فى مديرية أمن الإسكندرية، مساء يوم 2 كانون الأوّل/ ديسمبر 2013، قضيت ليلة السجن الأولى. لفت انتباهى زميل أقدم منّي بليالٍ قليلة. إنّه العريس محمد سعيد، الذي كان يحاول استيعاب فكرة اعتقاله. بدا واضحاً لي أنه ليس إخوانياً ولا مسيساً. كان أول سلفي "عاشق" ألقاه فى حياتي. كان قد تزوج قبل ثلاثة أشهر. عرفت أن زوجته حامل، وكان مولهاً بها، يكاد ينهار لابتعاده عنها.
المفارقة أن محمد كان متهماً باتهامات مرعبة: قتل، شروع في قتل، إتلاف، حرق، بلطجة..، وذلك في مظاهرات الإسكندرية احتجاجاً على فض اعتصام رابعة، 14 آب/ أغسطس. لم يجد محمد تفسيراً لاعتقاله من بيته بسبب تلك المظاهرات، حيث كان هو وقتها يحتفل وعروسه بليلة الحنة، والاستعداد لزفافهما في اليوم التالي. وشهد أمام المحكمة بتفاصيل ذلك عدة شهود من أهالي المنطقة، وقدم دفاعه شهادة من جهة عمله بأنه كان فى إجازة زفافه.
من بين زملاء سجن كثيرين، لاحظت تعلق محمد بزوجته الحامل بطفلته، التى ولدت وستكبر بينما ينفذ هو حكماً "خفيفاً بالنسبة لهذه القضية" مدته 15 عاما. كنت أعلم أن محمد مظلوم. بعد خروجي من السجن، صدر الحكم في القضية، وفكرتُ في هؤلاء المحكومين الذين لا يكاد يعرفهم أحد. فكرت كثيراً في محمد وزوجته وطفلته، وعكفت على دراسة جلسات محاكمته، الواقعة فى مئات الصفحات (القضية رقم 20091 لعام 2013 باب شرقي)، لأعرف كيف يُسجن البشر في مصر.
بدايةً، قُتل في أحداث 14 آب/ أغسطس بالإسكندرية ناس من المتظاهرين ومن المارة ومن الشرطة، ومواطنون "شرفاء" (بعض شهود الإثبات أدلوا بانضمامهم لقوات الشرطة لفض المظاهرات، كما أوضحت النيابة ذلك في مرافعتها). فأمّا القتلى من أنصار مرسى (16 قتيلا)، فتقدم ذووهم ببلاغات للنيابة، ففصلتها لتحقق فيها مستقلة، لكنها حفظتها. وأمّا قتلى الشرطة والمواطنون والمارة، ممن اتهم ذووهم الإخوان بقتلهم (13 قتيلا)، فأحالتها النيابة لمحكمة الجنايات فحُكم فيها على المتهمين سالفي الذكر. وقد اعتُقل بعضهم فى اليوم ذاته، أو بعده، على فترات امتدت إلى آذار/ مارس 2014.
وقد استغرق سماع شهود الإثبات والنفي، ومناقشتهم، أكثر جلسات المحاكمة، باستثناءات قليلة كجلسات استعراض تقرير الطب الشرعى مثلاً.
سقط قتلى من الطرفين، لكن هل هؤلاء السجناء هم مقترفو الجريمة؟ هذه القضية (كنموذج للقضايا السياسية التى لا تحتوي على مشاهير) تراوحتْ أحكامها بين الإعدام لثلاثة متهمين، والمؤبد لـ 25 متهماً، و15 سنة لـ 21 متهماً، و10 سنوات لـ 22 متهماً. فهل يستحقون ذلك؟
ولأنّ القضية معقدة، كثيرة التفاصيل، فأتناولها عبر محاور عامة، كاشفة لجوانب منها. وسأكتفي من أقوال الشهود بنماذج لأنها أكثر من أن تُذكر كلها هنا.
شعار رابعة
فى 17 آب/ أغسطس 2013، رفع الرئيس التركي أردوغان شعار رابعة بيده أمام أنصاره، فبدأ ينتشر ويتصدر المظاهرات. قبل ذلك اليوم، لم يكن الشعار معروفاً، لكن شهود الإثبات شهدوا بأن المتظاهرين كانوا يرفعون شعار رابعة بأكفهم، في مظاهرات يوم الفضّ نفسه.
مثلاً، شهد أمين شرطة بمكتبة الإسكندرية، وهو من مصابي الأحداث، بأن المتظاهرين كانوا يرفعون علامات رابعة. أيضا شهد آخر بأنه شارك مع الشرطة فى فض مظاهرات أنصار مرسي، ووصفهم بأنهم كانوا "بذقون" ويرفعون شعار رابعة. وأضاف بائع متجول شارحاً: "علامة شبه أربعة كده". كما شهد آخر: "وكان فيه ضرب نار من جماعة ماسكين علامة رابعة، وكانوا ماسكين يافطة صفراء عليها علامة رابعة". كرر ذلك شهود آخرون. الأكثر غرابة أنّ الدفاع نبه فى مرافعته إلى أنّ الشعار لم يكن موجوداً في ذلك اليوم.
حرق الترام
شهد بحرق الترام معاون مباحث قسم باب شرق، فواجهه دفاع المتهمين بإفادة هيئة ترام الإسكندرية بعدم حدوث تلفيات للترام خلال ذلك اليوم، فأصر الضابط على أنه رأى بنفسه اعتداءهم على الترام بالمولوتوف والحجارة وعلى "تراميات" كثيرة أخرى! كما شهد موظف علاقات عامة بالمعاش، بأن أنصار مرسي كانوا يهربون بقضبان الترام، مضيفا أنه رآهم يأخذون البنزين من العربيات ويصنعون منه المولوتوف ويضربون به السيارات (لماذا لم يحرقوها والبنزين داخلها؟). شهد بحرق الترام أيضاً ضابط أمن وطني كما أكدتْه مرافعة النيابة، رغم تأكيد الدفاع على الإفادة الرسمية.
حرق المجلس المحلي
شهد ضابط بأن المتظاهرين أحرقوا المجلس المحلي، فواجهه دفاع المتهمين بأن المجلس المحلي قد سبق أن أُحرق تماما قبل الواقعة بشهور، فأجاب الضابط: "يُسأل فى ذلك مباحث العطارين"! وشهد عدد من شهود الإثبات بذلك أيضاً، منهم مثلا أحد ضابطي الأمن الوطني سالفي الذكر، وكذلك مواطن أضاف بعض التفاصيل "حرقوه وأخدوا اللي فيه ورموا حاجات من فوق".
التسليح والتدريب والتنظيم
أجمع شهود الإثبات من الشرطة والمواطنين أن تسليح قوات الشرطة اقتصر على الغاز وطلقات الصوت (رغم أن النيابة لم تنكر وجود قتلى فى صفوف المتظاهرين)، بينما أفاض شهود الإثبات فى وصف أسلحة المتظاهرين النارية والآلية والبيضاء، مثلما في وصف التنظيم الدقيق لتحركات المتظاهرين باعتبارهم نوعاً من المليشيات المسلحة. ضابط وصفهم بأنهم "مجموعة قتالية، كأنهم مدربين تدريب كامل وملثّمين"، رغم أن صوراً ومقاطع فيديو كثيرة تظهر أن الملثمين كانوا قلة، وشهد شهود الإثبات أن حالة الكر والفر كانت تتغير لحظياً وتنتقل من مكان لمكان. وزاد الضابط بأن المجموعة المسلحة من المتظاهرين كانت تغطيها مجموعات أخرى بالطوب من خلال حوار متبادل بينهم للوصول لأهدافهم.
شهد أيضاً عاطل عن العمل بأن "الحريم يحملون الأسلحة ويناولوها للرجالة". وزاد شاهد آخر "كانوا يستخدمون الحريم دروعاً بشرية". كما أضاف بائع متجول: "ولا حد منهم اتصاب، والملثم كان ماسك سلاح آلي وبيضرب رايح جاي في الأهالي والضباط"، وأصرّ على أن الشرطة لم تستخدم إلا الغاز. وقال موظف بأنه كان هناك "حريم منقبين"، كما أنهن أشرن إلى أحد من الشرطة أو الأهالي سقط مصاباً في اللحظة ذاتها، بحيث إن بعض القناصة من المتظاهرين كانوا يطلقون النار على أي فرد تشير إليه الحريم المنقبات!
توزيع الإصابات والقتل وكيفياته
اتفق شهود الإثبات على أن الضحايا كلهم كانوا من جانب قوات الشرطة والمارة، وأن إصابات المتظاهرين اقتصرت على الاختناق بالغاز، وأن قوات الشرطة لم تقم بأي تعد من أي نوع على المتظاهرين.
شاهد حكى أنه كان بجوار الضابط الذى قُتل فى الأحداث، وأنه أصيب بطلقة فى جنبه فغضب وصرخ فى الضابط بأن يضرب فيهم، فقال له الضابط بأن التعليمات هي الضرب بالغاز فقط. في هذه اللحظة "جاءت له طلقة في دماغه، ووقع جنبي"، رغم أن تقرير الطب الشرعي أفاد بأن سبب وفاة الضابط طلق ناري في البطن!
أيضا شهد أحد مصابي الأحداث بأن الطّلقة دخلت فى فخذه الأيمن "من قدام وطلعت من ورا"، هكذا عرف أنها جاءت من ناحية الإخوان، لكنه قال فى الفقرة ذاتها أنّه تم استخراج الطلقة في مستشفى الأنبا تكلا (رغم أنها خرجت من ورا)! وشهد آخر أن رجلاً حكى له كيف قتل الإخوان أخاه "واحد مربي دقنه ضربه بالنار وداس على رقبته بالجزمة وقال له إنطق الشهادة".
القبض العشوائى
سأل أحد المحامين، الضابط صراحة عمّا إذا كان يعتقد أن أيّاً من المتهمين الماثلين أمامه قد قُبض عليه خارج نطاق الأحداث، فأجاب بأنه فى مثل تلك الأحداث الكبيرة يتم القبض على بعض الأشخاص "عشوائياً"، ثم تتم مناقشتهم والكشف عنهم، لكنْ تحت وطأة أسئلة الدفاع، قال إنه لم يقصد عشوائية القبض (رغم أنه قالها حرفياً في كلامه).
وقد شهد شاهد نفي، سائق ميكروباص، بأنه فى يوم فض رابعة أوقفه رجال مدنيون بالشوم عند قسم باب شرق، ونظروا بين الركاب فاشتبهوا بأحدهم واعتقلوه (سيد خليل، حكمه 10 سنوات)، فانهارت زوجته وطفلها، ثم عاد بها السائق على الخط نفسه، وحين نزلت تبادلا الأرقام ليطمئن على زوجها، فأخبرته أنّه متهم في القضية، ثم طلبت شهادته. وهناك أمثلة عديدة لهذه الشهادة، لدى متهمين آخرين.
كما قدّم دفاع بعض المتهمين حافظة مستندات تثبت وجودهم بجهة عملهم طوال ذلك. وطلب دفاع المتهمين منتصر أحمد ومحمد عبد المنعم (حكمهما 15 سنة) شهادة من شركة المحمول تثبت وجودهما بمكان عملهما أثناء الأحداث. كما قدم دفاع المتهم عبد الناصر محمد (حكمه مؤبد) حافظة مستندات تثبت وضع ساقه في الجبس منذ 27 تموز/ يوليو، مما يستحيل معه المشاركة فى الأحداث.
والأغرب من ذلك أن دفاع المتهم عمر السيد أكد أنه كان بقسم باب شرق لعمل محضر بإصابته بطلق ناري (رقم المحضر 26 أحوال)، حيث شهد المتهم بأن الإخوان كانوا يطلقون النار على الأهالي، فإذا به متهم مع الإخوان فى القضية ذاتها (حكمه مؤبد)!
كما أضاف دفاع العريس محمد سعيد أن الشاهد الذي تعرّف عليه في بداية التحقيقات كثير السوابق الجنائية، وقدم صحيفة حالته الجنائية. لم يسأل أحد نفسه: ما الذي دفع شاهد صاحب "السوابق" للشهادة ضد متهم، بشكل قد يقوده إلى حبل المشنقة؟ من الذي طلب منه ذلك؟
هل المتهمون هم الجناة الحقيقيون؟
الضابط أقرّ بأنّه شاهد المتهمين الماثلين أمامه فى المسيرة بالسلاح، مسلحين بأسلحة آلية وخرطوش ومولوتوف وسيوف وسكاكين، فسأله الدفاع عمّا إذا كان شاهد أيّاً من المتهمين بعينه فى المظاهرة، فأجاب: "مش فاكر". وقد سأل الدفاع، مقدم في الشرطة إن كان قد شاهد أحد المتهمين يحمل سلاحا نارياً أو أبيض، فأجاب بأنه غير متذكر. كما شهد ضابط ثالث برؤية متظاهر يطلق النار من بندقية سوداء قصيرة، وطلب التعرف عليه من بين المتهمين، لكنه عجز عن ذلك لكثرتهم فى القفص، كما أثبتت النيابة بملحوظة!
وأقرّ أنه رأى بنفسه المتهم خالد مرسي (حكمه مؤبد): "شفته بعيني من فوق بيتي"، لكنّه قال بعد سطر واحد: "كنت واقف جنب البيت"! ثم طلب منه محامي المتهم التعرف عليه فى القفص، فقال إنّ طول مدة الحبس غيرت شكل المتهم فلم يتعرف عليه.
ضابط الأمن الوطني شهد أن المتهمين الماثلين هم من قاموا بالتعدي على الضحايا، وأنّه عرف ذلك من خلال المعلومات والمصادر والتحريات (بدون أية تفاصيل). وكرر ذلك زميله الذي سأله محامي العريس محمد سعيد إن كان المتهم قد شارك فى المظاهرة، فأجاب "أحيل في ذلك لأقوالي بتحقيقات النيابة"، فطلب المحامي منه تحديد أماكن التدريبات العسكرية المرتبطة بالمتهم محمد سعيد، فأجاب الضابط بأنها أماكن نائية، بعيدة عن الرصد! فسأله المحامي إن كانت تحرياته قد توصلت إلى أسماء تلك الأماكن، فأجاب "لا، لم تتوصل"!
وفي جلسة عرض الصور التي تعرّف من خلالها بعض الشهود على بعض المتهمين، قال الدفاع بأنّها صور رسمية للمعتقلين وفقا لإجراءات الاعتقال، وهي بعد الأحداث بفترة وصلت أحيانا إلى ستة أشهر. وقد تمّ عرض الصور على الشهود بعدها بشهور أخرى، مما يستحيل تعرفهم عليهم.
كما شدد دفاع المتهمين على شيوع الاتهام بين عدد كبير من الفاعلين المجهولين، وأن القبض على كثير من المتهمين تمّ بعد الأحداث بفترة طويلة. وكان واضحاً من أقوال شهود الإثبات أنّه باستثناء ما سبق، لم يتعرف أحد من الشهود على "شخص" أي من المتهمين أثناء جلسات المحاكمة.
تعقيب
سُجنتُ قرابة السنتين بتهم ملفقة كالاعتداء على الشرطة وحيازة سلاح أبيض، كما عايشت في السجن شباباً كثيرين مجهولين مثل محمد سعيد، اعتُقلوا عشوائياً وحُكم عليهم بسنوات سجن طويلة دون أن يفكروا لحظة فى ارتكاب الجرائم التي سُجنوا بسببها. الجرائم وقعتْ فعلاً، لكن من قِبَل غيرهم. يستحق هؤلاء أن نفكر فى حياتهم ومستقبلهم بجدية وصدق.