"أبو اليمن" في "أُمّ الدنيا".. محطة هجرة صامتة

منذ وقوع الحرب على اليمن في العام 2015، صار اليمنيون يتوافدون بالآلاف الى القاهرة حتى وصل عددهم مؤخراً قرابة نصف مليون مقيم بصورة دائمة، بينما يصل عدد من يتوافدون للعلاج أو للعبور من أجل الهجرة ما يقارب 300 ألف شخص.
2023-04-10

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
من أماكن تجمع اليمنيين في حي فيصل بالجيزة

إضافة إلى التعليم العالي، اعتاد اليمنيون السفر إلى مصر من أجل العلاج، حتى أن بعض موظفي مطار القاهرة كانوا يسمّون طائرة الخطوط اليمنية "طيارة العيّانين". لم تتغير الحال كثيراً، فما زال اليمنيون ضمن الجنسيات الأكثر زيارةً لمصر من أجل التعليم والعلاج، لكنهم بعد سنة 2015، حين توسعت رقعة الحرب، شاملة جميع المحافظات اليمنية، اندفعوا بأعداد مضاعفة على طريق الهجرة هرباً من جحيم الاقتتال وانسداد أفق الحياة الكريمة.

 كانت مصر ولا تزال وجهة مفضلة لليمنيين، ليس فقط في ما يتعلق بالدراسة الجامعية أو التداوي من الأمراض المستعصية، بل أيضاً في المعاملة الخاصة التي يلاقونها من الحكومة المصرية ومن الشعب الذي ينظر إلى اليمنيين من زاوية "أصل العرب". لذلك تبقى مصر "أم الدنيا" بالنسبة لليمنيين من ناحية عملية ومعنوية، ناهيك عن العلاقات التاريخية بين البلدين. وفي حين لا تزال تستقبلهم بدون تأشيرات مسبقة، اقتصرت الإجراءات التي استحدثتها السلطات بعد الحرب على توفير تقرير طبي للفئة العمرية من 17 الى44 عاماً، وهو ما يمكن الحصول عليه من أي مستشفى أو من مكاتب السفريات في عدن لقاء مبلغ يعادل 15 دولارا. بعد اجتيازهم مطار القاهرة يُمنحون إقامة مجانية لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد بصورة نصف سنوية أيضاً وبرسوم لا تتعدى المئة دولار في كل مرة.

كيف يعيش "أبو يمن" في مصر

 قبل الحرب في اليمن، كان الوافدون منها إلى مصر يفضّلون الإقامة في حيّ المنيل وحيّ الدُّقّي القريبين من وسط البلد. ومنذ العام 2015، صاروا يتوافدون بالآلاف حتى وصل عددهم مؤخراً - بحسب مصدر مسؤول في السفارة اليمنية بالقاهرة - قرابة نصف مليون مقيم بصورة دائمة، بينما يصل عدد من يتوافدون للعلاج أو للعبور من أجل الهجرة ما يقارب 300 ألف شخص. مع هذه الأعداد الكبيرة، إضافة للوافدين الآخرين بأعداد مماثلة أو أكثر من سوريا، ليبيا والسودان، ارتفعت كلفة الإقامة في الأحياء القريبة من وسط البلد. هكذا اتجه الوافدون الجدد إلى الأحياء الشعبية جنوب القاهرة: حيّ فيصل وحيّ أرض اللواء، حتى صار معلوماً لدى عامة المصريين أن هذين الحيّين هما الخيار الأول لسكن اليمنيين. صاروا أيضاً أكثر قدرة على تمييز اليمني من غير الحاجة إلى سؤاله عن جنسيته مثلما كانوا يفعلون في السابق، كما أن هذه القدرة على التعرّف لم تعد تثير استغراب اليمني حين يناديه أحدهم في الشارع: "يا بو يمن".

مقالات ذات صلة

غالبية اليمنيين المقيمين في مصر يعيشون على التحويلات النقدية من خارجها، وغالباً من أقاربهم المغتربين في دول أخرى. وبسبب تزايد أعدادهم باطراد، لجأ بعض المقيمين الذين تتوافر لديهم الإمكانيات المالية إلى الاستثمار في الشقق السكنية أو في المطاعم والمحلات التجارية المتخصصة بالمأكولات والمنتجات اليمنية. وعلى محدودية هذه الاستثمارات مقارنة بتعداد سكان القاهرة الكبرى، فقد وفّرت فرص عمل لكثير من المقيمين والعابرين، كما وفرت فرص عمل للمصريين أيضاً ذكوراً وإناثاً. وهناك من انخرط في الأعمال الحرّة، كسمسرة العقارات وتجارة الأدوية والتسويق الإلكتروني... إلخ.

محطة عبور صامتة نحو أوروبا

إلى كونها وجهة مفضلة للإقامة الدائمة بالنسبة لمعظم اليمنيين القادمين إليها، تُعتبر مصر محطة هجرة للآلاف منهم. فبعد أن يقضوا شهوراً فيها في انتظار تأشيرات الدخول إلى البلدان المتاحة لعبورهم نحو أوروبا، ينطلقون في مغامرة قد يحالف الحظ فيها بعضهم بينما يتعثر آخرون. هؤلاء المتعثرون قد يدفعون حياتهم ثمناً لمغامرة الهجرة المحفوفة بالخطورة، والمحظوظون في النجاة من الموت تتم إعادتهم من حيث أتوا. وعلى الرغم من هذه المخاطر، يفضل غالبية اليمنيين الباحثين عن فرص للهجرة في مصر، سلوك هذا الطريق السريع بدلاً من التسجيل في المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة. ذلك أن خيار التسجيل في المفوضية يستغرق وقتاً قد يطول لسنوات حتى يتم توزيعهم على الدول المضيفة.

غالبية اليمنيين المقيمين في مصر يعيشون على التحويلات النقدية من خارجها، وغالباً من أقاربهم المغتربين في دول أخرى. وبسبب تزايد أعدادهم باطراد، لجأ بعض المقيمين الذين تتوافر لديهم الإمكانيات المالية إلى الاستثمار في الشقق السكنية أو في المطاعم والمحلات التجارية المتخصصة بالمأكولات والمنتجات اليمنية.

يحكي محمود وأمجد قصتيهما بمشاعر متناقضة بين الارتياح لكونهما نجحا في الوصول إلى ألمانيا عبر رحلة المخاطر، وبين الأسى على رفاقهم الذين تقطعت بهم السُّبُل في بيلاروسيا أو في الغابة المشتركة بين حدودها مع بولندا. كلاهما مرّا بالقاهرة. مكث الأول أربعة أشهر ومكث الثاني شهرين ونصف حتى حصلا على تأشيرة دخول إلى روسيا. في السابق، كانت هناك تأشيرات دخول إلى بيلاروسيا مباشرة، لكن الحكومة البيلاروسية منعت تأشيرات الدخول إليها على بعض الجنسيات وبينها الجنسية اليمنية. وللدخول إلى روسيا هناك نوعان من التأشيرات: "دعوة خاصة" وتأشيرة دراسة. كلا التأشيرتين لا يتعدى سعرهما خمسين دولاراً بحسب محمود، لكن السماسرة يبيعونها بـ1500 دولار. وفي القاهرة، هناك سماسرة من جنسيات مختلفة، ويُفضّل المهاجرون التعامل مع سماسرة من جنسياتهم، وكل سمسار مرتبط بآخر في روسيا، ومرتبط بشبكة من المهرّبين في البلدان التي تمرّ فيها الرحلة.

في طريقه إلى روسيا منتصف العام 2022، لم يواجه محمود ورفاقه الثلاثة صعوبة في اجتياز مطار القاهرة. لكن أمجد، الذي سافر من مطار الغردقة في وقت لاحق، تم احتجازه مع مجموعته (خمسة أشخاص) في المطار إلى اليوم التالي بحجة أن التأشيرات مزورة. وبعد أن تأكدت سلطات المطار من صحة التأشيرات أفرجت عنهم، لكن كان عليهم شراء تذاكر سفر أخرى بقيمة مضاعفة بلغت 1500 دولار للتذكرة الواحدة كما أفاد أمجد. أما محمود فبدأت العراقيل تواجهه من مطار سوتشي، حيث تم احتجازه ورفاقه لساعات خضعوا خلالها لتحقيقات منفردة. وإزاء تهديدهم بإعادتهم إلى مصر، لم يكن أمامهم سوى التزام الهدوء والإصرار على أن أوراقهم سليمة. عندما خرجوا من المطار كان في انتظارهم مهرّب أخذهم إلى شقة في المدينة، وبعد ثلاثة أيام حجز لهم رحلة جوية إلى موسكو. 

إلى كونها وجهة مفضلة للإقامة الدائمة بالنسبة لمعظم اليمنيين القادمين إليها، تُعتبر مصر محطة هجرة أيضاً. فبعد أن يقضوا شهوراً فيها في انتظار تأشيرات الدخول إلى البلدان المتاحة لعبورهم نحو أوروبا، ينطلقون في مغامرة قد يحالف الحظ فيها بعضهم. أما المتعثرون فقد يدفعون حياتهم ثمناً لمغامرة محفوفة بالمخاطر الشديدة، والمحظوظون في النجاة من الموت تتم إعادتهم من حيث أتوا.

في هذه المغامرة القاتلة، ليس اليمنيين استثناءً عن بقية الجنسيات المحكومة بالشتات بسبب الحروب وانهيار مقومات العيش الكريم في بلدانهم. وكلما استمرت الحرب والانقسام السياسي، وكلما تعذرت حلول السلام وعودة الحياة إلى طبيعتها، زاد عدد الشباب الباحثين عن وطن بديل 

في موسكو افترقت المجموعة، كل اثنين ذهبا مع مهرب مختلف، لكن الوجهة هي نفسها. صادف محمود ورفيقه الذي بقي معه شباناً يمنيين في موسكو يتهيؤون للانطلاق إلى بيلاروسيا. ولقاء مئتي دولار للفرد، استأجر لهم المهرّب سيارة إلى بيلاروسيا في رحلة استغرقت تسع ساعات. عند وصولهم نقطة التجمّع كان عليهم التوجه إلى سوق شعبي لشراء مستلزمات عبور الغابة: ملابس للبرد وأكل وشرب وأدوات حادة لقصّ الشبك الحديدي الخاص بالحدود البيلاروسية. في السوق التقى محمود بمهاجرين يمنيين كثر وبعضهم عالقون بسبب نفاد نقودهم. بين العالقين كان رجل كبير في السنّ وعائلة لديها أطفال صغار، ولا يبدو أن محمود سينساهم إلى آخر حياته. كانوا حائرين ويلتمسون المساعدة من بقية المهاجرين، ولم يكن لديه فائض مال ليتقاسمه معهم. غادر نحو الغابة مع مجموعة من عشرة أشخاص، مثقلاً بتبكيت الضمير وبالخوف والقلق من الغابة وحرس الحدود المتربصين بالمهاجرين بلا رحمة. عبروا وسط مستنقعات وصادفوا جثثاً لمهاجرين تاهوا في الغابة، وبعد أن قصوا الشبك الفاصل بين الحدود، لحقهم الجنود البيلاروس وانهالوا عليهم ضرباً بالعصيّ وأعقاب البنادق.

وكما لو أن الاعتداء بالضرب طقس يمارسه الجنود البيلاروس على جميع المهاجرين، نال أمجد ورفاقه من الضرب والإهانات أسوأ مما حدث لمحمود ومجموعته، حتى أن الجنود لم يتوقفوا عن ضربهم إلا بعد أن أغمي على بعضهم. نزعة عدوانية غير مبررة. ففي النهاية يجمع الجنود المهاجرين على دفعات من 100 الى 500 مهاجر ويفتحون لهم طريق الدخول إلى الحدود البولندية، وهناك عليهم تفادي حرس الحدود البولنديين الذين يمكن أن ينهالوا عليهم بالضرب في حال أمسكوا بهم ويعيدونهم من حيث أتوا. رحلة الموت هذه لا تنتهي هنا، إذ يتوجب على المهاجرين التواصل مع مهربين آخرين في بولندا لتوفير وسيلة نقل تعبر بهم الحدود مع ألمانيا، وهو الفصل الأخير في الرحلة.

يحدث خلال هذه الرحلة أن يتعرض المهاجرون للاحتيال من قبل المهربين أو من قبل سائقي السيارات التي تقلّهم. حدث ذلك مع أمجد ومجموعته الذين أنزلهم السائق في مدينة "منسك" عند محطة للتزود بالوقود بحجة عدم لفت الأنظار إليهم، ثم تركهم ومضى مصطحباً معه كل حقائبهم وأدواتهم لعبور الغابة، ما اضطرهم إلى شراء أدوات جديدة. وعلى الحدود البولندية الألمانية أبلغ المهربون محمود ومجموعته بوجود سيارة تنتظرهم على بعد خمسة كيلومترات، لكنهم اضطروا إلى قطع مسافة تزيد على خمسين كيلو مترا مشياً على الأقدام حتى تمكنوا من العثور على سيارة.

في هذه المغامرة القاتلة، ليس اليمنيين استثناءً من بقية الجنسيات المحكومة بالشتات بسبب الحروب وانهيار مقومات العيش الكريم في بلدانهم. وكلما استمرت الحرب والانقسام السياسي، وكلما تعذرت حلول السلام وعودة الحياة إلى طبيعتها، زاد عدد الشباب الباحثين عن وطن بديل.

مقالات ذات صلة

 يظن أمجد أنه كان من آخر الشباب الذين فكروا بالهجرة بعد ثمان سنوات من الحرب في البلاد، لكنه يقيس حاله مقارنة بأصدقائه الذين سبقه معظمهم إلى الخيار ذاته. وعلى الرغم من ذلك، يدرك أنه ليس سوى واحد من عشرات آلاف الشباب الماضين نحو الهجرة بصمت وبلا توقف. القليل منهم يستطيعون اجتياز طريق الموت والكثيرون يعودون إلى اليمن أو إلى مصر لأسباب تتعلق إما بنفاد النقود أو لتعثر حظوظهم في المنافذ الرسمية وغير الرسمية للبلدان التي يعبرونها. 

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه