"بيت المرضى".. ومشافي حلب

ارتبط التأريخ للمشفى بموضوعتين أساسيتين: تاريخ الطب ــ وهو بحقيقته الذي تعرضه كتب التاريخ العربي، ليس أكثر من تاريخ الأطباء العاملين في بلاطات الخلفاء والسلاطين والأمراء ــ وتاريخ الخطاب الطبي، كتعليق وإضافات على هوامش الكتب الطبية الإغريقية التي نُقلت إلى العربية في المرحلة الذهبية من العصر العباسي، وسترفدها بعد زمن إضافات نوعية أتتها من أطراف النسق الطبي  المتمركز حول بلاط بغداد، وكان لابن سينا والرازي مساهمة كبرى بها.
2016-07-26

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
البيمارستان الأرغوني - حلب

ارتبط التأريخ للمشفى بموضوعتين أساسيتين: تاريخ الطب ــ وهو بحقيقته الذي تعرضه كتب التاريخ العربي، ليس أكثر من تاريخ الأطباء العاملين في بلاطات الخلفاء والسلاطين والأمراء ــ وتاريخ الخطاب الطبي، كتعليق وإضافات على هوامش الكتب الطبية الإغريقية التي نُقلت إلى العربية في المرحلة الذهبية من العصر العباسي، وسترفدها بعد زمن إضافات نوعية أتتها من أطراف النسق الطبي  المتمركز حول بلاط بغداد، وكان لابن سينا والرازي مساهمة كبرى بها.
تمركز الخطاب الطبي على تعيين المرض والانتقال لتحديد الدواء، فضلاً عن الأوامر والنواهي الطبية، من ضرورة إقبال على أطعمة وإدبار عن أخرى، بافتراض أن المعدة بيت الداء، والامتناع عن الاستضافة العشوائية للأطعمة (وفق نظام الحمية) خير من أي دواء. اعتمد التوثيق لتاريخ المشافي (البيمارستان، من اللغة الفارسية ومعناها بيت المرضى) على عنصرين آخرين: الخطاب الطبي الذي أنتجته النخبة الطبية للسلطة الحاكمة، والخطاب المعماري، أي البيمارستان كقيمة معمارية/ جمالية. وهما القراءتان المهيمنتان في معظم الكتابات التي أنتجتهما الأيديولوجية العربية المسيطرة. انبثق عنهما ــ وهو كذلك دافعهما غير المعلن ــ تقريظ أنظمة الحكم لاهتمامها بالمرضى والمجانين والمجذومين والبرص، وتقريظ العمارة بوصفها تخليداً لرموز السلطة. ولا يخفى أنه يُمدح أيضاً القيمون على إنشائها ورعايتها، الذين وفروا الإسناد المالي لاستمرارها عبر إلحاق العديد من الوقفيات بها، والتي يصرف عليها من عوائدهم.
امتدح الخطاب الطبي السلطوي مؤسساته، عظّم دورها الطبي/ العلمي، وبقي عاجزاً عن منع ما يتسلل من بين السطور من تلازمها مع المرتكزين الأخلاقي والديني، أي الربط المحكم بين ثالوث الطب ــ الأخلاق ــ الدين. وتحتاج هذه الحزمة من العناصر المتداخلة إلى براهين، فالإيمان والأخلاق (العائدة بدورها إلى الإيمان، وكأن هناك غياب للأخلاق كمجموعة من النواظم السلوكية والتربوية عن المجتمعات قبل الأديان التوحيدية)، أو الدين الذي يُنظر من خلاله لحركة المجتمعات وعلومها آدابها وعمارتها وأخلاقها..، فضلاً عما يمكن إدراجه تحت صيغة العلموية/ الرعائية للطب والأطباء والصيادلة، تتجاور كلها مع احتكار الخطاب الطبي السلطوي للتعريف الرسمي للمرض والصحة، العقل والجنون، النافع والضار..
يُغفل المؤرخون العرب أنَّ من أشرف على بناء ورعاية البيمارستانات المنتشرة في البلدان العربية، هم من أكبر القادة العسكريين في الجيش المملوكي، وأن بناء البيمارستان المنصوري في القاهرة تطلب جيشاً من العمال، منعوا من العمل لغير السلطان، وسُخِّر أهل القاهرة لنقل أحجار البناء حتى تظلموا وتذمروا، واعتبر بعضهم في عمل السلطان قلاوون نوعاً من الجبروت. نُفّذ هذا البيمارستان في فترة زمنية قصيرة لم تتجاوز 14 شهراً، مما يقربه من الصروح ذات القيمة السياسية قبل أن يكون صرحاً طبياً.
دفع هذا لتشكيل خطاب شعبي مضاد، شكك في القدرات الاحتكارية/ الوصائية للخطاب الأول، حين يوجِّه المجنون للعاقل حزمة من الأسئلة التي يصعب الإجابة عنها.. رغم ذلك بقي الخطاب الشعبي المضاد، (وهو غير محقّ في كثير من الأحيان رغم آلامه ومعاناته من احتكاريّة وصلف الخطاب السلطوي)، أسير العجز عن إنتاج بدائل عما لا يقبله ويرفضه.. ودفعه ذلك لتسليم أمر شفاءه للغيب (الحجابات، التعاويذ، التمائم..).
فهل المشفى مؤسسة تطوّرت عبر تاريخها الذاتي، أي هل للمشفى تاريخ ضارب في القدم، أم هو مؤسسة حديثة، فرضتها مجموعة من التطورات الاجتماعية والسياسية والعسكرية؟

 

بيمارستان في حلب

 

 

كأن سلطات لا تمرض ولا تشيخ ولا تنخلع عظامها.. ولا تنخر أو تتخلخل أضراسها وهي تأكل شعوبها، والشعوب المغلوبة التي وقعت تحت سنابك خيولها. لا شك أن الجماعة الحاكمة لم تدّخر جهداً لتوفر رعاية طبية لذاتها، تسهر على صحتها وطعامها وشرابها ورفاهيتها، مما يدفع لاستنتاج أن الخدمات الطبية لم تبارح موقع الجماعة الامتيازية، ولم تتحول إلى خدمات عمومية إلا في حقب متأخرة من عمر المجتمعات الطبقية.. بسبب الخوف من عدوى الأمراض، وتفكّك عمارة القرون الوسطى المبنية على الأسوار العالية والحصون المعزولة، والتفطّن لحاجات هذا المجموع البشري الذي بات يطلق عليه اسم "الشعب"، لا بغاية مديحه بل لتمييزه عن الأرستقراطية الآفلة والبورجوازية الوليدة.

***

 

ما الذي حال دون بناء السلطة العثمانية، في فترة حكم امتدت لأربعمئة عام (1516-1919)، لمشفى في ولاية كبرى مثل حلب (تمتد من شواطئ البحر البيض المتوسط غرباً إلى تخوم البادية شرقاً ومن حماه جنوباً إلى عينتاب شمالاً). لم تحفّزها أكثر من عشر جائحات للطاعون، وعشر جائحات أخرى للتيفوس، ومجموعة من الأمراض المحلية المستوطِنة في البيئة المائية والزراعية والمحيط الطبيعي.. في حين سُجِّل للمماليك، الذين تمتد فترة حكمهم إلى ثلاثمئة عام سبقت الحكم العثماني مباشرة، تشييد بيمارستانين (البيمارستان النوري الذي أنشاه الملك العادل نور الدين الزنكي، والبيمارستان الكاملي الذي أنشأه الأمير أرغون الكاملي)، مجموع إمكاناتهما الاستيعابية لا تتجاوز 80 مريضاً، في مدينة (غير أريافها) قارب عدد سكانها ثمانون ألف نسمة. وتحولت البيمارستانات في فترة الحكم العثماني إلى دور سكن للفقراء ومأوى للمعتوهين والعاطلين عن العمل، بالتزامن مع طب الحلاقين والمنجمين والعطارين وكتبة الطلاسم وباعة التعاويذ.
بُني أول مشفى في المدينة أثناء حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام (1832-1840)، في مكان مرتفع في الجهة الشرقية منها، وأطل على تكيّة الشيخ أبو بكر الوفائي. نقلت أغلب حجارته من الأبنية التي هدمها زلزال 1822، ومن سفح قلعة حلب. وهو مشفى خاص بجنود وضباط الحملة العسكرية. وعمل فيه الأطباء كلود بيك الفرنسي الذي له دور كبير في تأسيس التعليم الطبي الحديث والمؤسسات الطبية الحديثة في مصر، والطبيب كورنيليوس فان ديك الأمريكي، والطبيب ميخائيل مشاقة اللبناني، والطبيب محمد علي المصري، وجميعهم من الأطباء الذين رافقوا الحملة العسكرية. جرى توسيعه من قبل الألمان، إبان الحرب العالمية الأولى، فعملوا على بناء غرف وقاعات، حتى أصبح من أضخم المشافي في سوريا، وبقي مخصصاً للجيش، وأطلق عليه اسم المشفى العسكري.
انطلقت عام 1891، بعد نصف قرن من إنشاء المشفى العسكري، فكرة بناء مشفى لغير العسكريين، يؤوي الغرباء والفقراء، حيث  لم يألف الناس التخلي عن مرضاهم من أهلهم وأقربائهم، إذ عُدّ هذا نوعاً من العقوق والنكران. لذا احتفظوا بمريضهم في بيته وفوق سريره، وكان من واجب جميع أفراد الأسرة العناية به ورعايته وخدمته، وتأمين الطبيب المعالج ليأتي إلى البيت. ولكن يبقى في المدن الكبرى من لا يملكون روابط أسرية، من الفقراء والغرباء.. ومنهم حمل المشفى اسمه: مشفى الغرباء الحميدي، نسبة للسلطان عبد الحميد الثاني.
بوشر بجمع التبرعات والإعانات والأموال من أهالي حلب لبنائه. يقع إلى الجهة الغربية من القلعة، واستخدمت الأحجار المهدمة منها لبنائه. توقفت بعدها أعمال البناء لعدم توفر الإمكانات المادية، وأعيد في عام 1896 تشكيل لجنة لاستكمال التعمير، وجمعت الأموال من المتبرعين مرة أخرى. انتهت عمليات البناء عام 1897. وتأسس المشفى الحكومي الثالث، "الرازي"، الواقع في حي السبيل، في أواخر العشرينات من القرن الفائت، في فترة الانتداب الفرنسي، وخصص لأمراض العين، واستمر على ذلك حتى عام 1938، حين تم تحويله ليضم قسماً للإسعاف وأمراض النساء والتوليد وأمراض الأطفال والأمراض الباطنة والجراحة.
تزامن بناء المشفيين الأخيرين مع منح تراخيص لبناء عدد من المشافي غير الحكومية، أوّلهم مشفى الطبيب الجراح آرام آسادور آلتونيان الذي انتهى بنائه في 1911 في حي العزيزية، وكان له مشفى في حي العقبة عمل فيه ما بين 1889 ــ 1911. أعقبه مشفى القديس لويس التابع لراهبات مار يوسف الظهور، في حي الإسماعيلية، الذي وضع حجر أساسه في عام 1904 وأنجز بناؤه في 1914، وشُغل بين عامي 1914-1918 من قبل الجيشين العثماني والألماني، وافتتح رسمياً في عام 1920. ومشفى الطبيب الجراح نافع السباعي (1920) في محلة باب الفرج. والمشفى الإيطالي (1927) في حي العزيزية للطبيب الجراح الإيطالي الجنسية، جواني باتيستا ريناودي الذي قام قبل ذلك بالعمليات الجراحية في عيادته الخاصة الواقعة في زقاق السيسي في محلة الصليبة. وبمبادرة من رئيس هيئة الصليب الأحمر الأرمني عام 1931، الطبيب خاجيك بوغوصيان، طُلب العون المادي من السيد بادريك كولبنكيان رئيس مؤسسة كولبنكيان، الذي استجاب لإنشاء المشفى المفتتح في عام 1935 في حي الميدان، وأطلق عليه اسم زوجته فيرجين كولبنكيان.
تزامن بناء المشافي مع مبادرات لنقل الطب من عهدة الحلاقين والختانين والحجامين إلى حقل ممارسة أكاديمية استوجبت تخصيص سنوات للدراسة والتعلم وفق مناهج حديثة مضبوطة، تُحررها من احتكارية نقلها مع الميراث العائلي النقدي والعيني، كما كان يجري مع أهل المهنة الذي يورِّثون خبراتها وما يخالونه خفاياها وأسرارها إلى أولادهم. فجرى الترخيص لمجموعة من الكليات الطبية، أولها "طُبْخانة والجِراحْخانة" (دار الطب والجراحة) 1827 في سراي طولومباشي في اسطنبول. ونقلت الجراحة إلى سراي بروني في 1831، وأشرف عليها الجراح الفرنسي دوكالير، وهما أقرب إلى مشافي تعليمية.  وتبعتهما كلية الطب الأمريكية في بيروت 1866، وكلية الطب الأمريكية في عينتاب 1875 (عملت السلطة العثمانية على إغلاقها بعد بضعة سنوات، دون توضيح أسباب ذلك)، وكلية الطب الفرنسية في بيروت 1883، وكلية الطب في دمشق 1903...

مقالات من حلب

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..