الصرف غير الصحّي يهدّد بصيف أصفر: 62 من أصل 67 محطة تكرير معطّلة بالكامل

وكان لبنان، نتيجة ضغط دول البحر المتوسط للمحافظة على بيئة الحوض الذي تتشاركه معنا، قد وضع خطة للصرف الصحّي من مدّ شبكات جرّ ومحطات رفع وأخرى للتكرير على مدى ثلاثين عامًا مستفيدًا من تسهيل حصوله على قروض ومنح يبدو أنّها لم تصل إلى المبتغى منها.
2023-05-04

شارك
قناة "الري" غير الصالحة للاستعمال والتي تغذّي وحدات سكنية عديدة في عكار- تصوير سعدى علوه

يبلغ الرقم التراكمي للإصابات بالكوليرا في لبنان في 1 أيار 2023، بحسب أرقام ترصد وباء كوليرا في لبنان الصادرة عن وزارة الصحة والمحتسب منذ بداية تشرين الأول 2022، 7567 حالة مشتبه بها ومثبتة، كونه لا يمكن إجراء تحاليل لكل الحالات التي تعاني عوارض كوليرا.

صحيح أنّ الرقم ليس كارثيًا ولكن إذا ربطنا عدد الإصابات الحالية بالبيئة الحاضنة لاستفحال الكوليرا، لا يمكننا إلّا أن نتخوّف من موجة جديدة للوباء مع بدء فصل الصيف مع توقف غالبية محطات تكرير مياه الصرف الصحي في لبنان كليًا أو جزئيًا، فضلًا عن اقتصار عمل عدد منها على إزالة الشوائب الصلبة من المياه المبتذلة فقط. وعليه، فإنّ نحو 350 مليون متر مكعب من مياه المجارير تذهب سنويًا إلى مجاري الأنهار والأودية والآبار ذات القعر المفقود وقرب الينابيع وشواطئ البحر، وتؤدي إلى تلويث المياه. هذه المعطيات تثبتها النتائج الكارثية لآخر دراسات مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية في تل عمارة. ويؤكّد المدير العام للمصلحة د. ميشال أفرام لـ “المفكرة القانونية” أنّ مياه لبنان كلّها ملوّثة، مستندًا إلى تحليل المصلحة لآلاف العيّنات من ارتفاع 1800 متر عن سطح البحر (نبع بشرّي) نزولًا إلى مياه الشاطئ اللبناني، وجُمعت من الينابيع والسواقي والأنهار والشواطئ وصنابير المنازل والمستشفيات والمدارس: “كلّه ملوّث، حتى المياه المستعملة في بعض غرف العمليات الطبية” كما يؤكد د. أفرام.

وقبل الغوص في تفاصيل حال معالجة الصرف الصحي ونوعية مياه الشفة والاستخدام، من المفيد الإشارة إلى ما قالته رئيسة الفريق التقني في منظمة الصحة العالمية د.ة أليسار راضي لـ “المفكرة” بأنّ “المنظمة ما زالت تصنّف لبنان في خانة الخطر الشديد (High Risk) بالنسبة لوباء الكوليرا”، مشيرة إلى وضع خطة بالتعاون مع وزارة الصحة اللبنانية والمنظمات الشريكة للاستجابة للتخوّف من موجة ثانية من الكوليرا خلال الصيف المقبل. وتعزو د.ة راضي اعتبار لبنان في خانة الخطر العالي، والتخوّف من موجة ثانية لسببين تختصرهما بـ “عدم معالجة مياه الصرف الصحي بالشكل الذي يجب أن تُعالج فيه، وباستمرار انتشار وباء الكوليرا في البلدان المحيطة بلبنان خصوصًا أن الكوليرا تنتقل عبر المياه والأشخاص والطعام”.

وكان لبنان، نتيجة ضغط دول البحر المتوسط للمحافظة على بيئة الحوض الذي تتشاركه معنا، قد وضع خطة للصرف الصحّي من مدّ شبكات جرّ ومحطات رفع وأخرى للتكرير على مدى ثلاثين عامًا مستفيدًا من تسهيل حصوله على قروض ومنح يبدو أنّها لم تصل إلى المبتغى منها. فالسبب الأوّل لتلوّث المياه في لبنان يرتبط بالمجارير، من دون التقليل من أهمية التلوّث الصناعي الذي تبقى نسبته أقل من حيث الكمية بفعل تراجع الصناعة، وإن كان أكثر خطورة. فكم من الأموال دفع لبنان واستدان، وما هي نتيجتها اليوم؟

محطات “فالج ولا تعالج”

كشفت مبادرة غربال في تقرير خاص بالأموال التي صُرفت على مشاريع الصرف الصحي في لبنان أنّ قيمة عقود الصرف الصحي التي أجراها مجلس الإنماء والإعمار خلال 20 عامًا (2001-2020) بلغت 763.3 مليون دولار. كذلك تبلغ قيمة القروض والمنح التي خصّصت لمشاريع الصرف الصحي 1.5 مليار دولار. وتؤكّد “غربال” أنّ الأرقام المنشورة لا تلحظ معطيات الوزارتين عن تكاليف الصرف الصحي والأموال التي وصلتْهما.

ولكن تبيّن جولة “المفكرة” على مؤسسات الدولة المعنية بالمياه ومحطات التكرير أنّه من بين 67 محطة تكرير ورفع (ضخ مياه الصرف إلى محطة تكرير) في الجنوب والبقاع وبيروت وجبل لبنان ولبنان الشمالي وعكار ضمنًا، هناك نحو 5 محطات فقط تعمل. وفي حين أنّ محطة تكرير زحلة هي الوحيدة التي تعمل بكامل طاقتها، فهي لا تعالج الحمأة (البراز) وهي النفايات الصلبة المتبقية من مياه المجارير والتي يتمّ تجميعها في برك مكشوفة بالقرب من المحطة.

ويؤكد خالد عبيد، مدير عام مؤسسة مياه لبنان الشمالي لـ “المفكرة” أنّ المحطات الخمس في المنطقة متوقفة عن العمل، بعضها منذ نحو عام وبعضها الآخر منذ أشهر عدة بسبب الأزمة وعدم تأمين المال اللازم للصيانة والتشغيل. وحدها محطة طرابلس تعمل بشكل جزئي، وهي أكبر محطة تكرير من حيث القدرة الاستيعابية والأهم بالنسبة لتقنيات المعالجة والتكرير في كل لبنان بقدرة استيعابية تصل إلى 130 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي في اليوم، أي أنّها معدّة لتخدم تكرير مياه نحو مليون مكافئ سكني (بين منزل ومؤسسة ومدرسة ومستشفى وغيرهم). وتعمل المحطة بشكل جزئي لأنها تستقبل نحو 20 ألف متر مكعب يوميًا، وهو جزء صغير من شبكات الفيحاء ولا يسمح بتشغيلها كما يجب، إذ تحتاج وفق معداتها وتقنية عملها إلى 60 ألف متر مكعب من المياه المبتذلة للعمل. ولم يتم وصل خطوط الجر للمحطة من الكورة والضنية وزغرتا ونهر البارد في عكار، ولا حتى كلّ طرابلس ومعها الميناء. وقد بلغت كلفة هذه المحطة 200 مليون دولار. ولم تستلم مؤسسة مياه الشمال أيًا من هذه المحطات، بل ما زالت بإدارة الجهات التي بنتها وجهزتها.

وتوثق مصلحة نهر الليطاني في تقرير عن 23 محطة تكرير في حوض الليطاني الأعلى (من بعلبك إلى القرعون) وحوض الليطاني الأسفل (من يحمر إلى القاسمية في صور-جنوب لبنان)، أنّ 18 محطة إما متوقفة عن العمل أو ما زالت قيد الإنجاز أو لم يتم تأمين التمويل لاستكمالها.

وإذ يؤكد الخبير في مؤسسة مياه البقاع خليل عازار لـ “المفكرة” أنّ محطة زحلة تعمل بكامل طاقتها وترمي المياه المعالجة في نهر الليطاني بعد تكريرها، يوضح أنّ مال التشغيل متوفّر من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ويرفع عازار الصوت بخصوص محطة جب جنين التي تؤمّن “اليونيسف” المازوت لتشغيلها، ومع ذلك تحتاج من 500 إلى 600 مليون ليرة شهريًا، و”إلّا هي مهدّدة بالتوقف في غضون شهر من اليوم في حال عدم تأمين التمويل، ومؤسسة مياه البقاع ليس لديها المال لتشغيلها”.

أما بالنسبة لـ 39 محطة تكرير ورفع في محافظتي بيروت وجبل لبنان، فيؤكد الخبير التقني في مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان أنطوان الزغبي لـ “المفكرة” أنّ المحطات الـ 39 متوقفة عن العمل بما فيها محطة الغدير، وذلك بسبب الأزمة الحالية، وزوّدت المؤسسة “المفكرة” بجدول عن هذه المحطات ووظائفها.

يشار إلى أنّ النائبة حليمة القعقور تقدّمت بعريضة إلى مجلس النوّاب لتأليف لجنة تحقيق برلمانية بشأن 1.2 مليار دولار من القروض بُددت من دون حلّ أزمة الصرف الصحي ومحطات تكرير المياه في لبنان. وتشير القعقور لـ “المفكرة” إلى أنّها جمعت 25 توقيعًا على عريضة من نواب ونائبات، ولكن رئيس المجلس نبيه بري لم يردّ عليها لغاية اليوم.

كلّ مياه لبنان ملوّثة وتحذيرات من صيف “أصفر”

لا يمكن فصل مياه الصرف الصحي والتقصير في معالجتها عن سلامة المياه في لبنان وتأمين حق سكانه في مياه نظيفة سواء للشفة أو للاستخدام. وإثر تحديث مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية في تلّ عمارة لتقريرها عن حال المياه والآبار والأنهار والينابيع في لبنان، يؤكد رئيس مجلس إدارة المصلحة ومديرها العام د. ميشال أفرام لـ “المفكرة” أنّه من ارتفاع 1800 متر عن سطح البحر (نبع بشري) إلى البحر، أكدت النتائج أنّ 90% من المياه ملوّثة. ويتركز التلوّث على نوعين: “جرثومي ناتج عن مياه المجارير، والذي يتسبب في انتشار فيروس الكبد الوبائي (Hepatitis A)”، ويأسف لأنه “حتى المياه المستخدمة في بعض غرف العمليات ملوّثة، وأنّ مياه 60% من المدارس، وبينها التي يشربها التلامذة ملوثة جرثوميًا وكيميائيًا”.

ويشير إلى أنّنا في لبنان نستعمل مياه المجارير لريّ المزروعات، “وفق ما أثبتته العينات التي أخذناها من المزروعات وفيها معادن ثقيلة، وهي النوع الثاني من التلوّث، مثل الزئبق والرصاص، وهي مواد مسرطنة” والتلوث المرصود “جهازي في قلب النبتة”، وفق د. أفرام. و”تتراكم هذه المواد مع الوقت في الكبد أو الكلى وتتسبّب بمرض السرطان، لذلك نجد نسب الإصابة به مرتفعة وخصوصًا في حوض نهر الليطاني الذي يعاني من تلوّث شديد”.

ويأسف د. أفرام لرد فعل المسؤولين “عمّمنا هذه النتائج على جميع المسؤولين وطالبنا بحالة طوارئ بيئية، وقد أودعته رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب والوزراء والنواب ورؤساء الأحزاب وزرت كل هؤلاء وشرحت لهم الوضع كاملًا، ولم يحصل شيء”. ويؤكد أنّ “الأزمة تسبّبت بزيادة التلوّث لأنّ الرقابة معدومة نهائيًا وصار المواطنون يرمون نفاياتهم في كل مكان، والمستشفيات ترمي نفاياتها في الأنهر والبحر والأودية. غطسنا مثلًا في بحر صيدا وصورنا كمية الأمصال والأدوية الطبية المرمية في البحر”. ويتحدث عن بلدة إيعات، قرب بعلبك، على سبيل المثال لا الحصر، “حفروا بئرًا للبلدة على عمق 500 متر ووجدوها ملوّثة بالمجارير”.

من مثل إيعات ينطلق د. أفرام ليؤكد أنّ “هناك آلاف الآبار المعروفة بذات القعر المفقود، حتى لو فيها مياه يقومون بتسليط مياه الصرف الصحي إليها، وهناك أبنية كاملة تحفر آبارًا لتسلط مجاريرها إليها وتتخلّص من المياه الآسنة”.

ويؤكد أنّه “أينما يوجد نهر نجد تربة ملوثة. سهل عكار كله ملوث أيضًا وليس البقاع فقط، فأنهار شدرا والأسطوان والنهر الجنوبي الكبير ملوثة أيضًا، ومعها نهر الكلب والأوّلي ونهر إبراهيم ملوّثة كلّها بالمجارير والأسمدة أيضًا”.

ويلخّص د. أفرام استنتاجاته بالقول: “ربما تخرج المياه معقّمة من مؤسسات مياه الدولة ولكن نسبة الهدر تفوق 80% بسبب اهتراء خطوط الجر، ومياه المجارير تختلط مع المياه”.

ويحمد الله “لأنّ موجة الكوليرا حلت في أوائل الشتاء “وإلّا كانت الكوليرا اجتاحت كلّ لبنان مع ارتفاع الحرارة، وهذا ما نخافه مع اقتراب الصيف”، ليختم “نحتاج إلى إعلان حالة طوارئ بيئية ومائية، وإلّا نحن ذاهبون إلى الأسوأ”.

تؤكد رئيسة الفريق التقني في منظمة الصحة العالمية الدكتورة أليسار راضي بدورها أنّ المنظمة تعتبر لبنان ما زال في دائرة الخطر الشديد العالي، وتشير إلى أنّ “بؤر الانتشار هي التي تفتقر إلى بنى تحتية، كالمناطق ذات الأبنية غير المرخّصة أو التجمّعات السكنية في الخيم أو المؤقتة حيث يكون نظام الإصحاح فيها والمياه المبتذلة المستعملة للزرع هي أعلى خطورة من المناطق الأخرى”.

وحول سلامة الغذاء في ظلّ تلوث المياه وعدم معالجة الصرف الصحي، تقول د. راضي إنّ “وضع كلّ ما له علاقة بالمياه خطر، وخصوصًا إذا لم تتم المعالجة بكميات كافية من الكلور، وإذا كانت المياه تصل إلى البيوت ملوّثة، فأكيد سلامة الغذاء على المحك”.

مقالات ذات صلة

وبالنسبة لعدم معالجة الصرف الصحي، تؤكد الدكتورة عاتقة بري، المعنية بملف الكوليرا في وزارة الصحة على أنّ “وزارة الصحّة شددت على هذا الموضوع أكثر من مرة، وطلبت من كل جهة تحمُّل مسؤوليتها”، وأنّ وزير الصحة ومنذ بداية الفاشية، شكلّ لجنة علمية تضم جميع المعنيين من وزارات ومنظمات دولية لا سيما تلك التي تعنى بشؤون النازحين من أجل تحديد المسؤوليات وتنسيق ومتابعة جهود الاستجابة للمرض ومكافحته من كل الجهات المعنية. وتؤكد أنّه “لا شك أنّ الظروف التي يمرّ بها لبنان ظروف استثنائية وهي تنعكس سلبًا على جميع القطاعات بما فيها سلامة الأغذية”.

مقالات من العالم العربي

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...