بعد 75 عاماً على النكبة: مقاومة الشعب المصري للتطبيع

معركة "المفاهيم" كانت أولى معارك النضال ضد التطبيع. خاض الكتاب والمثقفون المصريون معركة الانتماء القومي وواجهوا التشكيك في هوية مصر وانتمائها العربي. كما خاضوا مواجهة إعادة صياغة أسس النزاع وتبديلها لتكون مجرد مشكلات نفسية (سيكولوجية)، إضافةً إلى مواجهة تشويه تفسير التاريخ الإسلامي لتشبيه معاهدة كامب ديفيد ب"صلح الحديبية"، وتزييف كثير من المفاهيم الدينية اليقينية، لإقامة مُجمّع الأديان الثلاثة الشهير.
2023-05-11

رباب يحيى

صحافية من مصر


شارك
أنور السادات مع موشي ديان

وقّعت مصر مع إسرائيل العديـد مـن الاتفاقيات والمعاهدات التي رسمت مسارات التطبيع بكل أنواعـه ومـستوياته (السياسي، الاقتصادي، العسكري، الثقافي، الزراعي، السياحي، الرياضي ... إلخ)، مهدت لها زيارة الرئيس السادات لإسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، ثم قننتها اتفاقيات "کامب ديفيد" (17/ 9/ 1978) و"معاهدة السلام" (26/ 3/ 1979) واتفاق تبـادل السفراء واتفاق القوات متعددة الجنسيات (3/ 8/ 1981)، و"اتفاق طابا" (25/ 4/ 1982)، و"اتفاق الكويز" (2004) واتفاق تصدير الغاز (2005) وغيرها...

أطّرت هذه الاتفاقيات الإرادة السياسية الحاكمة، إلا أن الاتجاه الشعبيّ كان مختلفاً، حيث تشكّلت لجان وهيئات، وأحياناً مبادرات فردية وجماعية مسلّحة لمقاومة التطبيع (سعد إدريس حلاوة، سليمان خاطر، محمود نور الدين وتنظـيم "ثورة مصر"، أيمن حسن).. وظلت هذه اللجان تقاوِم حتى سقط حسني مبارك بعد ثـورة 25 /1/ 2011. مثلاً، تمّ اقتحام السفارة الإسرائيلية وإحراقها مرتين خلال عام 2011 من قبل شباب الثورة، ولم تعد السفارة إلى مقرها القديم مرة أخرى بفعل هـذه المقاومـة الشعبية.

المرحلة الأولى من مقاومة التطبيع

بدأت هذه المرحلة، في أعقاب زيارة الرئيس السادات لإسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، واستمرت بعد مصرعه.

في البداية، تركزت مقاومة التطبيع داخل الأحزاب السياسية المعارضة: "حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي"، و"حزب العمل الاشتراكي"، والقوى السياسية التي حجبت عنها الشرعية (الناصريون، الشيوعيون، الإخوان المسلمين)، وبعض الشخصيات العامة، مثل أعضاء مجلس قيادة "ثورة يوليو" السابقون. استطاعت هذه القوى السياسية من خلال بياناتها، والعدد (المحدود) من النواب الممثلين لها في مجلس الشعب، ومن خلال صحف المعارضة، كلما أتيح لها الظهور في فترات متقطعة ما بين مصادرتها أو حظرها في ذلك الوقت، إيصالَ صوتها إلى الرأي العام المصري.

أصدر بعدها أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين - زكريا محي الدين، حسين الشافعي، عبد اللطيف البغدادي، وكمال الدين حسين - مذكرة إلى المسؤولين والصحف ووكالات الأنباء في وقت واحد وهو الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1978، تضمنت رفض القادة التاريخيين الأربعة اتفاقيات كامب ديفيد جملة وتفصيلاً، وذلك من وجهة نظر استراتيجية (عسكرية  - سياسية). لم تتخلف إذاً القوى الوطنية داخل الجهاز الحكومي ذاته عن مقاومة التطبيع، بل لعل واحدة من أهم المبادرات التي نبهت الرأي العام المصري إلى مخاطر ما يجري، جاءت من داخل الجهاز الحكومي نفسه. قبل أن تهبط طائرة الرئيس المصري في مطار بن جوريون، قدم جهاز الدبلوماسية المصرية أول احتجاج له على هذه الخطوة، فاستقال نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية إسماعيل فهمي، وأعقبه خليفته محمد رياض، قبل مرور أربع وعشرين ساعة، كما استقال بعد ذلك عدد من سفراء وزارة الخارجية، من بينهم: مراد غالب، وسعد الدين الشاذلي، ولحقهم محمد إبراهيم كامل ثالث وزير خارجية لمصر بعد المبادرة في كامب ديفيد، رافضاً تحمّل ما قبِله الرئيس المصري السابق من اتفاقيات في ذلك المكان.

بدأت بعد ذلك الحركة الجماهيرية في أعقاب توقيع "اتفاقية كامب ديفيد"، باجتماع عدد كبير من قيادات الحركة الفكرية والثقافية والسياسية (في 2 نيسان/أبريل 1979)، لمناقشة موقف المثقفين من تلك المعاهدة، وانبثق عن الاجتماع تشكيل "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية" كجبهة مستقلة. وقـد نبـه البيـان التأسيسي للجنة إلى المخاطر العديدة التي تتعرض لها البلاد جراء اتفاقيات كامب ديفيد، وحذر من كافة أشكال التبادل العلمي والثقافي والتقني مع إسرائيل. وكـان من نتائج نشاط اللجنة اتجاه كافة النقابات المهنية والعمالية والثقافية إلى إعـلان رفضها الكامل للتطبيع مع إسرائيل. كما كان من ثمار تلك المقاومـة إيقـاف مـحـاولات "إسرائيل" التغلغل في الثقافة العربية من خلال مشاركتها فـي المعـرض الـسنوي للكتاب.

في خريف 1981، كانت المواجهة بين القوى الوطنية ونظام الرئيس السادات قد بلغت ذروتها، وأخذت شكل "التعبئة" الحاشدة، وكانت القضية المركزية في هذه المواجهة هي قضية التطبيع. خاض النظام مغامرة شاملة وسعّت صفوف كل معارضيه دفعة واحدة، بإجراءات أيلول/ سبتمبر 1981 الشهيرة، التي شملت اعتقال جميع قيادات ورموز التيارات السياسية والفكرية الكبرى في مصر، لكن مغامرة السادات الكبرى فشلت بقتله على يد مجموعة من الشباب حرصت على التأكيد أنّ سياسته تجاه إسرائيل تأتي في مقدمة دوافعها.

لم يكن من الممكن أن يتم الحديث عن التطبيع أو عن إمكانية إقامة علاقات سلمية مع إسرائيل، من غير أن يسبق ذلك تمهيد عميق يشمل تغيراً جذرياً في المعتقدات التي استقرت في ضمير الشعب المصري وفي وجدانه. لم تكن المفاهيم السياسية وحدها هي التي تتعارض مع السياسات الجديدة، بل كانت هناك أيضاً محصلة الوعي الوطني لمفاهيم التحرر الوطني والنضال العادل للشعوب. وقد جرى الانقضاض على هذه المفاهيم والمعتقدات، بأسلوب انقلابي، حيث شملت حملة التشكيك كل شيء في تلك المعتقدات، لإفساح المجال لغرس سواها، ومن ثم كانت أولى مهام النضال ضد التطبيع هي معركة "المفاهيم"، فخاض الكتاب والمثقفون المصريون المعركة بعد الأخرى على هذا الصعيد:

خاضوا معركة الانتماء القومي ومواجهة التشكيك في هوية مصر وانتمائها العربي. مواجهة إعادة صياغة أسس النزاع وتبديلها لتكون مجرد مشكلات نفسية (سيكولوجية). مواجهة تشويه تفسير التاريخ الإسلامي لتشبيـه معاهدة كامب ديفيد بـ "صلح الحديبية"، وتزييف كثير من المفاهيم الدينية اليقينية، لإقامة مجمع الأديان الثلاثة الشهير.

لم تتخلف القوى الوطنية داخل الجهاز الحكومي ذاته عن مقاومة التطبيع، بل لعل واحدة من أهم المبادرات التي نبهت المصريين إلى مخاطر ما يجري جاءت من داخل الجهاز الحكومي نفسه، قبل أن تهبط طائرة السادات في مطار بن غوريون، إذ استقال نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية إسماعيل فهمي، وأعقبه في الاستقالة خليفته محمد رياض وعدد من السفراء والدبوماسيين..

خاض نظام السادات مغامرة شاملة وسعّت صفوف معارضيه دفعة واحدة، بإجراءات أيلول/ سبتمبر 1981 الشهيرة، التي شملت اعتقال جميع قيادات ورموز التيارات السياسية والفكرية الكبرى في مصر. لكن خطة السادات فشلت بقتله على يد مجموعة من الشباب حرصت على التأكيد أنّ سياسته تجاه إسرائيل تأتي في مقدمة دوافعها.

 المفاهيم والمعتقدات لم تكن المعركة الوحيدة التي خاضها المناضلون ضد التطبيع، فقد كان أمامهم كشف "المشروع الصهيوني للسلام" في ظروف التعمية المتعمَّدة من جانب جميع وسائل الإعلام آنذاك، والتصدي لعناصر هذا المشروع بدءاً من مجالات التعاون العلمي، وكذلك مواجهة العناصر المتعاوِنة مع إسرائيل على الساحة الثقافية. كان كشف طبيعة ذلك المشروع واحداً من الإسهامات المهمة التي قام بهـا الكتاب والمثقفون المصريون، فصدرت العشرات من المطبوعات التي تفضح أساليبـه وأهدافه، وتربط بين حلقاته التاريخية والجغرافيـة، وعُقدت مئات الندوات والمحاضرات، وقد أتاح ذلك إضافة مهمة للتثقيف، وللجدل السياسي القائم.

 وكان التصدي لعناصر هذا المشروع هو مادة النضال اليومي ضد التطبيع، حتى أصبحت كل زيارة لكاتب أو أديب أو زائـر إسرائيلي لأي موقع ثقافي معركة بذاتها، فحوصرت مظاهر النشاط الثقافي الإسرائيلي وأجهزته حتى شلت تماماً، وبـدأت بعض مظاهر نضال المثقفين ضد التطبيع تصبح تقليداً مستقراً في نشاطات الحركة الوطنية المصرية. كما جاء كشف العناصر المتعاونة مع إسرائيل بنتائج ملموسة وأصبح هذا التعامل عبئاً على أصحابه، وبذلك أمكن تحجيم هذه الظاهرة إلى أدنى مستوى، حتى كادت أن تنحسر، وصار المتورطون يتنصلون من مواقفهم السابقة.

من أهم اللجان الشعبية المقاومة للتطبيع في هذه المرحلة، "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية"، التي أُنشئت عام 1979 برئاسة الأديبة والناقدة د. لطيفة الزيات، وأمين اللجنة الكاتب حلمي شعراوي. كان من أهداف اللجنة الأساسية "مواجهة السيل الإعلامي المزيف لحقائق التاريخ الذي تعرضت له مصر، لتمرير تطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. كان على اللجنة أن تعمل جاهدة من أجل ترسيخ مناخ مناهض يرتكز على المنطلقات الوطنية والكفاحية للشعب المصري ويجلو الذاكرة الجماعية بتأكيد مسلماتها التاريخية.

ربطت اللجنة في مجمل أدبياتها بين الثقافة الوطنية والمقاومة، وترجمت هذا الربط عملياً من خلال خوض معارك متعددة، كانت القضية الفلسطينية في قلبها، قناعة بأن فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية بقدر ما هي قضية مصرية، ففي تهديد فلسطين تهديد لأمن مصر ومشروع نهضتها. عبرت اللجنة عن شاغلها هذا في بياناتها وأنشطتها ومؤتمراتها المتعددة، ولعل من أشهر المواقف الثقافية للجنة في إطار رفضها للتطبيع الثقافي، ما حدث في كانون الثاني/ يناير 1981 في مواجهة مشاركة إسرائيل في معرض القاهرة الدولي للكتاب. 

أعدت اللجنة بيانها الشهير الذي جاء بعنوان: "لا للصهيونية.. ولا لتمثيل إسرائيل في معرض الكتاب"، الذي حصلت فيه على تأييد عدد من الهيئات والنقابات المهنية وحمل البيان توقيع مئات المثقفين المصريين. وزِّع البيان من قبل أعضاء اللجنة على رواد معرض الكتاب، في مظاهرة ضخمة ضد الجناح الإسرائيلي في المعرض، مما دفع الشرطة للتصدي للمظاهرة من أجل فضها، وإلقاء القبض على عضوين من أعضاء اللجنة هما صلاح عيسى وحلمي شعراوي. نُظّمت نفس الحملة في السنة التالية، ولم تشترك إسرائيل بعد ذلك لمدة عامين في المعرض. حين عادت للمشاركة بعدها، نظمت اللجنة بالاتفاق مع دور النشر العربية والمصرية معرضاً بديلاً لـ "معرض الكتاب" الرسمي في مبنى نقابة المحامين، لاقى إقبالاً جماهيرياً منقطع النظير خاصة من قبل المثقفين والشباب، واستطاع هذا المهرجان البديل التأثير على المعرض السنوي الذي تقيمه هيئة الكتاب.

في 2 نيسان/أبريل 1979 انبثق عن اجتماع سياسي وثقافي كبير تشكيل "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية" كجبهة مستقلة. كان من نتائج نشاط اللجنة اتجاه كافة النقابات المهنية والعمالية والثقافية إلى إعلان رفضها الكامل للتطبيع مع إسرائيل، كما كان من ثمار تلك المقاومـة إيقـاف محاولات "إسرائيل" التغلغل في الثقافة العربية من خلال مشاركتها فـي المعرض السنوي للكتاب.

ربطت "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية" في مجمل أدبياتها بين الثقافة الوطنية والمقاومة، وترجمت هذا الربط عملياً من خلال خوض معارك متعددة، كانت القضية الفلسطينية في قلبها، قناعة بأن فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، بقدر ما هي قضية مصرية، ففي تهديد فلسطين تهديد لأمن مصر ومشروع نهضتها.

في معرض القاهرة الدولي السابع عشر للكتاب (22 كانون الثاني / يناير1985)، التحم الشعب المصري بمثقفيه ودور النشر الوطنية والأحزاب السياسية وهيئات التدريس بجامعات مصر والنقابات الوطنية، فـي مواجهـة الوجـود الإسـرائيلي في المعرض، واستطاع أن يحوّل مساحته لمواجهة حقيقية. تصدت جهات واسعة لهذا الاختراق الصهيوني بالكلمة أو بالمظاهرة أو بالسجن: (أحزاب: العمل ـ التجمع – الوفد – الإخوان المسلمين - الناصـريين – رؤسـاء ونقبـاء وأعـضاء نقابـات الصحفيين - المحامين - اتحاد النقابات الفنية – نقابة التـشكيليين - اتحـاد عمـال التجارة العرب - اتحاد الفلاحين المصريين – جمعيـة أنـصار حقـوق الإنـسان بالإسكندرية – المنظمة العربية لحقوق الإنسان - اللجنة العربية لتخليد القائد جمـال عبد الناصر - المنظمة العربية لمكافحة الاستعمار والدفاع عن السلام، واللجنة القومية لمناصرة شعب فلسطين ولبنان - اللجنة المصرية للدفاع عن الحريات ــ لجنة الـدفاع عن الثقافة القومية ـ وبعض أعضاء مجلس الشعب ومجالس النقابات المهنية والعمالية ومجالس إدارات نوادي هيئات التدريس واتحادات الطلاب وعـدد مـن الـصحافيين والكتاب والأدباء والفنانين والناشرين).

 يمكن بالتالي القول إن الشعب المصري بمعظم فئاته كان رافضاً لهذا الاختراق. ينبغي أن نتذكر هنا أيضاً أن النقابات المهنية، وفي مقدمتها نقابة الصحافيين، أصدرت في تلك الفترة قرارات حاسمة - لا تزال سارية حتى اليـوم - بـرفض وتحريم كافة أشكال التطبيع المهني والثقافي مع إسرائيل. نتيجة لتضافر هذه الجهود، أمكن إيقاف تمثيل إسرائيل في معرض الكتاب نهائياً، وانهزم وجه من وجوه التطبيع الثقافي الضخم الذي حرصت عليه إسرائيل أشد الحرص.

لم تشترك إسرائيل بعد حملة كانون الثاني/ يناير 1981، ولمدة عامين، في معرض الكتاب في القاهرة. وحين عادت للمشاركة، نظّمت اللجنة بالاتفاق مع دور النشر العربية والمصرية معرضاً بديلاً في مبنى نقابة المحامين، لاقى إقبالاً جماهيرياً هائلاً، خاصة من المثقفين والشباب. ونتيجة لتضافر هذه الجهود، أمكن إيقاف تمثيل إسرائيل في معرض الكتاب نهائياً، وانهزم وجه ضخم من وجوه التطبيع الثقافي.

وكانت تلك السنوات بدايات أسست لموقف جماعي عارم ظهر بجلاء خلال انتفاضة "يناير2011". ولعل في ذلك ما يفسر - من بين أسباب ودوافع أخرى – "الحرب" على تلك الانتفاضة ومعانيها، وهي حرب مستمرة بشراسة غير مسبوقة حتى اليوم. 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.