"نحن لم نبكِ ساعة الوداع، لم يكن لدينا وقت ولا دمع للوداع".. بهذه الكلمات يصف طه محمّد علي تهجيره وعائلته من قرية صفّورية في العام 1948، والصّدمة العنيفة التي لم تترك للناس متسعاً لعاطفتهم. الآن، هناك من يستخدم عبارات قريبة جداً لوصف حالة تهجيرٍ أخرى، تتحوّل فيها العاطفة ترفاً مقابل مهمّة حفاظ الناس على حياتهم: عشرات العائلات الفلسطينيّة في السنوات الأخيرة هُجّرت من قراها هرباً من دوّامة الثأر الدمويّة. قبل أن تسكب العائلات دموع حزنها على ما فقدته، أو خوفها على ما ستفقده، تبدأ مشواراً من الحسابات الماديّة التلقائيّة لتتجهّز للخروج من القرية أو للبقاء بها. وتتضمّن هذه الحسابات عدّ ما تبقى من أموال وتجميعها لتحديد الإمكانيّات الماديّة للمرحلة المقبلة التي قد تحتمل إما ثأراً (فتحتاج مزيداً من السلاح) وإما صلحاً (فتحتاج ديّة)، وإما سجناً ومحاكمات (فتحتاج أموالا طائلة للمحامين). والأهم، إمكانيّة انتقال عائلة، بالعشرات من أطفالها ورجالها ونسائها، إلى حياة وبيوت جديدة، وعالم جديد، دون أن يتمكنوا من العودة إلى بيوتهم لأخذ حاجاتهم. ثم يأتي فرز العلاقات الاجتماعيّة لضمان مكوثهم في قريةٍ جديدة. فكلّ قرية تنقسّم لعشائر مختلفة، ولا يمكن لعائلة أن تنزل فيها دون أن تستقبلها عائلة أخرى. كما هي تحتاج لعائلات كبيرة ولعلاقات مع شخصيّات اجتماعيّة (عشائريّة تحديداً) تعزز موقفها في الهدنة وجاهات الصلح.
لكن قبل هذا كلّه: هجرة الأرض والمنزل لحماية ما تبقّى من أرواح، ترك البلد منعاً من أي استفزاز أو تحوطاً لأيّ ردٍ فوريّ وموت آخر. هذا الفعل - ويُطلق عليه في فلسطين "الهجيج" - بات واحداً من ردود الفعل المتوقّعة بعد كل حادثة قتل، وهو صورة تحمل في داخلها انعكاسات لأزمات اجتماعيّة وماديّة وسياسيّة تحمل كل دوافع العنف المستشري، وتُنتجها في آن.
تهجير وتفكّك ودمويّة
حالات التهجير هذه هي أحد "الحلول" المُعتمدة في تدبّر مسلسلات الدم العائليّة في القرى الفلسطينيّة. منذ العام 1948، وحتّى قبل ذلك، انتقلت عشرات العائلات الموسّعة (من الجدّ إلى الأطفال، مروراً بالأعمام..) من مكان سكنها الأصلي لتقيم في قريةٍ جديدةٍ بعد أن تورّطت بأحداث قتلٍ في قريتها. تُصبح العائلات "الغُرْيبة" (هكذا تُسمى) عن القرية، وسط حالةٍ اجتماعيّة مركز ثقلها العصبيّة العائليّة، وفي قرى تميّزها الكثافة السكانية العالية وانعدام المساحات والأراضي الخالية بعد أن صادرتها إسرائيل.. تصبح عدواً تلقائياً ومنافساً على المساحة والاستحواذ. وهي موصومة مسبقا بكونها أُخرجت من قريتها، كما هي موصومة بسبب خروجها من قريتها. لذلك يُصبح من السهل اتهام العائلات "الغُرْبيّة" بأنها سبب الخراب أو سبب الجريمة التي "انتقلت" للقرية. أما من جهة العائلة "الغُرْيبة" تلك، فهي أيضاً تدرك نفسها كمهددة، فتزيد في معظم الأحيان من حجم تمترسها وغطرستها وسلاحها للحفاظ على قوّة ردعها بعد أن هُجّرت إلى قرى غارقة بدورها في أزماتها وكوارثها المجتمعيّة، وكلّ ظروفها أرض خصبة لتتحوّل الأحياء فيها إلى "سوق أسود" يمْكن فيه شراء كل ما تحظِّره السلطات الإسرائيليّة (رسمياً فقط)، من مخدّرات وسلاح وقروض سوداء وحماية مدفوعة الأجر وغيرها.
يُنتج تهجير العائلات هويّات جديدة، ويُصبح "الغُرْبيّة" طبقة جديدة في المجتمع المحصور بمناطق جغرافيّة ضيّقة. ولأنّ القرى الفلسطينيّة مبنيّة أساساً بحسب تقسيمٍ عائليّ (كل عائلة لها حارتها مثلًا) أو طائفيّ (حارة الروم أو حارة الدروز مثلًا)، تُصبح سيطرة عائلة جديدة على موارد سكنيّة في القرية التي نزحت إليها قضيّة خلافيّة تنتظر انفجاراً. وكنموذج مصغّر لما عاشته القرى التي لم تُهدم إبان النكبة من تهجير داخليّ، مثال أهالي صفورية الذين هُجّروا إلى الناصرة وكوّنوا فيها حياً على اسمهم. وفي بعض القرى كان عدد المهجّرين إليها في النكبة أكبر من عدد أهل القرية الأصليين، ما أدى إلى تنافس على المخْترة (ولاحقاً على المجالس البلديّة). وهذه أسباب لخلافات عنيفة جداً مستمرة حتّى اليوم.
القوّة الظاهريّة
تنفجر المظاهر الدفاعيّة كافة، من الانغلاق والعشائريّة والطائفيّة والهويّات الثانويّة، بفعل الاضطهاد الممنهج، المباشر وغير المباشر، الذي تمارسه إسرائيل ضدّ المجتمع الفلسطيني. أمّا "الحلول" المطروحة في الوضع المُعطى، فهي ليست سوى ثغرات هربٍ تقود الإنسان من ورطةٍ إلى أخرى. في حالة تشكّل العائلة والعشيرة والطائفة (وهي مقياس القوّة والسيطرة الأساسيّ)، يتحوّل العنف نوعاً من الاستسلام للواقع. واقعٌ العنفُ فيه هو الصوت الوحيد المسموع في ظل انعدام أي مساحة تأثير اجتماعي وسياسي أخرى، إنْ بالحركات الاجتماعيّة أو بمجرّد أطر تجمع الناس في حيّزٍ عام مشترك. أن تكون إنسانًا ذا شأنٍ في قرانا، يعني أن تكون متجبّراً وفي بيتك سلاح أوتوماتيكي.
هذا هو الواقع المركّب. وهو واقع الضحيّة كما هو واقع القاتل. ويكون الجزء السهل بعد كل جريمة هو الاستنكار ومن ثم انقسام العالم عمودياً بين ضحيّةٍ مطلقةِ الطيبة وقاتلٍ مطلق الشر، بدلاً عن فهم المجرم كجزء لا يتجزّأ من حالة اجتماعيّة تعاني كلّها من أزمة حادّة ليس لها مخرج. مثلُنا جميعاً، يعاني المُجرم اضطهادَين: سُلطة إسرائيل والسلطة الاجتماعيّة التقليديّة. إنه يُقتل بحالة الشعور بخطر انهيار وجوده المبنيّ أساساً على الانغلاق وتصدير الأزمات النفسيّة بواسطة قوّة الذراع، وتحوّل العنف إلى سياسة ردع. يتحوّل فعلياً إلى قاتل حين يشعر بتهديد لما بناه من قوّة ظاهريّة، بعد أن استسلم إلى حقيقة أن الخوف والعنف هما الصوت الوحيد لإثبات وجوده، فيُصبح أمام خيار وهميّ محدود بالاندثار أو بالاستمرار في محاولات إثبات وجوده في واقع تهميش مستمر. وعلى الرغم من حقيقة أن فعل القتل الذي سيمارسه سيؤدّي إلى عمليّة التهجير العائليّ والتفكّك، إلّا أنه يختاره في أغلب الأحيان، في ذروة نشوة القوّة واعتقاده بقدرته على الإمساك بمصير الآخر وامتلاكه.
بين هويّات متعددة
"الدهشة" هي ردّ فعل قيادات الأحزاب السياسيّة الفلسطينيّة داخل الخط الأخضر تجاه أحداث القتل هذه. كأنها تكتشف كل مرةٍ من جديد انتشار السلاح وما ينجم عن ذلك من قتل وثأر وتهجير وتفكّك اجتماعيّ. وتصاب بصدمة جديدة مع كل ارتفاع في أعداد الضحايا. لكنّ هذه الصدمة لا تبوح إلا بانحسار تواجد هذه الأحزاب بين الناس فعلياً، وبمعرفتها الضعيفة ومتابعتها الأضعف لما يدور في أزقة كلّ قريةٍ ومدينة، وبتراجع تأثيرها الفعليّ داخل المساحة المجتمعيّة، كما بهشاشة العلاقة بين كوادرها بأغلبيّة المجتمع. وهو ما زال يُنتج حالة فراغ من حيث السلطة الاجتماعيّة، فراغ لا بد من تعويضه بسلطة أخرى: سلطة تقليديّة أشبه بنسيج من العلاقات الطائفيّة والعائليّة والعشائريّة، وترتبط وثيقاً بعائلات الجريمة و "مصالح" السلاح والحماية.. عائلات في كل قريةٍ ومدينة تُحصِّل مكانتها الاجتماعيّة بعنفها وقوّتها التي تجعل اسمها "مَهيباً" في القرية ذاتها أو في المنطقة أو في فلسطين كلّها.
ومقابل تراجع مكانة الأحزاب السياسيّة الفلسطينيّة، وضعف قدرتها على تنظيم المجتمع الفلسطيني في الداخل، واضطراب مكانة الهويّة الفلسطينيّة المركزيّة الجامعة، يأخذ المجتمع زمام الأمور لتنظيم ذاته بهويّات ثانويّة كالطائفة والعائلة، تبدأ بالتنافس على السيطرة في حدود البلدة الواحدة، من خلال سلطة الحكم المحليّ، التي تُنتخب على أساس طائفيّ وعائليّ وعشائريّ. أمّا العائلات الصغيرة عدداً، فإمّا أن تنضوي تحت عائلة أكبر في حدود الطائفة الدينيّة، وإمّا أن تلجأ إلى استخدام السلاح كأداة قوّة أمام العائلات الكبيرة، فتُصبح "الهيبة" العنيفة تعويضاً عن كثرة أفراد العائلة (وبالتالي مخزون الأصوات في الانتخابات المحليّة)، وعن الأملاك أو عن المكانة الاجتماعيّة. هنا تلتقي العائلات الصغيرة بالكبيرة بنسيج من المصالح السياسيّة الضيّقة الذي يرتبط بها المال والسلاح والانتخابات المحليّة وما إلى ذلك.
.. في الدولة الحديثة، وبغض النظر عن طبيعة نظام الحكم فيها، تتحمّل الدولة بسلطة قانونها مسؤوليّة وقف هذه الحالة الاجتماعيّة المتدهورة عن طريق احتكارها للعنف وإمساكها بزمام القوّة. أما في حالة نظام استعماريّ، فالوضع مختلف تماماً. فإسرائيل أمضت 68 عاماً تفكّك المجتمع وتقطّع أوصاله، وتعزله عن محيطه وامتداده العربيّ والفلسطينيّ نفسه، وتسلخه عن تاريخه وتمحو منهجياً هويّته الفلسطينيّة بما تحمله من ثقافة وقضيّة. ولا يمكن المراهنة، بأي شكلٍ من الأشكال، على من يُحاصر هذا المجتمع مادياً ورمزياً: مادياً، بمصادرة الأرض وبناء المستوطنات التي تُحيط بكل قرية فلسطينيّة وتخنقها، وبجدران الفصل العنصريّ وأنواع أخرى مختلفة من الفصل (بالأحرى العزل) الفعليّ، وهي أنواع أكثر ذكاءً وأقل ظهوراً، كالأوتوسترادات وسكك الحديد والمتنزّهات الشاسعة. ورمزيا من خلال طمس كل ما يعبّر عن هويّة وطنيّة جامعة لمصلحة هويّات محليّة وطائفيّة متشظّية.
فعل التهجير، كعرف اجتماعيّ، ليس إلّا إعادة تدوير للعنف في حيّز جديد. تهجير العائلة بسبب فعل شخصيّ، يُقحم العائلة ككل في مسلسل العنف بدلًا من أن يُنقذها، يفكّكها بدلًا من يُعيد ترابطها، يفتح نافذة تجارة سلاح جديدة بدلًا من إغلاق أخرى. وتبرير التهجير بـ "الحماية" مؤشّر آخر على ضعف المنظومة المجتمعيّة، وعدم قدرتها على حلّ مشاكلها في داخلها. لذلك تُصبح الإمكانيّة الوحيدة لمنع القتل والعنف القادمين، هي عملياً قتل الوجود الاجتماعي لإحدى العائلات.