في كانون الأول ديسمبر 2013، خرج قاسم الريمي، القائد الميداني في تنظيم "القاعدة"، ليقدّم اعتذاراً عن المجزرة التي ارتكبها التنظيم في هجوم مستشفى وزارة الدفاع بصنعاء، عارضاً دفع الديّة لذوي الضحايا. لم تكن هذه المرة الأولى التي يخرج فيها التنظيم كي يهذِّب خطابه ويحافظ على صورته أمام الجمهور، بل ما زالت رسائل أسامة بن لادن موثقة في حَضّ مصعب الزرقاوي إبان الاحتلال الأميركي للعراق، على ضرورة وحدة الصف، وعدم قتال الطوائف الأخرى، والتركيز على العدو الأجنبي.
خاصّيات؟
القاعدة ليس تنظيما عقلانياً في مقابل جماعات مسلحة أخرى، بل هم جميعاً في سلة واحدة من ناحية الجنوح للفوضى كأرضية من الممكن الانطلاق منها لبناء مشروعهم الخاص. إلا أن هذا التنظيم ـ الذي اضمحل تأثيره مؤخراً ـ كان حريصا على المحافظة على بيئة حاضنة له يستطيع من خلالها الانطلاق والتأكيد أن مشروعه جاء من أجل "إقامة شرع الله" الذي يضمن تحقيق مصالح البلاد والعباد. وهذه البيئة تقوم على خلق ثقة متبادلة بين الطرفين في عدم المساس بالمصالح والأعراض والممتلكات. وليس ذلك وحسب، ولكن أيضاً بتعيين الأمراء من أهل تلك البلاد، والاستناد على فتاوى علمائهم أو علماء معتبَرين ومعاصرين لديهم، كما فعل التنظيم في مخاطبة المتدينين السعوديين انطلاقا من فتاوى علماء معروفين محلياً أمثال عبد الله بن جبرين، وحمود بن عقلا الشعيبي وغيرهما.
هذه الجهود قوبلت بالفشل بسبب عوامل كثيرة في السعودية، أهمّها القبضة الأمنية التي قوضت حركة التنظيم في التجنيد والتمويل، من دون إغفال أن استنهاض حس "ثوري" مفاجئ في مجتمع ريعي، وإحلال تنظيم متشدد، من المستحيل أن يلاقيا رواجاً. فعلى الرغم من الديباجة الدينية التي قدمها، لم يفلح القاعدة في أن يكون بديلاً عن نظام ومؤسسات مستقرة توفر للمجتمع الخدمات والرعاية وهامش من الحريات الاجتماعية. ومع هذا وإلى جانبه، التأكيد بأن التنظيم فقد وهجه عندما أخذ يستهدف المقرات العسكرية بدلاً من التجمعات السكنية للأجانب، كونه أصبح في نظر الغالب من الناس يستهدف المجتمع نفسه عبر أبنائه المنخرطين في القطاع العسكري.
داعش
تنظيم "داعش" لم يكلّف نفسه الاستفادة من الدروس التي مضت، فانطلق لبثّ الرعب وعدم المبالاة ببيئة من الممكن اعتبارها حاضنة اجتماعياً وفكرياً. وأصبحت الخطة التي تنشط بمناطق الحروب الأهلية هي خلق تلك البيئة باستخدام القوة كعنصر حيوي لتوطين المشروع، وتفعيل مبدأ استغلال السكان المحليين وتوظيفهم كمقاتلين ومخْبرين لتوفير القوة الذاتية وتجنب التصفية.
بداية، تركت المشاهد والقصص التي تُنقَل من مصادر مختلفة لدى المتابع السعودي البسيط لمجريات الأحداث، أثراً إيجابياً، نظرا لحالة الاستقطاب المذهبي التي تتم تغذيتها محلياً عبر المنابر الدينية والمنصات الإعلامية، وما تبثه بعض المؤسسات الرسمية في خطابها، ما جعل ذلك المتابع منصاعاً لهذه الماكينة الدعائية التي تُحوِّل ممارسات هذا التنظيم الدموية إلى ممارسات "اضطرارية" لا بد منها لمواجهة أخطار، بعضها حقيقي، وأكثرها وهمي تمّ صنعه للانصراف عن القضايا الوطنية والتنموية الكبرى. وظلّ الترحيب ملاحَظاً إلى أن انتقلت تلك الممارسات إلى الداخل السعودي، فتجسد الخطر الذي يمثله هذا التنظيم. ومع ذلك ظلت الأصوات تستنكر بحذر، كون الهجمات كانت تستهدف مساجد وحسينيات للطائفة الشيعية. وسرعان ما انكسر هذا الحذر عندما فجّر داعش مسجد قوات الطوارئ في أبها بجنوب المملكة، وهو مسجد سني والمصلّون فيه رجال أمن. هذا الفعل دمّر صورة التنظيم محلياً بعدما كانت قد أُسبغت عليه في سوريا والعراق صفاتٌ لها صدى إيجابي عند المتلقي السعودي. فأصبح الفصل بين فعل وممارسة التنظيم محلياً وخارجياً أمراً مستحيلاً.
وحتى لو ابتعدنا عن مشاهد قطع الرؤوس وأكل الأكباد والحرق بالأقفاص والدهس بالدبابات.. التي برع بها داعش، نجد أن التنظيم أعطى الضوء الأخضر لمن جنّدهم في السعودية لتنفيذ عمليات مقزِّزة اجتماعياً، ومنها قتل الآباء والأمهات وأبناء العمومة الذين يعارضون فكرهم، ما زاد من الفجوة بينه وبين شرائح المجتمع. وانتهى إلى التفجير الذي ارتكبه في المدينة المنورة عشية عيد الفطر، ففَجع المسلمون عموما بهذه العملية في بقعة مقدسة ليست ميدان صراع. وفُسرت العملية بأنها استهداف للمسجد النبوي ذاته.
القاعدة وداعش تنظيمان يشغلهما حصد المكاسب الميدانية في مناطق الصراع والتوتر، ولكن المواطن العربي يريد ممارسات تتماهى مع الخطاب. من ناحية الخطاب الديني فهناك نجاحات، كون هذين التنظيمين وغيرهما ينهلان من مَعين مرجعية تراثية تُسهِّل محاكاة العقل الباطن المتشبع أصلاً بأطروحاتها وبخاصة في السعودية، إضافة إلى وضع التحديات والقضايا كافة على مقصلة "الحق" و "الباطل". وأما وسائل الإعلام السعودية فتقارب ذلك بمعالجة دينية تحرم هذه التصرفات من دون معالجة أوسع. لكن، لم يعد وقع خانة التحريم مجدياً في المنافسة على تمثيل "الإسلام الصحيح". وهذه المنافسة لن تُنتج حلاً لقضية "الإرهاب" في الوطن العربي.. وأساسها أزمة توظيف البعد الديني في الصراع.