عندما ترأس نهرو حكومة الهند، في العام 1947، كان قراره الأول تخصيص ثلث ميزانية الدولة للبحث العلمي، وقتها عارض الهنود قراره، واتهموه بالجنون، واعتبروا أن بلداً فقيراً مثل الهند لا يمكن أن يخصص ثلث ميزانيته للبحث العلمي ويتجاهل الأمور الأولى بالإنفاق. إلا أن نهرو أصر على قراره وقال كلمته الشهيرة: "نحن أفقر من أن نستغني عن البحث العلمي".
لم يستوعب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هذا الدرس بعد قرابة 70 عاما عليه، وهو الذي نحكيه كثيرا للتدليل على أهمية التعليم وضرورته في بناء الدول الحديثة. وعندما سُئل عن خططه للتعليم والصحة، قدر الوقت الذي قد يستغرقه حل أزمة التعليم بـ12 أو 13 عاماً، أما الصحة فاعتبر أن إصلاحها يحتاج لوقت طويل لم يحدده. وبينما اختفى تماماً البحث العلمي من أجندة أولويات الرئيس المصري لمصلحة ملفات مثل التسليح والمشروعات العملاقة، التي ما إن يُسأل عنها حتى تختلف نبرته، وتتميز بالحسم والعجلة، فيقول: "امتلاك القدرة العسكرية في حد ذاته هدف..."، و "إحنا متأخرين كتير، ومحتاجين ننجز كتير عشان نلحق نحقق الحلم، تأخرنا كثيراً ونحتاج لمزيد من العمل بأحجام كبيرة". وهناك عشرات الجمل التي تؤكد هذا التوجه وتبين أولوياته، وترتيب الصحة والتعليم والبحث العلمي فيها.
وفي الموازنة العامة للدولة التي أعدتها الحكومة مؤخرا وأقرها مجلس النواب، انكشف التوجه الى الصحة والتعليم والبحث العلمي، خاصة مع تجاهل الحكومة الالتزام بالنص الدستوري الذي ألزمها بتخصيص 10 في المئة كحد أدنى من الناتج القومي للبلاد للإنفاق على القطاعات الثلاثة، مبررة عدم تطبيقها هذا الإلزام بعجز في الموازنة وبالأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، مع أن تلك الأزمة لم تمنع الرئيس من التباهي والتفاخر بالبدء بتنفيذ 80 مشروعا، غالبيتها إنشاءات بتكلفة تريليون و400 مليار جنيه، بما يعادل قرابة 50 في المئة من الناتج المحلي للبلاد.
مهمة البرلمان
ألزم الدستور المصري الحكومة بعرض مشروع الموازنة العامة للدولة ("كافة إيرادات الدولة ومصروفاتها") على مجلس النواب قبل ثلاثة أشهر على الأقل من بداية السنة المالية (في الأول من تموز/ يوليو)، ليقرها الأخير قبل نهاية حزيران/ يونيو من كل عام، وهو ما نفذته حكومة المهندس شريف إسماعيل بإرسال مشروع موازنتها للعام المالي 2016/2017 إلى البرلمان في أول نيسان/أبريل الماضي، بتأخر يقترب من الشهرين عن الموعد المعتاد. إلى جانب أن وزيري المالية والتخطيط لم يرسلا إلى البرلمان خطتهما بشأن البيان المالي والاقتصادي لتلك الموازنة قبل 22 أيار/ مايو الماضي. وهذا التأخر في عرض الموازنة والأرقام والخطط المرتبطة بها لم يحل دون موافقة البرلمان السريعة عليها وإقرارها رسمياً. مهمة البرلمان، وفقا للدستور، هي التأكد من أمرَين: الأول التزام الموازنة بالمواد 18 و19 و21 و23 التي تلزم الدولة بتخصيص 10 في المئة من الناتج القومي الإجمالي للبلاد للإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي، بواقع 3 في المئة من الناتج القومي للصحة، و4 في المئة للتعليم إلى جانب 2 في المئة للتعليم الجامعي وواحد في المئة للبحث العلمي. والثاني التأكد من عدم تضمن الموازنة أية أعباء إضافية على المواطن، سواء بارتفاع أسعار خدمات بعينها أو ضرائب أو غيرها، وفقاً للإلزام الوارد في المادة 124 من الدستور. البرلمان مرر الموازنة رغم عدم التزامها لا بالنسب الدستورية ولا بعدم تحميل المواطن أعباء جديدة.
لا مانع من مخالفة الدستور
قبل عرض الحكومة الموازنة على البرلمان صرح وزراء المالية والتخطيط والشؤون القانونية ومجلس النواب للصحف بأن الحكومة لم تستطع تحقيق الالتزام بالنسب بسبب عجز الموازنة. وزاد وزير الشؤون القانونية ومجلس النواب المستشار قائلا: "نعم الموازنة مخالفة للدستور، لكن نحن أمام قوة قاهرة، مفيش إيرادات، نجيب منين، نطبع فلوس؟". اعتراف الحكومة هذا كان كافياً لرفض البرلمان إقرار الموازنة، إلا أن رئيس البرلمان وغالبية نوابه وجدوا أن هذه المخالفة لن تتحملها الحكومة وإنما.. الدستور نفسه، فقال رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، في تقرير أعدته لجنته، إن الالتزام بتلك النسب أمر مستحيل وخيالي، لأن الحكومة لا تعرف كم هو الناتج القومي الإجمالي للبلاد، ومن ثمّ فليس من المنطقي أن يلزمها الدستور بتخصيص أي نسبة منه للتعليم أو الصحة أو غيره... وتابع: قرأت الدستور جيداً وسألت وزير التخطيط، رغم معرفتي بالإجابة مسبقاً، هل تعرف الحكومة الناتج القومي الإجمالي؟ فأجاب بأن "الناتج القومي للبلاد رقم خيالي وليس واقعيا".
وحمّل رئيس لجنة الخطة والموازنة لجنة الخمسين التي كتبت دستور 2014 هذا الخطأ قائلا: "اللجنة لم تفرق بين الناتج القومي الإجمالي وبين الناتج المحلي الإجمالي، بالتأكيد هي كانت تقصد الناتج المحلي الإجمالي". وزاد بأن تضمين الدستور نسبا مئوية بعينها وانحيازه لقضايا بعينها خطأ فادح وغير مسبوق في أي دستور بالعالم... مع أن رئيس البرلمان وعددا من أعضائه كانوا ضمن المشاركين في كتابة الدستور المنتقَد، إلا أن أيا منهم لم يعترِض، بل وصف رئيس البرلمان أعضاء "لجنة الخمسين" التي أعدت المسودة النهائية للدستور بالجهل، وهو ما لم يعترض عليه سوى النائب خالد يوسف كونه عضوا سابقا بلجنة كتابة الدستور.
التلاعب بالأرقام: في الصحة
توافقت الحكومة وبرلمانها على خطأ الدستور. أما الناتج القومي الإجمالي للبلاد فهو "مجموع السلع والخدمات المنتجة من الموارد المملوكة للدولة سواء داخلها أو خارجها" وقد قدرته الحكومة بـ 3.25 تريليون جنيه، واحتسابها من الناتج المحلي الإجمالي وهو "قيمة السلع والخدمات المنتجة من الموارد الموجودة محلياً" والمقدر بـ2 تريليون و772 مليار جنيه. ورغم ذلك، لم يسلم الأمر من التحايل، فحسب وكيل لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، فإن وزارة المالية خصصت 48 مليار جنيه لموازنة الصحة في مشروع الموازنة العامة للدولة، وتلك النسبة لا تزيد عن 1.6 في المئة من الناتج المحلي لمصر، ولكن لجنة الخطة والموازنة في البرلمان بالتعاون مع وزارة المالية، اتبعت طريقة جديدة لحساب الإنفاق الحكومي على الصحة، وبدلا من إلزام وزارة المالية بتخصيص 100 مليار جنيه لموازنة وزارة الصحة، قامت اللجنة بحصر كل الاعتمادات التي تخصصها الدولة تحت بند الإنفاق على الصحة بإضافة الأموال المخصصة لمستشفيات وزارة الداخلية والقوات المسلحة، والهيئة العامة للتأمين الصحي إلى جانب الأموال المخصصة للإنفاق على شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام التي تعمل في مجال تصنيع الأدوية، إضافة إلى احتساب الأموال التي تخصصها الدولة للجهاز التنفيذي والهيئة القومية لمياه الشرب وشركات المياه والصرف الصحي. وأضاف الوكيل أنه بعد احتساب موازنات تلك الجهات وصلت الاعتمادات المدرجة بالموازنة لقطاع الصحة الى 101.3 مليار جنيه، بنسبة 3.65 في المئة من الناتج المحلي... رغم أن الدستور ألزم بـ 3 في المئة فقط!
اعتمدت هذه التعديلات على نقل بعض البنود من باب لآخر، ولن يترتب عليها أية إضافة حقيقية لقطاع الصحة أو أي تحسن في مستوى الخدمة الطبية المقدمة للمواطن، وفقا للطبيبة منى مينا وكيل نقابة الأطباء، إذا لم يترتب عليها تمكين المواطنين العاديين من تلقي الخدمة الطبية بالمجان في المستشفيات التابعة للوزارات الأخرى، مثل مستشفيات الداخلية والقوات المسلحة ومستشفيات الكهرباء وغيرها. وهو ما لم ينفه وكيل لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان، مفسرا بأن الحكومة لا تملك الالتزام بالنسب الدستورية للإنفاق على الصحة، لعدم وجود موارد من ناحية، ولفشل منظومة الصحة في مصر من ناحية أخرى، وأن إنفاق 101 مليار جنيه على الصحة التي خصصت لها الحكومة 45 مليار جنيه فقط في موازنة العام الماضي "خراب بيوت وإهدار لمليارات الجنيهات في منظومات فاشلة تحتاج إلى إعادة هيكلة"، ومن ثمَّ لن يترتب أي تغيير في الإحصاءات الرسمية التي سبق وأعلن عنها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بشأن احتلال مصر المرتبة 166 في العالم (أي في الجزء الأسفل من السلم) من حيث الإنفاق الحكومي على الصحة.
... وكذلك في التعليم
واتّبع البرلمان والحكومة المنهج نفسه للوصول إلى النسب الدستورية المقررة للتعليم ما قبل الجامعي والجامعي، إلى جانب البحث العلمي،عن طريق الكراسي الموسيقية والإحلال والتبديل، فخصصت وزارة المالية في البداية 103 مليارات جنيه لموازنة التعليم قبل الجامعي بنسبة 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، بزيادة مقدارها 6 مليارات جنيه فقط عن العام المالي الماضي. ولكون تلك النسبة تقل عن نسبة الـ 4 في المئة، سواء من الناتج القومي الإجمالي أو الناتج المحلي التي ألزم بها الدستور، أعادت الحكومة بمساعدة البرلمان احتساب كل الأموال التي تنفقها الدولة على الأنشطة القريبة أو البعيدة من التعليم قبل الجامعي، مثل "موازنة وزارة التربية والتعليم، موازنة التعليم الأزهري، منح دراسية بوزارة التضامن الاجتماعي، موازنة الهيئة القومية لضمان وجودة التعليم" وغيرها... ليصل الرقم في النهاية إلى 136 مليار جنيه بنسبة 4.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
تلك الآلية مكّنت الحكومة من الالتزام الشكلي بالنسب الدستورية للإنفاق على الصحة والتعليم قبل الجامعي، إلا أنها لم تجد نفعا عند جمع الاعتمادات المخصصة لقطاعَي التعليم الجامعي والبحث العلمي بالموازنة، فلم تستطع وزارة المالية بالتعاون مع لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان، احتساب أكثر من 50 مليار جنيه للتعليم الجامعي بنسبة 1.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (الدستور ألزم بألاّ يقل الإنفاق الحكومي هنا عن 2 في المئة)، و22.5 مليار جنيه للبحث العلمي بنسبة 0.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (الدستور ألزم بـ 1 في المئة كحد أدنى). وهو ما بُرِّر بعدم وجود ضمانة لعدم إنفاق المليارات التي خصصت للتعليم الجامعي والبحث العلمي كأجور وامتيازات للعاملين بالجامعات وبالمراكز البحثية! واشترط على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تقديم الخطط التي ستنفذها لضمان عدم استغلال المبالغ التي دخلت على موزانة تلك الجهات في مرتبات ومكافآت للعاملين بها.
ملاحقات قضائية
لم تنكر الحكومة (ولا البرلمان) مخالفة الموازنة العامة للعام المالي 2016/2017 للدستور، سواء في التحايل على النسب الدستورية التي كلف الدستور باقتطاعها من الناتج القومي الإجمالي للبلاد، فقدرتها الحكومة بمساعدة البرلمان من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى تضمن الموازنة ارتفاعا ضمنياً لأسعار السلع والخدمات، بما يخالف الدستور أيضاً. وهو ما استندت إليه نقابة المهن الطبية في دعوى قضائية أقامتها أمام محكمة القضاء الإداري (محكمة تفصل في المنازعات المقامة من المواطنين ضد قرارات رئيس الجمهورية وحكومته)، وطالبت خلالها ببطلان الموازنة العامة للدولة لمخالفتها نصوص الدستور. ووفقا لأساتذة القانون، فإن حسم تلك الدعوى مسألة وقت، لكون الموازنة وفقا لهم تنطق بمخالفتها تلك. ويُنتظر من القضاء الإداري أن يحيل الدعوى إلى المحكمة الدستورية العليا (أعلى محكمة في مصر، تفصل في مدى اتفاق القوانين مع نصوص الدستور) لتصدر حكماً بعدم دستورية قانون الموازنة... وهو ما تتمناه الحكومة وفقا لرواية الخبراء الاقتصاديين. إذ يبدو أن الحكومة تتمنى تعطّل إقرار الموازنة الجديدة للعمل بالموازنة القديمة، وحتى تتحرر من الالتزامات الدستورية التي تجعلها مضطرة لإنفاق ما يقرب من 320 مليار جنيه على الصحة والتعليم.