة..
.. لهذا كله، كانت البدايات فاشلة.