من "الطقوس" التي يحرص التونسيون على تأديتها خلال شهر رمضان الوقوف في صفوف طويلة أمام "الكوشة" (المخبز) "العربي" (البلدي) أو "السوري" (العصري) لشراء خبز "السميد" الخفيف أو الخبز "المبسس" (تتكون عجينته من السميد والزيت والملح، ترش فوقها زريعة البسباس و/أو الحبة السوداء)، أو الخبز المحشو والمزين بقطع الزيتون والبصل، وعدة أنواع أخرى. وفيهم من يفضّل الوقوف أمام عربات وبيوت صانعات "الطابونة" و"الملاوي" (من أصناف الخبز التقليدي في تونس). في شهر رمضان يتراجع استهلاك الخبز الفرنسي، وهو خبز مستطيل مصنوع من دقيق القمح اللين يباع في حجمين، الكبير ويسمى بكل بساطة "الخبزة" والصغير الذي يطلق عليه التونسيون التسمية الفرنسية نفسها: Baguette. هذا الصنف الذي تتكفل الدولة - عبر "صندوق التعويض" - بجزء مهم من تكلفة انتاجه، يهيمن على موائد التونسيين في أغلب شهور السنة، لكنه يُفسح مساحة كبيرة خلال شهر رمضان لأنواع أخرى من الخبز التي لا تدعم أسعارها الدولة، لكنها بقيت جزء من التراث الغذائي التونسي الصامد والمهدد بالاندثار في آن واحد.
يقف التونسيون صفوفا طويلة في رمضان رغم الإعياء وتعب الصيام، يتناقشون حول غلاء الأسعار وسياسة الحكومة وكرة القدم وأحياناً يتبادلون الشتائم واللكمات عندما يطول الصف والانتظار ويحاول البعض التحايل والمرور قبل الآخرين. المهم أن يعود المنتظِرون إلى بيوتهم بما تيسر من الخبز الساخن الذي سيحتل مكانة مميزة فوق مائدة الإفطار. في الحقيقة، قصة حب التونسيين للخبز لا تبدأ وتنتهي بين هلالي رمضان وشوال، فهي عشق قديم ومستمر. معدل استهلاك التونسي للخبز يتراوح بين 70 و80 كيلوغراماً سنوياً، والخبزة في تونس ليست مجرد مكوِّن غذائي، بل جزء من "الثقافة الشعبية" ملتصق بشدة بالتاريخ الاجتماعي والسياسي الحديث للبلاد.
خبز فصيح..
لا يكتفي الخبز بالمكانة المهمة التي يحتلها في سلال التونسيين وفوق موائدهم، اذ يحظى أيضاً بحضور قوي في أمثالهم وتشبيهاتهم واستعاراتهم.
التونسي ابن الطبقات المتوسطة والفقيرة يقضي أكثر من نصف عمره وهو "يجري ورا الخبزة". والبعض تكون طريقه أشق وأكثر تعرجاً ومطبات من الآخرين فيقال أن "خبزته صعيبة" وربما يكون "منحوساً" أو "منفوساً" (محسوداً). وعندما تسأل المتغربين عن دوافع الهجرة فستكون الإجابة في أغلب الأحيان قصيرة وقطعية: "الخبزة" أو "الي هاذا وين جات خبزته" (الله يقرر لكل انسان أين سيحصّل رزقه). وعندما يستعمل التونسي عبارة "الخبزة المُرّة" فهو بكل تأكيد لا يتحدث عن المذاق، بل عن صعوبة كسب العيش. لكن يجب عليك التثبت من نبرة صوته وملامح وجهه، فإذا لاحظت حزناً وانفعالاً فهو يقصد حجم التضحيات التي تُبذل في سبيل كسب القوت، أما إذا كانت النبرة ساخرة يشوبها استهجان فهو يتحدث عن الممارسات التي يقوم بها البعض للحفاظ على عملهم وتحقيق مصالحهم، حتى وإنْ أهدروا كرامتهم في النفاق والتطبيل وتقديم تنازلات "لا-أخلاقية". إذا استمعت أو قرأت لتونسي يقول بأن "التوانسة شعب خبزيست" (نعت هجين منحوت من الجذر العربي خبز واللاحقة الفرنسية iste) فلا تتعب نفسك بالتفكير، إذ لا يتعلق الأمر بطائفة دينية أو تيار سياسي. المقصود هو أن غالبية الشعب لا "مبادئ" لها ولا انتماء سياسي واضح، بل انها تناصر الحاكم مهما كان شخصه وفعله حتى لا تتضرر مصالحها. لذا "ما تلعبش بخبزتك".. تقال في مقام تهديد أو نصح عندما يعارض المرء سياسات الحاكم أو يحاول التصدي لغطرسة وفساد من هم أعلى منه شأناً في مكان عمله، وكذلك عندما يستهتر بعمله ولا يقوم بواجباته كما ينبغي. ليس من المستحَب أن "تُغلّي الخبزة" على الآخرين أي أن تبالغ في الاتقان والتفاني واللطافة والإيثار وحتى الاهتمام بمن تحب، لأن الآخرين - الذين لا يتمتعون بصفاتك نفسها - سيظهرون في مظهر سيء عندما يقارَنون بك. ومن "الكبائر" التي يجب على المرء تجنبها إلا في الحالات القصوى، "قطع الخبزة"، أي تقديم شكوى ضد شخص آخر - لسبب حقيقي أو بشكل كيدي - مما قد يتسبب في فقدانه مصدر رزقه.
ذلك اليوم، عندما انعطفنا يساراً..
14-01-2021
التونسي السعيد هو من يكون "خبزه مخبوز وزيته في الكوز".. لكن ليس بأي ثمن ولا على حساب الكرامة، فالمثل الشعبي يقول "خبز وماء والراس في السماء"، ومنه استلهم الشعار الذي رفعه المنتفضون في شتاء 2010 / 2011 : "خبز وماء، وبن علي لا"..
تنوع لذيذ وجميل تهدده "الخمائر" الاستعمارية والليبرالية
خلال سنوات طفولتي في مدينة صفاقس (270 كم جنوب العاصمة تونس) كانت المخابز "العربي" والعصرية ودكاكين البقالة القريبة من بيتنا توفر قرابة عشرة أنواع من الخبز: الخبز الفرنسي الطويل من الحجم الكبير أو الصغير، خبز "الطليان" (إيطالي) العريض في الوسط والرفيع في الأطراف، وخبز "شواي الطبق"، وخبز "شواي قاعة"، وخبز "اللفيف"، وخبز المبسس في رمضان، و"خبز العيد" في عيدي الفطر والأضحى. يضاف إلى هذه كلها أنواع الخبز التي تُصنع في المنزل عند طبخ أكلات معينة، مثل خبز "المبسوط" و"خبز الشعير" و"الجرادق". ولكل واحد من أنواع الخبز هذه عجينة ونكهة خاصة به، مع تنوع كبير في أصناف الدقيق المستعملة وتوازن بين القمح اللين والقمح الصلب والشعير. اليوم، لا تعرف ابنتي إلا نوعين أو ثلاثة من الخبز كلها مصنوعة من دقيق القمح اللين في مخابز عصرية تكاد لا تشتم رائحة الخبز فيها. وما يحدث في مدينتي ينطبق على أغلب المدن التي فقدت جزء كبيراً من تنوع خبزها.
"ما تلعبش بخبزتك"، تقال في مقام تهديد أو نصح عندما يعارض المرء سياسات الحاكم أو يحاول التصدي لغطرسة وفساد من هم أعلى منه شأناً في مكان عمله، وكذلك عندما يستهتر بعمله ولا يقوم بواجباته كما ينبغي. ومن "الكبائر" "قطع الخبزة"، أي تقديم شكوى ضد شخص آخر - لسبب حقيقي أو بشكل كيدي - مما قد يتسبب في فقدانه مصدر رزقه.
تُعّد أنواع الخبز التقليدي في تونس بالعشرات بينما لم تحافظ على حضورها القوي نسبياً إلا بعض الأصناف مثل "الطابونة" و"الكسرة" و"الملاوي/الرقاق" و"خبز الغناي/الطاجين/المطلوع" و"خبز المبسس". والملاحظ ان بعض المدن التونسية تتمتع بتنوع أكبر في أصناف الخبز لأسباب تاريخية وجغرافية، مثل "القيروان"، أول مدينة إسلامية في بلاد المغرب وعاصمة "إفريقية" (تونس) لأكثر من أربعة قرون، وكذلك كبرى مدن الشريط الساحلي مثل صفاقس وسوسة والعاصمة تونس نظراً لما عرفته في تاريخها من اختلاط بين الثقافات المحلية وتلك الوافدة من الشرق والغرب، ومنطقة "الجنوب الشرقي" بتنوعها الاثني (عرب وأمازيغ وسود) والديني (مسلمين ويهود)، ومدينة "تستور" (محافظة باجة، الشمال الغربي) ذات الطابع الأندلسي والتي تَعايش فيها المسلمون (العرب والأمازيغ والموريسكيون) واليهود والمسيحيون.
علاقة كثير من التونسيين - خاصة الكهول والشيوخ - بالخبز تصل إلى حد التقديس. ومن الرائج استعمال كلمة "النعمة" للحديث عن الخبز ومشتقات الحبوب عموماً. وعندما يضع أحدهم يده على الخبز ويحلف قائلاً "وجاه النعمة" أو "وراس هاذي النعمة" فإنه قسم لو تعلمون عظيم.. فالذي يقسم على "النعمة" ويحنث بيمينه "يَعمى". وتحرص عدة عائلات على تربية أبنائها على احترام الخبز وتقديسه، فعندما يجدون قطعة خبز مرمية في الشارع يجب عليهم أن يلتقطوها ويضعونها في مكان آخر حتى لا تدوسها الأقدام والعجلات، حتى أن هناك من يقبّل قطعة الخبز تلك ويمررها على جبينه قبل وضعها تحت حائط. ولا يزال كثير من التونسيين يحرصون على عدم القاء بقايا الخبز في القمامة، وإن اضطروا إلى ذلك يضعونها في كيس منفصل عن الفضلات المنزلية ويتركونه في مكان ظاهر للعيان حتى يلتقطه مربو الدواجن والمواشي ويستعملونه في العلف. ولبقايا الخبز البارد عدة استعمالات في المطبخ التونسي، فهو مكوّن أساسي في ثاني أكثر الأطباق التونسية شعبية - بعد ملك الملوك، الكسكسي - "اللبلابي" (حساء الحمص مضاف اليه توابل وهريسة الفلفل الأحمر المجفف وعدة مكونات "اختيارية" أخرى مثل البيض والتونة وغيرها). يتم تقطيع الخبز البارد إلى قطع صغيرة وتنقع في حساء اللبلابي لتختلط بكل مكوناته في إناء فخاري خاص بهذه الأكلة. كما يتم تحميص الخبز القديم في عدة مناطق ليصبح "بشماط"/"مكرك" يمكن نقعه في صحفةِ حليب مع السكر او أكلات شتوية مثل "البصارة"/"الطبيخة" (حساء الفول)، والأطباق الخاصة ببعض المناطق مثل "المرقة الصفاقسية" وغيرها. في كل الحالات، ومهما كان مظهر ومذاق الخبز، فإياك أن تتحدث عنه بشكل سيء، وإذا اضطررت لذلك فعلى الأقل لا تنسى أن تقول "حاشا نعمة ربي".
منذ تسعينيات القرن الفائت، بدأت مكانة "االكوشة العربي" تتراجع بشكل كبير حتى لم يتبقَ إلا بضعة مخابز تقليدية في كل محافظة، وحلت مكانها مخابز عصرية تختص بنوعين أو ثلاثة من الخبز من دقيق القمح اللين المدعّم بأسعار تضبطها الدولة، أو محلات مخبوزات على النمط الفرنسي تبيع أصنافاً متنوعة بأسعار حرة. سياسات الدولة في دعم أصناف من الخبز دون أخرى، وتغيّر العادات الغذائية للتونسيين في السنوات الثلاثين الأخيرة جعلت الخبز الفرنسي يهيمن على موائد التونسيين ويضرب "تعددية" خبزهم.
هذه الهيمنة هي في الحقيقة استمرار لإرث استعماري نشأ منذ نهاية القرن التاسع عشر مع احتلال الفرنسيين لتونس (1881 – 1956). قامت السياسات الزراعية الاستعمارية على تقسيم البلاد إلى أقاليم يختص كل واحد منها بزراعة أحادية يوجه محصولها بشكل أساسي إلى السوق الفرنسية والمستوطنين الأوروبيين في تونس: الزيتون (وزيته بالطبع) على سواحل الوسط والجنوب الشرقييَّن، وكروم العنب (ونبيذها) في منطقة "الوطن القبلي"/ الشمال الشرقي، وزراعات الحبوب في إقليم الشمال الغربي. في مجال الحبوب شجعت السلطات الاستعمارية الفرنسية المستوطنين الأوروبيين وحتى الفلاحين التونسيين على زراعة القمح اللين الذي لم يكن حاضراً في التراث الفِلاحي لتونس، في حين يُستعمل بشكل مكثّف في فرنسا (دقيق أبيض، خبز، حلويات)، مقابل الإهمال المتزايد لزراعة القمح الصلب والشعير المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالتقاليد الغذائية للتونسيين وأطباقهم الرئيسية (خبز، "كسكسي"، "ملثوث"، "دشيش"، "محمصة"، "برغل"، الخ). تدريجياً، بدأ "الخبز الأبيض"، أي المصنوع من دقيق القمح اللين، يشق طريقه إلى موائد التونسيين خاصة الميسورين منهم.
بعد الاستقلال، واصل القمح الأبيض - ومعه المعكرونة - الزحف، خاصة وأن الدولة التونسية اختارت منذ بداية سبعينيات القرن الفائت طريق "الأمن الغذائي" بدلاً من السيادة الغذائية واعتبرت ان شراء القمح اللين من الخارج أقل تكلفة من زرعه في تونس، وفضّلت تركيز جهودها على الفِلاحة التصديرية القائمة على الزراعات الأحادية التي أرستها السياسات الاستعمارية. أعطى هذا النهج أكله سريعاً، فبعد سنوات قليلة - أواسط السبعينيات - دخلت البلاد الفِلاحية بامتياز في منطقة العجز والتبعية الغذائيين ولم تخرج منها إلى اليوم. لم تكتفِ الدولة بإهمال زراعات البقوليات والقمح الصلب والشعير، بل قررت منذ أيار/مايو 1970 دعم الخبز المصنوع من القمح اللين وتوفيره بأسعار منخفضة نسبياً. لكنه دعم موجه إلى صنفين فقط من الخبز: الفرنسي الكبير والصغير. وهكذا فُرض هذا النوع من الخبز على التونسيين وأزاح عدة أصناف أخرى من موائدهم. هناك أيضاً أسباب اقتصادية-اجتماعية أسهمت في تراجع حضور أنواع الخبز الأخرى، مثل الهجرة الداخلية من الأرياف إلى المدن مع ما يعنيه ذلك من تراجع انتاج الخبز المصنوع منزلياً واقبال أكبر على الخبز المصنوع في المخابز، كما أن ارتفاع نسب تمدرس التونسيات وولوجهن إلى سوق العمل خلق نوعاً من الانقطاع في توارث العادات الغذائية من الجدات إلى بناتهن وحفيداتهن.
يهيمن الخبز "الفرنسي" على موائد التونسيين ويضرب "تعددية" خبزهم. وهذه الهيمنة هي في الحقيقة استمرار لإرث استعماري نشأ منذ نهاية القرن التاسع عشر مع احتلال الفرنسيين لتونس (1881 – 1956). قامت السياسات الزراعية الاستعمارية على تقسيم البلاد إلى أقاليم يختص كل واحد منها بزراعة أحادية يوجَّه محصولها بشكل أساسي إلى السوق الفرنسية والمستوطنين الأوروبيين في تونس.
لكن التاريخ ليس ذا اتجاه واحد، ففي العقد الأخير حدثت متغيرات في "سوق الخبز" أعادت الروح إلى بعض الأنواع القديمة وفتحت الباب أمام أصناف جديدة.
- انتشار الهواتف الذكية واكتساح منصات "السوشيال ميديا" لحياة الناس، جعل التونسيين ينفتحون على ثقافات ومطابخ العالم شرقاً وغرباً. وبحكم علاقتهم المميزة بالخبز سرعان ما تعلموا وصفات جديدة بفضل المدونات والفيديوهات التي تعطي شرحاً مفصلاً للمكونات والمقادير، وطرق العجن، والتخمير، والانضاج.
- بالتوازي مع تطور استعمالات الانترنت وعدد مستعمليه في تونس، بدأت ثقافة "الدايت والهيلثي" (الحمية الغذائية والأكل الصحي) تغري عدداً متزايداً من التونسيين - التونسيات بالأخص - لغايات "جمالية" أكثر مما هي صحية، خاصة مع تنامي الهوس ب"الجسد المثالي" كما تحدد شروطه دور الموضة ووكالات الإعلانات وفيديوهات المؤثرين والمؤثرات في مواقع التواصل الاجتماعي. وبما أن الخبز الأبيض المهيمن على السوق ليس صحياً كثيراً فكان من الضروري العودة إلى أنواع خبز تقليدية مصنوعة من الشعير والقمح الصلب ونخّالة القمح وغيرها، أو اللجوء إلى أنواع جديدة من الخبز المعد خصيصاً لمن يتّبعون حميات غذائية، ويباع في بعض محلات المخبوزات بأسعار مرتفعة تصل الى عشرة أضعاف سعر الخبز العادي.
- انتشار وباء "كورونا" وما تبع ذلك من حجر صحي أجبر أغلب التونسيين على ملازمة بيوتهم، وشكّل فترة انتعاش كبيرة للخبز في تونس، خاصة الأصناف التقليدية منه. تَوفّر ساعات فراغ طويلة واجتماع أفراد العائلة والخوف من الخروج إلى الشارع والتقاط العدوى من الناس والنقود والمشتريات جعل كثيرا من العائلات تكتشف أن لديها أفران في البيت ويمكنها أن تصنع خبزها بنفسها. ومنذ الأسابيع الأولى للحجر الصحي، اكتسحت صور وفيديوهات المأكولات الفيسبوك وغيره من المنصات، وسجل الخبز حضوره بشكل قوي وجميل. كانت فرصة لاكتشاف أنواع محلية لا تُصنع إلا في بعض المناطق وتَشارك الوصفات والنصائح والتقييمات.
- تفاقم البطالة في تونس وتدهور المقدرة الشرائية بحكم الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ سنوات طويلة، حفّز عددا كبيرا من النساء التونسيات ربات البيوت على العمل في المنزل للمساهمة في اعالة الأسرة أو التكفل بها كلياً. ومن أبرز الأنشطة التي تلجأ اليها النساء تجارة الملابس وأدوات التجميل لمن لديهن رأسمال، أما اللواتي لا يملكن ذلك فيتجهن أكثر نحو صناعة و/ أو بيع الحلويات وأنواع الخبز التقليدية.
خبز معمّد بالدم..
قدم التونسيون شهداء من أجل "الخبزة".. نتحدث عن "أحداث الخبز" حسب التسمية الرسمية، "عام الخبزة" كما رسخ في الذاكرة الشعبية و"انتفاضة الخبز" أو "ثورة الخبز" كما ترد في أدبيات اليسار التونسي. في 29 كانون الأول/ديسمبر 1983، أعلنت حكومة محمد المزالي (1980 – 1986) عن رفع الدعم عن جملة من السلع الغذائية المشتقة من الحبوب وعلى رأسها الخبز ليتضاعف ثمنه من 80 مليم إلى 170 مليم أي بزيادة قدرها 110 بالمئة مرة واحدة. بُعيد الإعلان اندلعت الاحتجاجات في جنوب البلاد لتصبح سريعاً كرة ثلج تتدحرج عبر مناطق البلاد مع حلول كانون الثاني/يناير 1984. ومع تزايد أعداد المنتفضين وصمودهم في وجه قوات الأمن، تنامت شراسة آلة القمع ولم تتردد في استعمال الرصاص الحي بكميات كبيرة وعشوائية، كما تمّ تعطيل الدراسة في المؤسسات الجامعية وأعلنت حالة الطوارئ.
اختارت الدولة التونسية منذ بداية سبعينيات القرن الفائت طريق "الأمن الغذائي" بدلاً من السيادة الغذائية واعتبرت أن شراء القمح اللين من الخارج أقل تكلفة من زرعه في تونس، وفضّلت تركيز جهودها على الفِلاحة التصديرية القائمة على الزراعات الأحادية التي أرستها السياسات الاستعمارية.
بلغت حصيلة القتلى في الأسبوع الأول من كانون الثاني/ يناير 1984 89 قتيلاً، فضلاً عن أكثر من 900 جريح، وتبعت هذا القمع القاتل موجة اعتقالات عشوائية وتعذيب ومحاكمات صورية. كانت "انتفاضة الخبز" المناسبة الثانية التي يخرج فيها الجيش من الثكنات إلى الشارع ويوجه آلياته ورصاصه نحو الشعب، بعد "الخميس الأسود" (حملة قمع دموية شنتها السلطة على النقابيين والمحتجين على إثر الاضراب العام الذي أعلنه "الاتحاد العام التونسي للشغل" في 26 كانون الثاني/يناير 1978).
الثورة كفعل يومي في تونس أو قوة المستضعفين
04-02-2021
هدأت الأمور في 6 كانون الثاني/ يناير 1984 عندما تحدث بورقيبة إلى الشعب معلناً إلغاء إجراءات زيادة الأسعار قائلاً - ستظل هذه العبارة عالقة في الذاكرة الجماعية إلى اليوم - "نرجعو وين ما كنا"، أي نعود إلى ما كان عليه الوضع قبل الانتفاضة، وكأن الأرواح التي أُزهقت والقلوب التي رُهبت والأجساد التي جُرحت وسُجنت وعُذبت كانت مجرد مزحة ثقيلة. لكن "العودة إلى الوراء" كانت متأخرة، فانتفاضة الخبز الدموية كانت بمثابة إعلان وفاة نظام بورقيبة، حتى وإنّ تأخرت الجنازة إلى "7 نوفمبر 1987" عندما أطاح الجنرال زين العابدين بن علي ببورقيبة وفرض عليه الإقامة الجبرية إلى آخر يوم من حياته.
"عام الخبزة" وشمٌ في الذاكرة الجماعية، ذاكرة الشعب كما ذاكرة السلطة. مع كل انتفاضة "ينايرية" تعيشها البلاد يستذكر كثيرون "عام الخبزة" الذي عاشوه أو سمعوا وقرأوا عنه. في خلال ثورة 2010 – 2011 وفي الانتفاضات التي تلتها، كانت الخبزة حاضرة بقوة في أغلب المظاهرات كرمز احتجاجي مستلهَم من إرث نضالي يشحذ همم المنتفضين ويثير رهبة القامعين.
منذ سنة 1984 صارت الحكومات في تونس تتفادى الترفيع الحاد والمتتالي في سعر الخبز المدعّم، وتفضّل زيادة 10 أو 20 مليم (1 دينار = ألف مليم) كل بضع سنوات، وعادة ما تكون الزيادة في أوج فصل الصيف عندما ينشغل أغلب الناس بالعطل والأفراح. يكفي أن نقول ان سعر الخبز تضاعف أقل من مرتين منذ بداية سبعينيات القرن الفائت إلى اليوم، في حين تضاعفت أسعار اللحوم والأسماك والألبان والزيوت الغذائية أكثر من عشر مرات خلال الفترة نفسها.
لكن في السنوات الأخيرة، تواتر الخطاب الرسمي -المسنود إعلامياً - عن اهدار التونسيين للخبز وارتفاع تكلفة الدعم الذي صار يرهق كاهل الدولة ولا-منطقية تمتع الأثرياء بالإجراءات نفسها الموجهة لفائدة الطبقات المتوسطة والفقيرة. هناك جانب كبير أو صغير من الصحة في أغلب الحجج التي يسوقها الخطاب الرسمي، لكن الخوف من أن يكون الانتقال من الدعم الشامل إلى الدعم الموجه في أفق سنة 2026 خطوة نحو الغاء الدعم تماماً وترك السلع الغذائية الأساسية -ومعها الطبقات الاجتماعية الأكثر هشاشة - تحت رحمة السوق. وحتى إن افترضنا "حسن نوايا" السلطة الحاكمة حالياً (وهي تناور منذ أشهر لتخفيف الشروط التي يريد صندوق النقد الدولي فرضها على تونس مقابل حصولها على قرض تناهز قيمته ملياري دولار، ومن بين هذه الشروط الغاء الدعم على السلع الأساسية والمحروقات)، فهناك حزمة أسئلة في ما يخص "توجيه الدعم لمستحقيه": ماهي معايير الاستحقاق؟ كيف ستستطيع الدولة التعرف على مستحقي الدعم بدقة في حين أن هناك مئات آلاف التونسيين يعملون في قطاعات الاقتصاد الموازي (أحياناً عائلات بأسرها) أي أن مداخيلهم غير مصرح بها؟ وإذا ما استطاعت فرض معايير عادلة وحددت بدقة المستحقين للدعم، فكيف ستوزعه؟ عبر البطاقات التموينية أو في شكل تحويلات مالية؟ هل ستتم تحديث قيمة هذا الدعم الموجه حسب حركة الأسعار في السوق أم أنه سيبقى ثابتاً لمدة طويلة؟
***
شقّ الخبز طريقه إلى موائد سكان تونس منذ آلاف السنين، وتركت كل الشعوب والحضارات التي مرت من البلاد بعضاً من "خميرتها" فيه. خبز تونس في العصر الحديث ليس مجرد غذاء، فعجينته تختزل التاريخ السياسي والاقتصادي للبلاد في القرن ونصف القرن الفائتين. خبز التونسيين قد يشهد في السنوات القادمة تهديدات جدية تضرب مكانته في قلوب وبطون التونسيين.. فماذا هم فاعلون؟