السجن.. متلازمة الوجع والمقاومة

أجلس في باحة السجن برفقة ثلاثة من الإخوان المسلمين، وواحد من المنشقين عنهم وأربعة ممن صنفهم السجن كـ"دواعش"، واثنين من شباب قضية "مظاليم وسط البلد"، وأربعة جنائيين توزعت قضاياهم ما بين تجارة المخدرات، وجرائم التعدي والسرقة والقتل! تجْمعنا المحنة المشتركة وكلٌ منا يتحسس بقلقٍ شهوره وسنواته المتبقية.. في تلك اللحظات، كنت أحاول أن أبحث عن المشترك الإنساني الذي لن يختلف حوله أحد.
2023-04-06

ممدوح عبد المنعم

كاتب، من مصر


شارك
مجمع سجون وادي النطرون الجديد: بكل فخر، أكبر سجن في العالم!

ربما كانت إحدى أكثر تجارب السجن فائدة وإثارة هو اجتماع كل هذا الخليط من الناس، على تباين أفكارهم ورؤاهم، في مكان واحد، بشكلٍ يستحيل تخيل اجتماعهم بهذا التركيب في مكانٍ آخر. في إحدى صباحات السجن، وأثناء فترة التريض المحدودة في الساحات الخرسانية المكشوفة، وجدتني أجلس برفقة ثلاثة من الإخوان المسلمين وواحد من المنشقين عنهم والمفارِق لصفوفهم وأربعة ممن صنفهم السجن بأنهم "دواعش". من بينهم، أولئك الذين يقفون في أقصى طرف الأفكار الدينية المتطرفة، واثنان من شباب قضية "مظاليم وسط البلد" (1)، وأربعة من المساجين الجنائيين الذين توزعت قضاياهم ما بين تجارة المخدرات، وجرائم التعدي والسرقة والقتل! 

جلسنا بدون ضجيج تجمعنا المحنة المشتركة وكلٌ منا يحاول أن يتحسس بقلق شهوره وسنواته المتبقية. في تلك اللحظات، على قلتها داخل السجن بطبيعة الحال، كنت أحاول أن أبحث عن المشترك الإنساني الذي لا يختلف حوله أحد، ذلك الجزء الذي لابد أنه يوجد بداخلنا جميعاً. التوق إلى الحرية، الحنين إلى الأحباء، الذكريات التي لا تكف عن التحليق فوق رؤوسنا، الأحلام التي لا تتوقف لدى أي منا لليلة واحدة وهي تعيدنا إلى منابتنا الأولى، الكوابيس التي تنعق فوقنا كالغربان وهي تخطف قلوبنا طوال الوقت على الأعزاء البعيدين.

فيلم لبعث الأمل

 في واحدة من تلك الصباحات حكيتُ لهم بتأن وروية أحداث فيلم (The Shawshank Redemption ) (2) الذي شاهدته مراراً وتكرارا قبل ذلك، وحُفرتْ مشاهده في ذاكرتي كأنني عشتها. كنت أتمهل كثيراً عندما أحكي عن تلك اللحظات التي كان البطل يحاول فيها أن ينبت الأمل في من حوله، أن يفتح لهم نوافذ على ما يذكّرهم بالحرية، وأن يثبت لصديقه أنه بالأمل فقط يستطيع الخلاص من هذا المكان والبدء من جديد. كنت أحدّثهم عن ذلك الصديق الذي كان يُحذِّر البطل طوال الوقت من تعاطي الأمل وينصحه دوماً براحة اليائسين والمستسلمين.

 أغلب من كنت أحكي لهم لم يشاهدوا الفيلم من قبل، ولذلك أتذكر تلك اللمعة الخاطفة التي لاحت في أعينهم. ابتسامة الارتياح التي طفت أخيراً على وجوههم عندما تمكّن البطل في النهاية من تكليل جهوده المضنية على مدى تسعة عشر عاماً والخلاص من أسوار "شاوشانيك" العاتية.
مال أحد السجناء الجنائيين نحو أذني وهمس: هل تعلم يا صديقي كم بوابة حديدية تفصلنا عن الباب الرئيسي للسجن؟ ثلاثة عشر باباً! ثم إننا داخل مجمع سجون شديد الحراسة كلٌ منه يفضي إلى الآخر، لو سُجن صاحبك بطل الفيلم هنا فسوف يجد نفسه في نهاية رحلة الهروب داخل واحدة من تلك الأسوار المريعة التي تحدّق بنا من كل جانب، وفوهات البنادق مصوبة نحو رأسه من كل ناحية.

لم يكن من العسير تكوين الصداقات في ذلك المجتمع المشحون بالحزن والألم، خاصة مع الجنائيين لأنهم يتوقون إلى البوح والمكاشفة مع الغرباء الذين يعلمون أنهم لن يلتقوهم بعد ذلك ولن ينكسروا أمامهم بذكر لحظات الجنون الفارقة التي قذفت بهم إلى متاهات السجون، والتي أعقبها ندم طويل لم تخفف السنوات من وطأته. انعقدت بيني وبين الكثيرين منهم وشائج لم تنقطع، خاصة "جلال"، الصعيدي الذي دار في مدارات الثأر والدم حيثما دارت، وتأججت بداخله كل نيران الغضب لأكثر من عشرين عاماً وهو يرى أفراد عائلته يتساقطون تباعاً ضحايا جرائم الثأر. كان عليه في كل مرة أن يثأر لقتلاه حتى لا يلاحقه العار في مجتمع يعتبر أن الثأر معيار من معايير الكرامة.

فشل جلال بتذكر عدد من قتلهم. أخبرني أنه لا يتذكر حتى وجوههم، بل إنّه لا يعرف بعضهم، ولكنه كان يذهب للقتل لأن عليه أن يقتل. أخبرني وهو يبكي ذات مرة أنه لا يتذكر منهم إلا واحداً فقط. كان شاباً صغيراً قُتل بالصدفة في معركة دارت رحاها في ساحة القرية وأن طيف هذا القتيل لا يكف عن ملاحقته في ليالي السجن الطويلة، خاصة بعد أن داهمه سرطان الرئة وهو في السجن وبات موقِناً أن طائر الموت يحلق بالقرب منه.

ما زلت أتذكر دهشة جلال حين أخبرته عن سبب سجني، وقمت ساعتها برسم خريطة مبسطة لجزيرتي تيران وصنافير عند مدخل خليج العقبة محاولاً شرح تبعات انتقال ملكية الجزيرتين من مصر إلى السعودية. سألني ساعتها: لماذا سجنوك إذاً طالما كان الأمر يتعلق بالأمن الوطني الذي تحدثني عنه؟ ما هو الضرر الذي يمكن أن يترتب على رأيك الذي أعلنته؟ ولماذا لم يسألوا أنفسهم ما الذي يدفع رجلاً مثلك لإعلان رأيه في تلك المسألة دون أن تكون له مصلحة إلا محبته لهذا الوطن؟ لم أستطع الرد على أسئلة جلال بطبيعة الحال، وإن كان قد أذهلني تماسك أفكاره وقدرته على التعبير عن تلك الأفكار. دهشة جلال نفسها لمحتها على وجه ذلك العسكري الذي هتف باسمي من خارج الزنزانة في واحدة من أيامي الأولى في السجن من أجل أخذ بصماتي وبياناتي. سألني بشكل شخصي بعيداً عن الأوراق الرسمية، عن طبيعة تهمتي، وعندما أجبته بأنها الدفاع عن مصرية "تيران وصنافير"، نظر نحوي بمزيج من الإشفاق والدهشة ثم همس: أي تيران وصنافير تلك التي أهلكتَ بها نفسك؟ الشعب لا يكاد يجد قوت يومه ويتخبط في أزماته التي لا يكاد يخرج منها إلا ليعود إليها. عندما حاولت أن أخبره أن الحقوق لا تتجزأ وأن الدفاع عن تراب الوطن يجب أن يسير بمحاذاة الدفاع عن الحق في الحياة الكريمة، بل وسابقاً عليها، أشاح بوجهه غاضباً.

اختراعات وممنوعات!

لم أدرك المعنى الحقيقي لمقولة أن الحاجة أم الاختراع إلا في السجن. ثمة أفكار تنشأ ويتم تنفيذها طبقاً لمقتضيات الحاجة، كتلك الخزائن التي كانت تُصنع من الورق المقوى (الكرتون) الذي يتم لصقه وتدعيمه ثم تغليفه بقماش سميك ليتحول بعدها إلى خزانة متعددة الرفوف تعلق خلف السجين ليضع فيها أغراضه المختلفة بدلاً من وضعها في الأكياس البلاستيكية وتعليقها على مسامير في الحائط، كما يحدث في أقسام الشرطة وأماكن الحبس الاحتياطي.

 سهلت تلك الخزائن المخترعة حياتنا وجعلتنا نحتفظ بشيء من الخصوصية الثمينة، كما أنها أوجدت نوعاً من النظام في اصطفافها جنباً إلى جنب في صمتٍ بدا أقرب للحياة الطبيعية، مما شجعني ذات صباح مشحون بالطاقة للتخلص من ذلك اللون الرمادي المقبض الذي تصر مصلحة السجون على دهن كل أماكن السجن به، وكأنها مؤامرة على أرواحنا المنهكة. لدى هذا اللون شراهة غير معتادة على امتصاص الضوء مهما بلغت شدّته وتصدير تلك الحالة من الوهن والخمول إلى أرواحنا وأجسادنا. لم يكن دهن الجدران بالطلاء متاحاً بطبيعة الحال، ولذلك كان علينا أن نفكر في بدائل قابلة للتنفيذ، فاشترينا كمية من الورق الأبيض والملون وقمتُ برسم العديد من الأشكال التخطيطية لمسار العمل قبل التنفيذ. بمعاونة أحد الأصدقاء داخل الزنزانة قمنا بإعداد "لاصق" يتكون من المكرونة المخلوطة بالماء والسكر، والتي يتم طبخها على نار هادئة حتى تتحول إلى عجينة سائلة. قمنا بلصق الورق على الحائط والسقف بتنسيق هندسي محكَم، وبدقة كاملة وضعنا شرائط ملونة بالبرتقالي والأزرق الفاتح وسط المربعات البيضاء. على مدى أسابيع طويلة لم نكف خلالها عن العمل أثناء الليل، استطعنا تغطية الجدران الرمادية والسقف بالكامل في تنسيقات بدت بديعة ومبهجة أشاعت الارتياح داخل الغرفة وجعلت الجميع يتنافس على إضفاء المزيد من لمسات الجمال والنظافة على المكان. استطاع الضوء أخيراً أن يسطع في الغرفة فقلل من وحشتها إلى حد كبير. فيما بعد أصبحت غرفتنا مثيرة لانتباه بقية الغرف وصار الجميع يتطلع إلى ذلك الجمال الذي نبت وسط غابة الشوك والقضبان وأتونا يسألوننا كيف استطعنا أن نفعل ذلك.

لم يكن من العسير تكوين الصداقات في ذلك المجتمع المشحون بالحزن والألم، خاصة مع الجنائيين لأنهم يتوقون إلى البوح والمكاشفة مع الغرباء الذين يعلمون أنهم لن يلتقوهم بعد ذلك ولن ينكسروا أمامهم بذكر لحظات الجنون الفارقة التي قذفت بهم إلى متاهات السجون والتي أعقبها ندم طويل لم تخفف السنوات من وطأته. انعقدت بيني وبين الكثيرين منهم وشائج لم تنقطع. 

ما زلت أتذكر دهشة "جلال" عندما حكيتُ له عن أسباب سجني، شارحاً له تبعات انتقال ملكية جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى السعودية. سألني ساعتها لماذا سجنوك إذاً طالما الأمر يتعلق بالأمن الوطني؟ ما هو الضرر الذي يترتب على رأيك؟ ولماذا لم يسألوا أنفسهم ما الذي يدفع رجلاً مثلك لإعلان رأيه من غير مصلحة إلا محبته لهذا الوطن؟

بدا الصباح يومها وكأنه كابوس مستعصٍ على الفهم. كنت قد نمت متأخراً لأنني معتاد على السهر للقراءة والكتابة أو لسماع الراديو.. عندما فتحتُ عيني على صوت جلبة شديدة وجدتُ أن الغرفة تعج بالكثير من الأقدام الغليظة. استيقظ جميع من في الغرفة. قمت مفزوعاً لأشهد أول حالات التفتيش المفاجئ التي تقوم بها إدارة السجن لغرفتنا منذ بداية سجني. قام الضباط والأمناء أولاً بتفتيشنا ذاتياً، ثم أمرونا بمغادرة الغرفة لاستكمال التفتيش. خرجنا من الغرفة وكان أكثر ما أقلقني وقتها هو أوراقي الخاصة التي كنت أدون عليها يومياتي في السجن والتي كنت أحتفظ بها بين طيات ملابسي. بعد أكثر من ساعة جاء أحد الأمناء ليستدعي منا أربعة نزلاء بشكل عشوائي، ولم ندرك ساعتها سبب الاستدعاء وإن كنا قد توجسنا من الأمر برمته.

 بعد ما يزيد عن ساعتين من الانتظار، رأينا الضباط والأمناء يخرجون من الغرفة ثم يأمروننا بالعودة إلى الزنزانة التي أحكموا إغلاقها علينا من الخارج قبل أن ينصرفوا. كان المشهد كارثياً. لحظةٌ لن أنساها ما حييت. كانت الغرفة قد دمرت بالكامل، وجميع الخزائن انتزعت من الحائط وألقيت على الأرض بكل ما تحمله من أغراضنا المختلفة. وجدنا زجاجات الزيت انسكبت فوق أكياس السكر المفتوحة وفوق ملابسنا الداخلية النظيفة التي قمنا بترتيبها بعناية داخل الخزائن.

 كانت كل أوراقنا مبعثرة وكل الصور الشخصية للأحباب البعيدين، التي نحرص على الاحتفاظ بها، ملقاة على الأرض. أما فراشنا الذي يتكون من مجموعة من الأغطية المرتبة بعناية فوق بعضها البعض، فقد تم تفكيكه بفوضى عارمة حتى بات التعرف على المتاع الشخصي لأي منّا وسط كل هذا الضجيج البصري ضرباً من العبث. تعرضت الجدران للتشويه الكامل. كانت تلك هي المهمة التي استدعي زملاؤنا من أجلها: إزالة كل الورق الذي زيّنّا به الجدران على مدى الأسابيع الطويلة الفائتة، كي يعود اللون الرمادي الكالح ليطل علينا من جديد. وقفنا جميعاً نحاول استيعاب الصدمة واحتواء الغضب العاصف بنا، ولكننا في الوقت نفسه عكفنا على محاولة إعادة ترتيب كل شيء.

تظل إحدى أكثر محن السجن صعوبة ومكابدة هي محنة الجلوس بلا عمل. وظني أن جزءاً من قسوة تلك العقوبة أن يظل السجين معتقداً طوال الوقت أنه بلا قيمة، وأن الدنيا تستطيع أن تستأنف دورانها المعتاد من دونه.

ربما كان من حسن حظي أنني قرأت قبل سجني بفترة تحفة الطاهر بن جلون "تلك العتمة الباهرة" عن تجربة السجن الرهيبة في "تزمامارت" في المغرب، أحد أشد معتقلات العالم ظلمة وإطباقاً، وكنتُ في كل مرة أواجه أوقاتاً عصيبة داخل السجن أتذكر أن هناك سجوناً أشد قسوة مرّ بها آخرون واستطاعوا تجاوزها. كان عليَّ أن أتمثل مقولة بن جلون "أدركتُ أن تبديد وجع لا يتم إلا بتخيل وجع أشد ضراوة منه، وأشد هولاً". بالرغم مما نكابده، كان عليّ أن أكون ممتناً لساعات التريض القصيرة ولرؤية الشمس كل يوم حتى ولو كانت حبيسة القضبان، ولزيارات الأحباء في فترات معقولة وطعام الزيارات الجيد الذي تتشارك فيه الغرفة بكاملها، وعلى النذر اليسير من القراءة بقدر الكتب المتاحة.

العقوبات غير المعلنة

تظل إحدى أكثر محن السجن صعوبة ومكابدة هي محنة الجلوس بلا عمل. ظنّي أن جزءاً من قسوة تلك العقوبة هو اعتقاد السجين الدائم أنه بلا قيمة، وأن الدنيا تستطيع أن تستأنف دورانها المعتاد من دونه. تمثلت تلك المحنة لي في أقسى صورها بعد الأيام الأولى من تسكيني في الزنزانة، أنا الذي اعتدتُ العمل بلا كلل لساعات طويلة في الخارج. حاولت أن أسأل عن أي عمل يمكن أن أقوم به داخل السجن، وكانت لدي صورة ذهنية قد تكونت ربما من الأفلام عن السجناء الذين يعملون في ورش السجن أو في المطبخ. كان كل همي أن ألتحق بأحد تلك الأماكن التي تقتل ساعات النهار وتتركني لنوم طويل أستيقظ بعده لأستأنف ذلك العمل وأقتل لعنة الوقت. بدا من المحاولة الأولى أنّ عدداً محدوداً يعمل في تلك الأماكن، كلهم من السجناء الجنائيين.. وعندما شكوت حالتي لأحد الزملاء في الزنزانة نصحني بالنوم الطويل لقتل الوقت، وكان بعضهم يفعل ذلك لساعات طويلة ممتدة أثناء النهار. فشلت تماماً في تطبيق تلك النصيحة ولم أستطع النوم إلا لساعات محدودة أثناء الليل. أدركت بجلاء أن ذلك الصراع المرير مع الوقت هو سجن إضافي داخل قضبان السجن الحقيقية لا سبيل لدفعه. كان الجميع يحنون إلى أعمالهم التي تركوها قسراً. أخبرني بعضهم أنه قد بدأ في نسيان الكثير من فنيات عمله الذي كان يمارسه خارج السجن بسبب طول فترة سجنه.

بعد أكثر من ساعتين من الانتظار خرج الضباط والأمناء وأمرونا بالعودة إلى الزنزانة التي أحكموا إغلاقها علينا من الخارج. كانت الغرفة قد دُمِّرت بالكامل. جميع الخزائن انتزعت من الحائط وألقيت على الأرض بكل ما تحمله من أغراضنا المختلفة. وجدنا زجاجات الزيت مسكوبة فوق أكياس السكر المفتوحة وفوق ملابسنا الداخلية النظيفة التي قمنا بترتيبها بعناية داخل الخزائن

لا أدري كيف نبتت الفكرة ذلك الصباح. كنت في طريقي إلى عنبر الزيارة بصحبة زميل من الزنزانة أيضاً. كان الجو غائماً ووجدته ينظر نحو السماء متأملاً ثم شرع يشرح لي دلالة تراكمات السحب وقرب هطول المطر بطريقة بدت لي محترفة للغاية، وعندما سألته كيف عرفت، أخبرني بحزن عاصر أنه كان يعمل مهندساً في هيئة الأرصاد الجوية، وأن جزءاً مهماً من عمله كان مراقبة تكون السحب وقراءة دلالاتها لتوقع الطقس. عند عودتنا للزنزانة حكيت ما جرى لأحد الزملاء فلمعت في ذهنه فكرة نفذناها على الفور. قمنا بحصر مهن الزملاء في الغرفة ثم طرحنا فكرة تنظيم محاضرات منتظمة يقدم فيها كل منهم شرحاً لطبيعة عمله وفنياته الدقيقة. كانت تلك هي المرة الأولى التي عرفت فيها أن الغرفة تضم كل هذه الشرائح المهنية المختلفة، وكأنها كانت قطاعاً رأسياً ممثلاً للمجتمع المصري بتمامه. وعلى مدى أشهر طويلة استمعنا إلى المهندس الزراعي والطبيب البيطري ومهندس الالكترونيات ومهندس الهيدروليك ومعلّم الكيمياء وشيخ المسجد ورئيس طهاةٍ في أحد الفنادق الشهيرة وسائق الشاحنة والمزارِع وطالب الجامعة والمحاسِب. 

مقالات ذات صلة

كانت فكرتنا تحمل فائدة مزدوجة: أن يتذكر كل هؤلاء أعمالهم التي كانوا يمارسونها في الخارج فلا تطويها غوائل النسيان، وأن نتبادل الخبرات الثرية ونستعين بها على مجابهة الوقت الذي يظللنا كسحابة ثقيلة. كنتُ سعيداً للغاية بتلك الأمسيات حين كان أحدهم يستفيض في الحديث عن مهنته ويتلقى أسئلتنا المستفسِرة عن الدقائق الخاصة بتلك المهنة ويرد عليها مستعيناً بالشرح على سبورة بدائية صنعناها خصيصاً لهذا الغرض، بل كان بعضنا يقوم بتدوين ملاحظات وملخصات لكل ما سمعه باعتبار أنها من الخبرات المفيدة. أما تلك الليلة التي أعلن فيها أحدهم امتلاكه صوتاً حسناً وأنه سوف يغني لنا فهي ليلةٌ لا تُنسى. أمسك بين يديه وعاءً بلاستيكياً فارغاً قام بالنقر عليه بأصابعه وأظافره بدربة وتمكّن، مستعيضاً به عن صوت العود، ثم انطلق صوته صادحا بأغنية "حمزة نمره" والتي كانت ساعتها ما زالت جديدة. انطلق صوته يخاطب مصر التي أعيا هواها كل هؤلاء الذين ضمتهم الغرفة الحزينة:

 تسمحي لي يامه من وقتك شوية
أنسى جنبك حمل شايله تقيل عليا
وزي عادتك تسمعيني
لو بكيتْ إستحمليني
يامه زادت قسوة الأيام عليا

لا زلت أتذكر وجهه الحزين المنقبض وهو يردد المقطع الأخير قبل أن يعيد النقر على الوعاء البلاستيكى مستأنفاً:

كل يوم بقى يشبه اليوم اللي عدّى
كلمتين مش مفهومين على دمعة شاردة
حتى لون الدنيا باهت
والمعاني ف قلبي تاهت
خوفي لا تطول علينا الشِدة ديّه

كانت هذه هي ليلة البكاء. بكى المغني أولاً وهو الذي يحمل حكماً ثقيلاً بخمسة عشر عاماً قضى منها خمسة أعوام فقط، ثم بكى كل من مسته العبارة الأخيرة، خوفاً من أن تطول تلك الشدة فلا نعرف لها نهاية.

***

انقضت أربع سنوات تقريباً على خروجي من سجن وادي النطرون ولا زلت على تواصل مع أولئك الذين جمعتني بهم المحنة هناك، سواء من خرج منهم أو من لا يزال يقضي سنواته المتبقية. أسأل عنهم ذويهم للاطمئنان عليهم وعلى مواصلة صمودهم للاحتفاظ بما تبقى لهم من انسانية العقل والإرادة. أغلب أولئك الذين غادروا يعانون من أجل لقمة العيش ومحاولة الاندماج مجدداً في المجتمع. ظلت فرحتهم بالخروج من السجن مبتورةً وناقصة لأنهم تركوا خلفهم زملاء المحنة في عتمة الزنازين، وإن أبقوا على لحظات البهجة التي ومضت كبرق خاطف في ليالي السجن الطويلة.

حصرنا مهن الزملاء في الغرفة وطرحنا فكرة تنظيم محاضرات يقدم فيها كل منهم شرحاً لطبيعة عمله. كانت كل الشرائح المهنية موجودة، وكأنها ممثلة للمجتمع المصري بتمامه، وعلى مدى أشهر طويلة استمعنا إلى المهندس الزراعي والطبيب البيطري ومهندس الالكترونيات ومهندس الهيدروليك ومعلّم الكيمياء وشيخ المسجد ورئيس الطهاة في فندق شهير وسائق الشاحنة والمزارِع وطالب الجامعة والمحاسِب.

أما عني، فلا زلتُ أكابد مخاض الخروج تحت مقصلة الحرية المهدورة والفرص الضائعة والوطن الذي يريد أن يتنفس، ولا زالت أتمثل أبيات نجيب سرور التي كتبها لولده، والتي كنت أضعها هناك في أوضح مكان داخل الزنزانة:

إكره وإكره وإكره بس حب النيل
وحب مصر اللي فيها مبدأ الدنيا
دي مصر يا شهدي في الجغرافيا ما لها مثيل
وفي التاريخ عمرها ما كانت التانية 

______________________

1- القضية رقم 291 لسنة 2014 جنايات "عابدين" والمتهم فيها 227 شخصاً وجهت لهم حزمة من التهم منها أنهم اشتركوا واخرين في تجمهر مؤلف من اكثر من خمسة اشخاص والاشتراك في مظاهرة أخلت بالأمن العام.
2- فيلم أمريكي أنتج عام 1994 من بطولة تيم روبنز ومورجان فريمان.  

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عمْ "سيِّد"

هو أحد أقارب والدي، لا أراه إلا نادراً. عرفتُ قصته بالصدفة في حوار عائلي عابر، ولكن الرجل – بعد تردد - أطلعني على بقية التفاصيل المؤلمة، التى لايعرفها إلا قلة...