الخيال السياسي للمجتمعات قبل خيال الثوار

المشكلة بين الثوار و"عموم الناس" ليست أزمة ثقة فقط، أيّاً كانت أسبابها الموضوعية والذاتية، كما أنها ليست مشكلة أمية ثقافية تجعل "العموم" بعيدين عن إدراك المراد من خطاب "الخصوص/النخبة"، بل رأيتها أزمة إحباط توقعات.
2023-04-08

إسماعيل الإسكندراني

باحث في علم الاجتماع السياسي ــ من مصر


شارك
ميدان التحرير، القاهرة - مصر.

من أهم المراجعات التي استغرقت مني سنوات في سجني، كانت وقفتي المطولة مع قضية الخيال السياسي. كنا نتجادل، كباحثين ثائرين أو كثوار باحثين، حول الخيال السياسي للفاعلين من أحزاب وجماعات وحركات، فنقارن مثلاً الخيال الإصلاحي عند الإخوان المسلمين بالخيال الثوري عند التروتسكيين من الماركسيين، أو نفاضل بين الخيال التقدمي التحرري عند القوى المدنية من الليبراليين واليساريين وبين الخيال الرجعي الاستبدادي عند السلفيين من الإسلاميين والقوميين على حد السواء، وهكذا... ثم دخلتُ السجن لسبع سنوات حيث عشت مع تنوع واسع من الجنائيين، أقرب من السجناء السياسيين في تمثيلهم للتنوع المصري، أفقياً ورأسياً. وكانت الوقفة التي غيّرت من نظري جذريّاً في موضوع الخيال السياسي.

صحيح أن الخيال السياسي حاكم للخطاب، ومن ثم السلوكيات التنفيذية للفاعلين في المجال العام، بما في ذلك النقابات المهنية والاتحادات الطلابية والصحافيون، إلا أن الاستجابة "الشعبية" للخطابات الأيديولوجية، بل حتى المطلبية المباشِرة، مرهونة بالخيال السياسي لدى قطاعات "الشعب"، أي الجمهور المعنيّ والمستهدَف بالخطاب السياسي. فحتى حين زالت حواجز الخوف من الملاحقة الأمنية عقب الثورة مباشرة، لم تجد قطاعات واسعة من الثوار صدىً واسعاً لخطابها لدى "عموم الناس"، فانعكس ذلك في العزوف عن المشاركة أو التأييد الانتخابي، مع الاتجاه إلى الإسلاميين السياسيين، وهم محافظون غير ثوريين، وقد كانوا متحالفين مع أكثر مؤسسة انضباطية تسلطية في البلاد. ثم انقلبت الجماهير على خيارها الديمقراطي المؤقت وارتمت في أحضان أبعد الكيانات عن الثورية.

هل كان ذلك لأن الكيانات المحافظة الرجعية ذات النزعات الاستبدادية، الأقرب إلى الميول الشمولية، استخدمت وسائل غير نزيهة في الحشد والتعبئة، كالمعونات الغذائية باعتبارها رشاوى انتخابية مثلاً؟ أم أن الناس لم يفهموا الخطاب الثوري المدني؟ أو فهموه لكنهم لم يهضموه ولم يستسيغوه فعزفوا عنه وعن مخاطِبيهم به؟

أدركتُ في السجن أن "عموم الناس" يفهمون الخطاب الثوري جيداً، ولا يُعضلهم فيه سوى بعض المصطلحات السياسية والمفاهيم السوسيولوجية النقدية التي قد لا يعيها كثير من أساتذة الجامعات، لجدّتها عليهم أو لتعقيد سياق بزوغها وتطورها. والمشكلة بين الثوار و"عموم الناس" ليست أزمة ثقة فقط، أيّاً كانت أسبابها الموضوعية والذاتية، كما أنها ليست مشكلة أمية ثقافية تجعل "العموم" بعيدين عن إدراك المراد من خطاب "الخصوص/النخبة"، بل رأيتها أزمة إحباط توقعات. ف"الجماهير" تنتظر من "النخب" الفاعلة ما يوافق خيالها وتطلعاتها، ولا تجده في خطابهم، فيعزفون عنهم، بل قد يلجأون إلى التصويت العقابي ضدهم في بعض الأحيان.

الخيال الحاكم لصورة الحاكم

من أوائل المواقف التي أضاءت لي ركناً من هذا الجانب المظلم في الفكر السياسي المصري المعاصر كان تعليق أحد المساجين على ضابط مباحث دمث الخلق، وهو عملة نادرة في الشرطة المصرية، خصوصاً حين يشهد له بذلك سجناء جنائيون، فقال: "فلان بيه؟ دا دكتور مش ضابط مباحث!". كان حديثه في سياق المديح وذِكْر الضابط بالخير، لكنه حمل في طياته ما هو أبعد من ذلك، إذْ أن السجناء الجنائيين طالما اشتكوا من سوء معاملة الأطباء في السجون، فلم يكن التشبيه بالطبيب سوى تشبيه مجازي، بعيد عن الواقع، يوافق صورة متخيّلة عن الدكتور الحكيم في الخيال الشعبي الموروث.

فعلى الرغم من أنه أراد أن يمدحه، إلا أنه - بشكل غير مباشر - رأى أن حسن معاملته ودماثة خلقه يقدحان في مؤهلاته كضابط مباحث له صلاحيات أكبر من مأمور (آمر) السجن على الرغم من صغر رتبته وحداثة سنه. فإذا أخذنا في الاعتبار أن الجنائيين خصوصاً، من بين المجتمعات الشعبية العريضة التنوع في مصر، يعتبرون أن الشرطة هي الحكومة، وأن الحكومة هي الدولة، فربما نقتبس من مقولة التراث السلطوي "السلطان ظل الله على الأرض" ما يمكن أن نصوغه في مقولة معاصرة: "ضابط المباحث ظل الدولة في السجن (أو في الشارع/ قسم الشرطة)". فإذا كان السجين الجنائي هو المواطن، فإن ضابط المباحث هو الحاكم. وحين يخرج الجنائي من السجن فإنه لن يحمل فوق رأسه لافتة يقول فيها إنه سجين سابق، بل سيكون - فعلاً وحقاً - المواطن الذي يحلو للخطاب الإعلامي الشائع وصفه بـ"رجل الشارع".

ما عايشته في السجن يفسِّر الكثير مما يجري في المجتمع خارج جدران السجن هو أني وجدتُ أن قلة قليلة من الأسوياء ممن نميل إلى معاشرتهم وصداقتهم في الحياة العادية، يتألم لأقل انتهاك معنوي أو لفظي. والأهم، والأكثر ألماً، أنهم لا يعبّرون عن انزعاجهم هذا في مواجهة السلطة إلا فيما ندر.

تكررت المواقف، وتعددت التعبيرات العفوية التي تؤكد المعنى وتثبته، ولا تنفيه: أن الحاكم المعترف له - شعبياً - بأهليّته للحكم هو الحاكم القوي الصارم، الشديد العقاب. فالشدة والعنت في خيال المجتمع السياسي هي الحـــزْمُ المطلوب. والرفق واللين هما الضعف والرخاوة المكروهان. ولم أدرِ لماذا تأخرتْ وتراجعت قيمة العدل كمعيار للحكم على صلاحية الحاكم: هل لفقدان الناس الأمل في العدالة التي غابت وطال غيابها؟ أم لأنها ليست في قائمة أولويات نظرتهم إلى الحاكم المنشود؟ أم لأنهم عاجزون عن تخيل شيء لم يجربوه من قبل؟ لم أصل إلى ترجيح في ذلك، لكن الأكيد - على ضوء تجربتي ومعايشتي - أن العدل، كمعيار حاكم وميزان، غائبٌ عن تطلعات قطاعات واسعة من الناس إلى حاكمهم المنشود، بل إن "الوعد بالعدل" ليس مما يؤخذ بجدية، ربما لقناعة كامنة بأن بلد الفراعين قد كُتب عليها مخاصمة العدل خصاماً سرمدياً، منذ الأزل وإلى الأبد!

على النقيض من الضابط/الحاكم الدمث الخلق، ذكر مجموعة من السجناء ضابط مباحث قام بتعذيبهم لاستجوابهم بخصوص شيء تافه قد جرى في الغرفة التي انتقلتُ إليها لاحقاً، بعد نقل هذا الضابط في الحركة السنوية الاعتيادية. فبعد أن ذكروا بسالتهم في تحمل التعذيب، تلك التي حملتهم على الإنكار وعدم ذكر اسم أي من زملائهم، وهو ما نال إعجاب الأفراد (أمناء الشرطة والمساعدين) الذين يقومون بتنفيذ الضرب (التعذيب) فهمسوا لهم في آذانهم - أثناء الضرب - أن يثبتوا على موقفهم، وبعد أن ذمّوا في الضابط ظلمَه وجبروتَه، ختموا حديثهم بإعلان إعجابهم به قائلين ما معناه: "هذا هو الضابط الحق!"، لشدته وتفننه في استنطاقهم بما يريد أن يسمع، مهما انتهك في ذلك من قوانين. فإذا استبدلنا بالضابط صفة الحاكم، فاعل صفاته تلك تمثل "الحاكم الحق" في خيال هؤلاء!

وإذا اعتبرنا هذه المجموعة فئة غير معبِّرة عن عموم الناس، لاعتبارها من معتادي الإجرام وأرباب "السوابق" الجنائية، ممن يتعاملون مع التعذيب البدني كأنه مباراة في قوة التحمل بينهم وبين "الحكومة"، فإن شواهد أخرى كثيرة تؤدي إلى النتيجة ذاتها، وإن كانت بدرجات ألطف وأقل حدة. الشاهد هنا، أنه حتى سجناء جرائم الأموال العامة، وهم "الأرقى" اجتماعياً وطبقياً من جنائيي جرائم النفس والمخدرات، لا تختلف توقعاتهم لنموذج "الحاكم" الجيد. والذي يدفعني إلى اعتبار ما عايشته في السجن مفسّراً لكثير مما يجري في المجتمع خارج جدران السجن هو أني رأيت الأسوياء أيضاً، ممن نميل - كباحثين وكتّاب مهتمين بالتحول إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان - إلى معاشرتهم وصداقتهم في الحياة العادية. فوجدت من يتألم لأقل انتهاك معنوي أو لفظي، لكنهم قلة قليلة. والأهم، والأكثر ألماً، أنهم لا يعبرون عن انزعاجهم هذا في مواجهة السلطة إلا فيما ندر. ربما لا يستطيع أحد كبار السن أن يتمالك نفسه من الإهانة فيبكي بحرقة، فيرق له الضابط ويستثنيه من وصلة الإهانات، الشاملة الأمهات وأعضاءهن الجنسية.

فالذي تقبّلته على مضض، من دون تصالح معه، بل تجرّعته علقماً، أن المجتمعات المتنوعة المختلفة التي تشكل في مجملها ما يسمى بالشعب المصري لا تتخيل حاكماً جيّداً يتسم - أول ما يتصف - بالعدل والرحمة، بل بالقوة والحزم والقدرة على الضبط. ثم بعد السيطرة و"الاستقرار"، قد يتفاوض الأقلية - نحن - مع الأكثرية حول معايير مثل الحقوق والحريات. فإذا حاولنا أن نضع الاقتصاد في "عبارة حقوقية"، كان الرد جاهزًا باعتباره ركناً من أركان "الاستقرار"، الذي لا يتم إلا بالضبط والربط.

هذا هو ما وجدته، ولا أزعم أنه "الواقع"، لكنه - بالتأكيد - جزء منه. وضد هذا فليعمل العاملون، من أسفل لا من أعلى!

خيال ذكوري بالضرورة

فإذا توقعت المجتمعات المصرية من حاكمها، الذي يُنتظر منه "الضبط والربط" لتحقيق الاستقرار (الذي صار قيمة مطلوبة لذاتها مع تعاقب عقود الاستبداد)، أن لا يكون سوى الصارم الباطش، فهل تقبل تلك المجتمعات مرشحةً - امرأة - لمنصب رئيس الجمهورية؟ وإذا كانت التعليقات الرائجة على كفاءة فلانة الوزيرة أو النائبة أو سيدة الأعمال تدور حول أنها "في نهاية اليوم ترفع رجليها"، فهل يدرك الثوار أي مستنقع آسن يريدون أن يحرروا مجتمعاتهم منه؟!

فإذا تغاضينا عن منصب الرئاسة، كأعلى منصب في الدولة، كنوع من المواءمة مع الواقع البعيد جداً عن المأمول، وتأمّلنا توقعات المجتمعات المحلية من الشخصيات العامة النسائية، ظهرت لنا جوانب لا نحب أن نناقشها في خطاباتنا السياسية المفصومة عن الواقع. فالمرأة الناجحة لكي تكون "محترمة"، فهي إما محجبة أو - على الأقل - محتشمة، ويفضل أن تكون قليلة الحظ من الجمال، ولن تنال الرضا إلا إذا كانت حازمة لدرجة "الاسترجال"، وساعتئذٍ تنال الشهادة الشهيرة بكونها "امرأة بمئة رجل"، من دون أن يُتسامح معها في أخطاء رجل واحد من هؤلاء المئة!

الذي تقبّلته على مضض، من دون تصالح معه، بل تجرّعته علقماً، أن المجتمعات المتنوعة المختلفة التي تشكل في مجملها ما يسمى بالشعب المصري لا تتخيل حاكماً جيّداً يتسم - أول ما يتصف - بالعدل والرحمة، بل بالقوة والحزم والقدرة على الضبط. ثم بعد السيطرة و"الاستقرار"، قد يتفاوض الأقلية - نحن - مع الأكثرية حول معايير مثل الحقوق والحريات.

حتى الاستثناءات، التي تؤكد الشائع ولا تنفيه، من أمثال بعض "المِعلّمات" في أنشطة تجارية أو صناعية أو خدمية مشروعة، أو غير مشروعة في المجال الإجرامي الجنائي، حيث تفرض بعض النساء أنفسهن على مجتمعات ذكورية، فإنها تذكر كأخبار غير اعتيادية ونوادر وأمثال ومواعظ. فلو سجّل الرجال إعجابهم بإحدى هاتيك النساء، فإنهم لا يرجون تكراره عموماً، ويحاربون أن تكون ابنة أحدهم أو أخته هي الامتداد للـ"حالة"، ولا أقول "النموذج"، محل الإعجاب.

فإذا استسهل "التنويريون" تشخيص هذه الانحيازات بشيوع الأمية وذيوع الخطاب السلفي العائد من الخليج في عهد اقتصاد النفط الريعي، فهل لنا أن نذكّرهم بأن مؤسس دولة التحرر الوطني من الاستعمار، الذي "منح" المرأة حق التصويت والترشح للمجالس النيابية، حين اختار "حكمت أبو زيد" لتكون أول وزيرة أنثى، كان من بين أسباب تفضيلها على سواها من المرشحات للمشاركة هي أنها ليست جميلة؟ وهل لنا أن نذكّرهم أنه منذ "حكمت أبو زيد" قد اختصت النساء بوزارة الشؤون الاجتماعية، على اختلاف تسمياتها؟ فهل في ذلك التنميط دلالة على المد السلفي؟ أم دليل على الجذور الذكورية الراسخة في تربة أراضي المجتمعات "الوطنية"؟ ولا أقصد بهذا السؤال أن الوضع في المجتمعات - على مستوى العالم - مثاليّ للنساء، بل أحيلُ إلى تاريخ بزوغ وتجذر نظام دولة التحرر الوطني من الاستعمار، السابق لتاريخ "المد النفطي السلفي الصحراوي"، كما يحلو لكثيرين أن يقتفوا أثر "جلال أمين" في تضخيم أثره في الثقافة المصرية المعاصرة، كما فعل في مقالاته التي جمعها في كتاب شهير سماه "ماذا حدث للمصريين؟" وتعامل معه الجمهور كمرجع علمي، وهو لا يعدو كونه مقالات انطباعية، كما صرح الكاتب في أواخر أيامه في حوار صحافي!

وفي سياق نظرة المجتمع الذكوري إلى المرأة كجسد مثير للشهوة، ربما يتعجب كثيرون إذا عرفوا أن المساجين الجنائيين، مهما طالت فترات سجنهم، فإنهم أبعد ما يكونون عن التحرش الجنسي أو مجرد ذكر أجساد النساء في السجن بشكل غير لائق، خصوصاً من يرونهن من طبيبات أو ممرضات أو موظفات إداريات في السجون. منشأ العجب أن هؤلاء السجناء قادمون من مجتمعات طالما سوّغت التحرش الجنسي للجناة المحرومين من الزواج اليسير، ودائماً ما وجهت اللوم إلى الضحايا على ملبسهن أو تحدثهن أو مجرد خروجهن من منازلهن. كان يفترض حين يُسجن مواطنو هذه المجتمعات وتطول فترات حرمانهم الجنسي أن يزداد سُعارهم وتتضاعف جرأتهم على "أي أنثى" تطاولها أعينهم، لكن العكس تماماً هو ما رأيته. بل إنهم يمسكون حتى عن الحديث عن أي من هؤلاء النساء، ولو داخل الزنازين. ربما يكون الخوف من الوشاية، التي ستقود حتماً إلى عقاب أليم، هي التي أمسكت ألسنتهم، فضلاً عن عيونهم وأيديهم، لكن الشاهد هنا - في تجربتي ومعايشتي - هو أن مضمون الخطاب حين يخرج من السجن إلى الحياة العادية، فإن أول ما يعلّق به على المرأة هو جسدها من منظور ذكوري شهواني، كامرأة "في نهاية اليوم ترفع رجليها".

يَفترض السياسيون، ثوريون وإصلاحيون، أن النائب البرلماني الجيد هو الذي يمثل مصالح قاعدته الانتخابية في التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية. فهل هذه نكتة؟ أم سذاجة بلهاء؟ أم أنه تخابث المخضرمين الكاذبين الذي تتناقض كلماتهم "الصحيحة سياسياً" (وإعلامياً وأكاديمياً) مع قناعاتهم الحقيقية وممارساتهم الفعلية؟ أليس النائب الجيد هو الذي يقدم خدمات شخصية إلى أكبر عدد من مواطني دائرته الانتخابية؟

أي صدى جماهيري ينتظره (الآن) الساعون إلى الديمقراطية التشاركية من ثوريين وإصلاحيين؟ هل ندرك إلامَ يتطلع "عموم الناس" من مشاركة مع حكامهم؟ هل هي مشاركة القرار أم تشاركية النهب المنظم المقنن للموارد؟ هل لدينا إجابة جازمة عن هذا السؤال؟ هل فكرنا في هذا السؤال أصلاً حين انتشينا بالانتصار للديمقراطية التشاركية ضد الديمقراطية التمثيلية والإجرائية في مناظراتنا العميقة وجدالاتنا الطويلة؟ 

أما المرأة التي لا يراها الخيال الذكوري "رافعة رجليها"، مثل الأم، أو مثل زوجة السجين الوفية في غيابه التي تنتظره ولا تفكر في الطلاق، فصورتها النمطية "العفيفة" هي الحشمة المبالغ فيها مع التعطل عن الزينة والانصراف إلى العبادة وتربية الأولاد. فالرجل العفيف في الخيال الذكوري هو الذي لا يرتكب الحرام، وإن تزوج بأربع نساء من فرط نهمه الجنسي، أما المرأة العفيفة فهي المترهبنة العازفة عن الحرام والحلال سوياً لفرط ورعها وتقواها. فهل يقودنا ذلك إلى شيء بخصوص الخيال السياسي للمجتمع ونظرته إلى المرأة كشريك في الحكم؟

صورة المؤسسات الدستورية في خيال الناس

من لم يرَ الفيل المحمول فوق شارب الرسام سلفادور دالي لم يفوّت كثيراً من السوريالية، فلا تزال أمامه الفرصة سانحة للتعرف على السوريالية إذا مزج النصوص الدستورية المنشئة للمؤسسات المفترضة في "الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية الحديثة" بنصوص - لم تجد من يكتبها بعد - عن توقعات الناس من هذه المؤسسات. فما علاقة المجالس النيابية والمحلية كما هي مكتوبة في النصوص التشريعية، من دستور وقوانين، بما يرجوه الناس من "نوابهم"، والأسس التي عليها ينتخبهم من يقرر المشاركة منهم؟

يفترض السياسيون، ثوريون وإصلاحيون، أن النائب البرلماني الجيد هو الذي يمثل مصالح قاعدته الانتخابية في التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية. فهل هذه نكتة؟ أم سذاجة بلهاء؟ أم أنه تخابث المخضرمين الكاذبين الذي تتناقض كلماتهم "الصحيحة سياسياً" (وإعلامياً وأكاديمياً) مع قناعاتهم الحقيقية وممارساتهم الفعلية؟ أليس النائب الجيد هو الذي يقدم خدمات شخصية إلى أكبر عدد من مواطني دائرته الانتخابية؟ أليس هو الثري الذي يستثمر أمواله في الدعاية الانتخابية وتنتهي دورته النيابية فيكون أكثر ثراءً؟ أليس هو القادر على إنجاز مصالح مُواليه بــ "التسليك" و"التظبيط"؟ أليس هو الذي يخرج من المجلس الموقر بعلاقات طيبة مع الأجهزة التنفيذية والأمنية تضمن له استمرار فتح قنوات اتصال "سالكة" و"متظبطة"؟

توقعات المجتمعات المحلية من الشخصيات العامة النسائية، تظهر لنا جوانب لا نناقشها في خطاباتنا السياسية المفصومة عن الواقع. فالمرأة الناجحة، لكي تكون "محترمة"، محجبة غالباً ويفضل أن تكون قليلة الحظ من الجمال. ولن تنال الرضا إلا إذا كانت حازمة لدرجة "الاسترجال"، وساعتئذٍ تنال شهادة كونها "امرأة بمئة رجل"، من دون تسامح معها في أخطاء رجل واحد من هؤلاء المئة!

المشكلة فيما سبق، على سبيل التمثيل لا الحصر، أنها ليست الصورة القائمة التي يرجو "عموم الناس/الجماهير" تغييرها لأنها خاطئة أو فاسدة أو ظالمة، بل الكارثة أنها "الصورة" - بــ "ال" التعريف - المفترضة والشائعة عن هذه المؤسسات، وعن أعضائها المنوط بهم تمثيل "الشعب". وهو ما يتطلب جهداً حثيثاً متراكماً عبر السنين والعقود لتغييرها. فأي صدى جماهيري ينتظره - الآن - الساعون إلى الديمقراطية التشاركية من ثوريين وإصلاحيين؟ هل ندرك إلامَ يتطلع "عموم الناس" من مشاركة مع حكامهم؟ هل هي مشاركة القرار أم تشاركية النهب المنظم المقنن للموارد؟ هل لدينا إجابة جازمة عن هذا السؤال؟ هل فكرنا في هذا السؤال أصلاً حين انتشينا بالانتصار للديمقراطية التشاركية ضد الديمقراطية التمثيلية والإجرائية في مناظراتنا العميقة وجدالاتنا الطويلة؟

فإذا كان الخيال هو ما يرسم ملامح المستقبل المنشود، وهو ما يوجّه السلوك إلى تجسيد المأمول وتمثّله، فإلى أي سيرورة ستؤول ثورة تَشوّش خيال ثوارها؟ وإذا ادّعى الثوار أنهم يثورون من أجل شعب كان خياله السياسي أشد تشويشاً وسوريالية، فهل سيكون جزاء الثوار من شعبهم إلا اللفظ والكفران؟! 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه