تدوّي في عتمة المسرح نغمة موسيقية واحدة كأنّها نفخٌ في الصُّورِ، مرّةً بعد مرّةٍ بعد مرّة. شيءٌ ما سيأتي. شيءٌ ما يأتي، يتعاظم فاغرَ الفم، حدثٌ جلل يُصيبنا جميعاً، نحنُ القاعدين شهوداً على أهواله. كأنّما تُفتَح علينا كلّ بوّابات العوالم السفلية والعلويّة معاً، ثمّ يأتي الصوت البشريّ.
"أنا في صفّ المتفرّجين
بيروتُ هي المسرح والمسرحيّة
العرضُ مأساويّ
أبكي".
أبكي أنا أيضاً، منذ بداية البداية، ويفاجئني ذلك جداً. أغرق في كرسيّ في عتمة المسرح ولا أملك لنفسي إمساكاً. لقد صار الأمر شخصياً وحميماً بأسرع مما كنت أتخيل. على المسرح، رجلٌ وامرأة يمشيان نحو بعضهما البعض من أقصى قطبي الخشبة يميناً ويساراً، ليلتقيا في الوسط. يقتربان كثيراً، ويبدو لي، تعذّبهما تلك المسافة الصغيرة الباقية.
الرجل المتوكّئ عصاه هو روجيه عساف، أحد آباء مسرحنا المعاصر، وحبيبته التي تقف قبالته هي حنان الحاج علي، الكاتبة والممثلة المسرحية. هما زوجٌ على الخشبة وخارجها، وهما أمامنا في هذا الوادي المقدّس الذي وقعنا فيه مصطفّين في مسرح المدينة في شارع الحمرا من بيروت لنشهد القيامة - طقس عبور المدينة وأهلها من حالٍ إلى حال، من ليلٍ إلى فجر، من صعود إلى نزول، من جنازة إلى عرس، من يأس إلى أمل، من هوىً إلى هوى.
نشاهد ونتورط. نَهْـوِي.
***
اسم العرض "إذا هوَى" (هَوى القلب؟ هَوى الذي سقطَ من علوّ إلى سفْل؟ هوى النجم في آية "والنجمِ إذا هَوى"؟ أم كلّ ما سبق؟). سينوغرافيا المسرح، الكوريغرافيا، النصُّ والموسيقى والضوء، يطبعُها نفسٌ "مينيمالي" يقول الكثير بقوله القليل. الديكور الوحيد عبارة عن أربعة كراسٍ، اثنين على كل جانب من جانبي الخشبة، يجلس عليها المؤدّون الأربعة، حنان الحاج علي وإلى جانبها علي شحرور (مخرج العمل)، وروجيه عسّاف، إلى جانبه الراقص والممثل شادي عون، وفي الخلفية مساحة يتمترس فيها عبد قبيسي، مؤلف الموسيقى والأصوات المرافقة، يلعب الموسيقى حيّة، ويُخرج من آلةٍ مألوفة كالبزق أصواتاً غير متوقعة للخوف والعراء في الصيحة، للحزن العميق في حِداء العزاء، للنغم رقيقاً في العرس، للسقوط والسكوت.
"أشاهد التلفاز. أسمع خطاب أحد أولئك السياسيين. أتقيّأ". تطلع تلك الكلمة الأخيرة من فمه بكل ما أوتي من قرف. نفهم أنه لا يموت بل يٌقتل، ككلّنا، كأهلنا، كأحبائنا، يقتلنا جمع من المتكلّمين على الشاشات، لكننا بين مأتم وآخر نقيم عرساً، ربما.
تتوالى مشاهد الانسلاخ والالتئام بين الحبيبين، وبينهما والمدينة التي عَرّفها لنا روجيه منذ البداية، اسمها "بيروت" بلا التباس. عندما يسقط الرّجلُ وعصاه أرضاً، يكون موته في بيروت إذاً، حيث الموت وفير ومتجدد (نراه واللهِ كلّ يوم وفي كلّ ركن)، وتكون حبيبته أمام جسده المسجى تكفّنه برداء أسود طويل يبقى ذيله تحتها. تفتح المرأة فمها صارخة أمام كل ذلك الموت، صرخة يطلع صوتها من مكان آخر، من عزف آلة لا من الحنجرة، كأنها صرخات متعددة أطلقها كل المعذبين في هذه البقعة فيكون منبعها حناجر كثيرة. ثمّ يسحب البساط الأسود المرأة المتفجّعة بعيداً عن حبيبها وعن الجمهور، فيما تمزّق صرختها أرواح الحضور وتستقر في الفضاء بيننا نحن الجالسين المتفرجين، ثمّ تتلاشى.
"أشاهد التلفاز. أسمع خطاب أحد أولئك السياسيين. أتقيّأ". تطلع تلك الكلمة الأخيرة من فمه بكل ما أوتي من قرف. نفهم أنه لا يموت بل يٌقتل، ككلّنا، كأهلنا، كأحبائنا، يقتلنا جمع من المتكلّمين على الشاشات، لكننا بين مأتم وآخر نقيم عرساً، ربما. روجيه وحنان على المسرح حبيبان قديمان، يتقدم بهما العمر في مدينة تعيش احتضارها بطيئاً. يسند جسديهما شابين، فيصيرون أربعة، يقفون كتفاً إلى كتف، متعانقين ذراعاً فوق ذراع، عائلة ترص صفوفها، يغمر بعضها بعضاً، ثم يتمايلون على أنغام العرس. يتركون أنفسهم للإيقاع، يرقصون كهولاً وشباباً، كإحدى عائلاتنا المكلومة. تذكّر رقصتهم السعيدة التي لا تخلو من أسى برقصة زوربا الإغريقي، وبالدبكة الشعبية، حيث العود مشدود والركب تنثني كأن الراقص على شفير وقوع، لكنه يسند كتفه بكتفِ آخرٍ فينهض الاثنان، فيستمرّ الرقص.
عن الخبز والدُّمى والهواء
26-10-2016
نحن في ليل طويل تتكاثف علينا فيه طبقات الواقع والماوراء. فالزوجان زوجان وبيروت هي بيروت التي على المسرح أيضاً، وإن كان خالياً من أي تصميم من عناصرها، والليل ليلان، ونحن المتفرجون الذين في الصفوف، نشهد هذا ونشهد المشهد الذي أكبر منه. تختلط علينا العوالم والعناصر ونخضع لسطوة الطقوسية المهيمنة بالإضاءة والموسيقى وحركات الأجسام ولفتات العيون. كلنا أتينا من خارج صالة العرض إليها كأننا دخلنا من واقعنا إلى مرآته الأنقى، ومن تعبنا المعتاد في الخارج إلى غرفة تحت الأرض حيث سُمح لنا أن نموت ونحيا، أن نتعب معاً.
في هذا الليل، رقصت الحبيبة حول نفسها وحول الحبيب كأنها القمر حول الأرض. دارت كمولوية في حضرة عشق - في أداء مبهر لحنان الحاج علي – في مدارها المرسوم. لكنها انفلتت من مدارها في لحظة ما وصارت تدور بعيداً عن حبيبها حتى عادا بعيدين. وأكثر من مرّة أشعر بأن ما يحدث يفوق احتمالي، أرى نفسي من الخارج، يجلس إلي يساري زوجي، مهاجران منذ سنين قليلة لم يتعلّما الاندماج. أعود دائماً إلى مداري، إلى حقلٍ سرّي نعرف يقيناً أنه يجمعنا بهذا المكان مهما بلغ بؤسه وتعبه. وكلّما عدنا رأينا السقوط أوضح، مثلَ قفزة في اللقطة بين أعلى الجرف، منتصفه، قاعه - إن كان له من قاع. كلما عدنا دفعتنا البلاد بكلتا اليدين بعيداً، كشّتنا كالحمام، ولكننا كالحمام نعود.
كلنا أتينا من خارج صالة العرض إليها كأننا دخلنا من واقعنا إلى مرآته الأنقى، ومن تعبنا المعتاد في الخارج إلى غرفة تحت الأرض حيث سُمح لنا أن نموت ونحيا، أن نتعب معاً.
وكالحمام ننوح على مدينتنا التي تقاسي سكرات موتٍ محتومٍ وتقاتل بنا، بما تبقى من أعصابنا وأرواحنا وقلوبنا. وأفهم العرض الذي رتّبه لنا علي شحرور ورفاقه على أنه رسالة حبّ كبيرة، وأحبّ أن أصدق أن الحب أكبر من كل ما جرى.
محنة لبنان
03-09-2020
مع طلوع خيوط الفجر ضوءاً شفيفاً، يؤذن بنا المؤذن في جملتَين "حيّ على الصلاة (يا حبيبي)، حيّ على الفلاح (يا حبيبي)"، فيشارف طقس الليل على الأفول ونعبر معاً إلى النهار حيث لدينا عمل كبير، يبدأ بـ"النجم إذا هوى" وينتهي بـ"ما كذّب الفؤاد ما رأى".