إعداد وتحرير: صباح جلّول
قالوا هذه المرة إن في غزّة استشهد 15 فلسطينياً بينهم أربعة أطفال. لا، مهلاً، صوَّبوا: في غزّة استشهد 22 فلسطينياً بينهم خمسة أطفال، فقوائم الموتِ بعد القصفِ دائماً ما تكون "أوّلية"، إذ أنّ الموت، حيثُ يحلّ، ينهمُ وينفلش أينَ استطاع. كما أصيب ما يزيد عن 50 شخصاً بينهم إصاباتٌ خطيرة. تابعوا. ستوافينا وتوافيكم المحطات غداً بأرقام جديدة لأنّ دولة الاحتلال لم تعتد الاكتفاء من الدم. فعاديٌ جداً قتلُ الأطفال هناك، وعاديٌ عدّاد الموتِ على المحطات والمواقع، وعاديّة ردود الفعل الدولية المذهولة - قليلاً فقط - من قدرة الاحتلال على ارتكاب تلك الجريمة، أي قتل الأطفال، لتعود وتتابع حياتها بعدها بلحظة تماماً، كأنّ ما كان لم يكُن.
قامت إسرائيل بعملية لاغتيال ثلاثة من قادة "حركة الجهاد الإسلامي" فقصفت بيوتهم في غزة فجر يوم الثلاثاء 9 أيار / مايو 2023، فقتلتهم مع زوجاتهم وأغلب أطفالهم. نزلت الصواريخ على رؤوس الأطفال عند الساعة الثالثة صباحاً بالضبط، عندما كانوا نائمين كما ينام الأطفال في هذا الوقت. كانت أنفاسهم بطيئة وهادئة ومطمئنّة بالتأكيد فيما هم مستسلمون لنومهم العميق. أنفاسٌ لا بدّ يعرفُها أي أب وأمّ في الدنيا ويسمعون حسّها كلّما دخلوا غرف نوم أولادهم للاطمئنان بأنهم يتنفّسون في الليل. لم يكن الأطفال في ساحة معركة، بالتأكيد لم يكونوا.
تصوّروا! أطفال غزة لا يصنعون العبوات في أوقات فراغهم، بل هم، كسائر أطفال هذا العالم، يحبون الألعاب والحلويات ويخططون لرحلة المدرسة ويتحمسون لأية مغامراتٍ جديدة (سِوى الحرب). كان من المفترض أن "يصبِحوا على خير".
ماذا بعد يا محتل؟
04-05-2023
كيف يتّسع أيّ شيءٍ لكلّ أولئك الأطفال الذين قُتلوا؟
18-05-2021
لكن الطفلة استشهدت واستشهد ذاك الطفل أيضاً، هذا وجهها وهذا وجهه. هوَ تمرينٌ حَزينٌ لا شكّ، أن يُجبِر أحدنا نفسه أن يمعن النظر في الوجوه كي لا يعتاد موت الأطفال، ولعلّه أيضاً تمرينٌ شرّير. نبحثُ في الصور عمّن يشبه أطفالنا، أطفال إخوتنا وأصدقائنا ونقول هل هذا بعضُ طفلي؟ هل هذا طفلٌ أعرفه؟ ونكون أكيدين أننا نعرفهم وإنْ كنّا لا نعرفهم، فكأنّ جميع الأطفال بطريقة ما أصدقاء وأنسباء. وهو تمرينٌ مرهقٌ أيضاً لأنه لسوء حظّنا كثير التكرار في عالمٍ تكثر فيه الطائرات الحربية والقذائف الصاروخية وغيرها من أدوات القتل السهل، خاصة في يد دولة احتلالٍ غاشمة. فجر الثلاثاء، أبيدت عائلات بأسرها، من بينها وإلى جانب عائلات القادة الثلاث، عائلة جمال خصوان وزوجته وابنه، وهو طبيب معروف بتقديمه خدماته الطبية مجاناً للمحتاجين واتجاهه إلى عمل الخير وخلق تكافل اجتماعي تحتاجه غزّة بشدة. وخُطف أطفالٌ من نومهم المؤقت إلى ذلك المؤبّد.
ماتت ميار عز الدين في العاشرة من عمرها
ومات أخوها علي في الثامنة
ماتت ليان مدوخ في العاشرة من عمرها
وماتت أصغرهنّ، هاجر البهتيني، في عمر الخامسة فقط
وماتت إيمان عدس مراهِقةٌ في السابعة عشر
ثمّ في موجةِ قصفِ تالية، توقف قلبُ الطفل تميم داود ابن الخمسِ سنوات من الخوف. لنقرأ تلكَ الجملة المرعبة مرّة أخرى. توقّف قلب الطفلِ من الخوف! لعلّ أغلبنا لم يكن يتخيّل أنّ نوبةً قلبية تصيب طفلاً في الخامسة. لم نكن نستوعب أيّ وحشية تصل الى هذه المستويات من الرعب. أيّ قهرٍ وقعَ في قلب أمه وأبيه عندما تبيّنا عجزهما عن تسوير قلب طفلهما من رعب أصوات القصف؟ هل هكذا يهتك العدوّ ليس فقط الأجساد الصغيرة بل النفوس الصغيرة أيضاً، فلا ينجو شيء؟ هذا إذاً اختطاف كاملٌ لأطفالنا وقسوةٌ تهدّ الحيل.
يأتي بعد كلّ هذا نواب أو إعلاميون في إسرائيل ليعبّروا عن قلقهم لا من هوْل قتل الأطفال ولكن مما تتكبّده إسرائيل من منظار "العلاقات العامة" وصورتها أمام العالم، فتتبنى دولة الاحتلال أحقر منظور ممكن لمسألةِ بفظاعة جريمة قتل الأطفال. ففلذات أكباد الناس "أضرار جانبية" في عرْف هؤلاء، خدشٌ بسيط على وجه الدولة. أمّا الضحيّة الكبرى فـ"سمعة إسرائيل" وطفلٌ باكٍ في مستوطنة تجيّر له دوناً عن أطفال فلسطين كل عواطف الرأفة والشفقة.
كم كانوا وحدهم الأطفال الشهداء.
***
لم ينتصف العام 2023 بعد لكنّ عدد الأطفال الفلسطينيين الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزّة تجاوز 25 طفلاً حتى الساعة، حسب إحصاء "الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين"، أي بمعدل 5 أطفال كل شهر. بل إن إسرائيل تعتمد قتلَ الأطفال سياسةً تاريخية منذ تأسيس كيانها الغاصب وحتى اليوم وقبل وبعد توقيعها لأية اتفاقيات دولية تُعنى بحقوق الطفل. وفي السنوات القليلة الماضية على سبيل المثال، استشهد 17 طفلاً في عدوان العام 2022 على غزّة المحاصرة، فيما استشهد أكثر من 60 طفلاً في عدوان عام 2021، كلهم أيضاً في غزة المخنوقة والمحاصرة والتي تندر فيها فرص العمل والنجاح والاستقرار، فيكون أطفالها ضحايا كلّ شيءٍ – أحياء أو أموات.. ويكونون إما طفلٌ شهيدا أو رفيقا لطفلٍ شهيد.
أطفالٌ يرثون أطفالاً، والدنيا تمشي ولا من هلع عالمي من كل هذا الموت. سيضعون اليوم وردة على مقاعد دراسة أولئك الذين لن يحضروا إلى الصف مرة ثانية ولن يذهبوا في الرحلة أو يخططوا ماذا سيصيرون حين يكبروا. أطفال كثر اليوم في غزة يرثون أطفالاً آخرين، أمّا نحن فنمارس التمرين المنهِك، ننظر في وجوههم الصغيرة ونتمنى ألّا نستكين فنجعل من جريمة قتل طفلٍ أمراً عادياً آخر. لا. ليس عادياً!