لا شيء في الأفق يشير إلى احتمال حصول هبوطٍ جذريٍ لأسعار الوقود في المغرب التي تستمر بالارتفاع مع انخفاض طفيف بين فترةٍ وأخرى. هذه الحال أرخت بظلالها على المشهد المغربي خلال السنوات القليلة الماضية. على الرغم من الاحتجاج الرقمي الذي أطلق من خلال هاشتاغ "akhannoch_dégage" (أخنوش_ارحل) وحصد ما يفوق المليون تفاعل خلال صيف 2022، لم تُؤْتِ هذه الخطوة أكلها على نحوٍ فعال، إذ ما زالت الأسعار تراوح مكانها على مستوى من الارتفاع غير معقول، خصوصاً وأنّ البلد بات مؤخراً يستورد منتجاته النفطية بأثمان أقل بكثير من السوق الدولية، من مصدر روسيا المغضوب عليها من قِبَل دول أوروبية.
هدية الشركات: نفط روسي
تقوم بعض الشركات المستورِدة للمواد النفطية السائلة بإدخال الغاز والديزل الروسي باعتباره الأرخص، إذ لا يتجاوز ثمنه 170 دولاراً للطن وهو أقل بـ 70 في المئة من الثمن العالمي. أثير هذا بشكل رسمي خلال شباط / فبراير 2023 من قبل الفريق النيابي لحزب "الاتحاد الاشتراكي" في البرلمان، الذي أكد أنّ هذه الشركات تتلاعب بالوثائق وتزور شهادات مصدر الوقود وكأنها آتية من دول الخليج أو أمريكا وتبيع المستورَد بالسعر الدولي داخل المغرب، وهو ثمن عالٍ قياساً بثمنه الحقيقي، لتحقق بذلك أرباحاً مهولة. يحصل هذا بتواطؤ صريح مع الشركة المسيرة لمخازن الوقود بميناء طنجة المتوسط، بعيداً عن رقابة الأجهزة المالية للدولة.
تتجاوز واردات المغرب حجمَ استهلاكه المحلي، وهو دليلٌ على إعادة تصدير هذه المواد لدول أخرى! سجلت واردات المغرب من الديزل الروسي ارتفاعاً من 66 ألف طن خلال عام 2021 إلى 735 ألف طن خلال عام 2022. خلال كانون الثاني/يناير من هذا العام، استورد المغرب 2 مليون برميل، فيما اشترى خلال شهر شباط/ فبراير الذي تلاه 1.2 مليون برميل، أي ما مجموعه 3.2 ملايين برميل خلال شهرين فقط.
أسعار الوقود في المغرب شهدت ارتفاعاً ملحوظاً بدأ بالتدريج منذ إلغاء دعم أسعار هذه المادة بدء من عام 2015، إذ حُررت الأسعار وربطت بالأسعار العالمية للنفط، فيما استمر دعم الغاز المخصص للأغراض المنزلية.
قطاعُ الطاقةِ بالمغرب: التبعيّة الدائمة
28-12-2021
لم يقتصر التلاعب فقط على شهادات مصدر الوقود، بل وصل لحدّ إعادة تصدير المنتجات النفطية الروسية من قبل الشركات المغربية إلى دول أوروبية، وهو ما كشفت عنه صحيفة "وول ستريت جورنال" التي أفادت بأن حجم واردات المغرب يتجاوز حجم استهلاكه المحلي، وهو بحد ذاته دليل على إعادة تصدير هذه المواد لدول أخرى. تم شحن ما يزيد عن 500 ألف برميل من المواد الخام إلى دول أخرى غير أوروبية كجزر الكناري وتركيا في كانون الثاني / يناير 2023.
بلغة الأرقام، سجلت واردات المغرب من الديزل الروسي ارتفاعاً ذهب من 66 ألف طن خلال عام 2021 إلى 735 ألف طن خلال عام 2022. أما خلال كانون الثاني/يناير 2023، فقد استورد المغرب 2 مليون برميل، فيما اشترى خلال شهر شباط/ فبراير الذي تلاه 1.2 مليون برميل، أي ما مجموعه 3.2 ملايين برميل خلال شهرين فقط. من المفروض - بعملية حسابية بسيطة - ألا يتجاوز سعره هذا الكم الهائل من الوقود المستورد الرخيص وفي أسوء الحالات 10 دراهم (حوالي دولار)، لكن الواقع يكشف أن الأرقام ما زالت تراوح مكانها في محطات الوقود بين 13 و15 درهما للديزل والبنزين.
يُبرَّر هذا التلاعب بكون البنوك التي تتعامل مع هذه الشركات المورِّدة للمنتجات النفطية الروسية تواجه عراقيل في الاعتماد أو الدفع مقابل التوريدات من المصدر المذكور، بسبب الشروط المقيّدة التي تفرضها البنوك الأوروبية. من ناحية أخرى ترى أصوات خبيرة بالمجال النفطي أنّ أسعار النفط الروسي ليست رخيصة إلى هذا الحد، إذ يصل سعرها في السوق الدولية لحوالي 820 دولاراً للطن، وعندما يتم عرضه من روسيا يمكن أن تصل الخصومات من 30 دولارا إلى 40 دولارا للطن، أي بمتوسط سعر يصبح 780 دولار للطن. كما أن كلفة الشحن من روسيا غالية، لأسباب أمنية، إذ يرفض مالكو السفن التنقل في مناطق اندلاع المعارك، علاوة على أن شركات التأمين زادت من أسعارها بسبب المخاطر.
مصير الـ 17 مليار درهم..
ارتفعت حدة الانتقادات والاحتجاجات، من على وسائل التواصل الاجتماعيّ، ضدّ شركات المحروقات وعلى رأسها شركة "أفريقيا" المملوكة لرئيس الحكومة، ورجل الأعمال الأغنى في البلد، عزيز أخنوش... وهذا الاغتناء ليس وليد اللحظة، بل بدأت تظهر ملامحه قبل سنوات. في سنتي 2015 و2016 طفت على سطح المشهد المغربي فضيحة الـ"17 مليار درهم"، إذ اتُهِمَ عزيز أخنوش خلال هذه الفترة باستغلال منصبه الحكومي وقربه من دوائر النفوذ الرسمية (كان وزيرا للفلاحة) لجني أرباحٍ لصالح مملكته الاقتصادية. كما تواطأت شركته "إفريقيا للمحروقات" مع شركات أخرى بهدف رفض تخفيض ثمن المحروقات بعد قرار الحكومة القاضي بتحرير الأسعار في هذا القطاع.
هنا يطرح سؤال: أين ذهبت هذه الأموال وما مصيرها؟
تحضر شكوك بأن أخنوش اغتنى لوحده بحكم أنه يملك أكبر شركة للمحروقات وأكبر حصة سوقية في هذا القطاع، كما أن ثروته ازدادت خلال عام 2021 بـ 1.9 مليار دولار (وفق مجلة فوربس) وهو رقم يقارب الـ 17 مليار درهم التي حصدت من جيوب المغاربة الذين سددوا مبالغ إضافية أكثر من المسموح به كهامش للربح. الحقيقة أنّ أخنوش لم يبتلع هذه الأموال لوحده، بل شاركته شركات أخرى في هذا القطاع، والشاهد على ذلك ما كشفت عنه الأرقام الرسمية، بأنه منذ أواخر 2015 حتى أيار/ مايو 2018، جنت شركات الوقود في المتوسط أرباحاً إضافية بقيمة 96 سنتيما عن كل لتر تبيعه من مادة الديزل، في حين جنت 76 سنتيماً إضافياً عن كل لتر تبيعه من مادة البنزين. تسجل هذه الأرقام ازدياداً مستمراً بدون محاسبة ناجعة.
الاقتصاد في المغرب باعتباره مُظلِماً
17-04-2018
انفلات التضخم والغلاء في المغرب..
05-03-2023
من المعلوم أن المحاسبة لن تتم إلا بفتح تحقيق من قبل الجهات الرسمية، لكن ما حصل في الواقع هو أن بعض النواب البرلمانيين وبعض الأصوات المدنية القليلة جداً هم من طالبوا بهذه الخطوة. عمر بلافريج، واحد من البرلمانيين اليساريين الذين طالبوا شركات المحروقات بإرجاع 17 مليار درهم لخزينة الدولة، على اعتبار أنّ عملية ربحها "فعلٌ غير أخلاقي". أما عبد الله بوانو، النائب البرلماني عن "حزب العدالة والتنمية" ورئيس اللجنة البرلمانية الاستطلاعية، فأفاد بأن شركات المحروقات ربحت 7 مليارات درهم خلال سنة 2016 و7 مليارات درهم إضافية خلال سنة 2017، فيما اكتسبت المليارات الثلاثة الأخرى خلال باقي الأشهر المشمولة بالمهمة الاستطلاعية خلال عام 2018. كما أكدت دراسة قامت بها "الجبهة الوطنية لإنقاذ المصفاة المغربية للبترول" ("لاسامير") أن رقم الـ 17 مليار درهم ارتفع بفعل أرباح فاحشة بين سنتي 2016 و2020 ليصل إلى 38.5 مليار درهم، بمعدل يناهز 5.79 مليار درهم في السنة.
في سنتي 2015 و2016 طفت على سطح المشهد المغربي فضيحة الـ "17 مليار درهم"، إذ اتُهِمَ عزيز أخنوش خلال هذه الفترة باستغلال منصبه الحكومي وقربه من دوائر النفوذ الرسمية (كان وزيراً للفلاحة) لجني أرباحٍ لصالح مملكته الاقتصادية.
هذه الأرقام المهولة دفعت بـ "الجمعية المغربية لحماية المال العام" إلى المطالبة بفتح تحقيق خلال المدة نفسها التي عرض فيها تقرير المهمة الاستطلاعية (أيار/ مايو 2018). بعد ذلك وفي أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، استمعت الفرقة الولائية للشرطة القضائية بالرباط لرئيس الجمعية المُشتكية محمد الغلوسي، بيد أن القضية لم تصل القضاء منذ حينها، وهو ما يشير إلى تعرض الملف لضغوطات من جهات نافذة.
"لاسامير" باعتبارها مُنقذاً
تُقرّ أصوات خبيرة بهذا القطاع بأن أسباب ارتفاع سعر الوقود المُباع للزبون المغربي متداخلة، منها سعر النفط الخام، وتكلفة التكرير والتصفية والشحن واللوجستيك، علاوة على المصاريف الضريبية التي تشكل أكثر من 40 في المئة من السعر النهائي للزبون، ثم أخيراً مجالات أو هوامش ربح شركات النفط والتوزيع.
هناك اقتراحٌ دائرٌ سيساهم في تدبر هذه القضية، من خلال حل أزمة شركة تكرير المواد النفطية بالبلد "لاسامير"، التي تعاني من مشاكل إدارية ومالية وتقنية، وهي في طور التصفية القضائية منذ 2016، بعدما عجزت المقاولة المسيرة لها عن تسديد ديونها وأصبحت وضعيتها المالية مختلة.
ترى الجبهة الوطنية لإنقاذ المصفاة المغربية لتكرير البترول "لاسامير" بأن التخلي – بيعاً أو تأجيراً – عن هذه المؤسسة للدولة يعتبر حلاً واقعياً لأزمة أسعار الوقود في البلد، إذ لن يضطر المغرب إلى تحمل مصاريف تكريره في الخارج من قبل شركات أجنبية.
بالموازاة، تقترح الجبهة حلولاً عديدة لإخراج "سامير" من وضعيتها المتأزمة، من بينها "التسيير الحر"، أو "التأجير للأغيار"، أو "تحويل الديون لرأسمال" أو "الاسترجاع والتأميم"، أي شراؤها من طرف الدولة لتصبح عمومية من جديد، أو تأجيرها للشركة المختلطة بشراكة بين الدولة والموزعين، والبنوك المغربية، ومؤسسات الاستثمار، والعمال.
المغرب في مملكة الريع
11-07-2019
بالنسبة للجبهة فإنها لن تغفل مسألة رفع دعاوى قضائية، إذ تُحَضِّر لرفعها ضد كل المتسببين فيما تسميه "جريمة تصفية" شركة "لاسامير" والمدراء السابقين لها، وتحملهم مسؤولية استرداد الأموال المسروقة داخل وخارج المغرب. كما ترى بأن الدائنين للشركة، أي الجمارك والبنوك، يتحملون مسؤولية خسارة ديونهم، لأنهم (بحسبها) سقطوا في مفهوم "الإسناد التعسفي" للشركة، إذ أقرضوها مبالغ مالية في ظل غياب ضمانات أو تأكيدات تفيد عن قدرتها على سداد ديونها في آجالها المحددة.
أكدت دراسة قامت بها "الجبهة الوطنية لإنقاذ المصفاة المغربية للبترول" (لاسامير) أن رقم الـ 17 مليار درهم ارتفع بفعل أرباح فاحشة بين سنتي 2016 و2020 ليصل إلى 38.5 مليار درهم، بمعدل يناهز 5.79 مليار درهم في السنة.
ترى "الجبهة الوطنية" بأن التخلي – بيعاً أو تأجيراً – عن هذه المؤسسة للدولة يعتبر حلاً واقعياً لأزمة أسعار الوقود في البلد، إذ لن يضطر المغرب إلى تحمل مصاريف تكريره في الخارج من قبل شركات أجنبية.
كل المؤشرات على الأرض تدلُّ على أن هذه الأزمة لن تُحلَّ في الأفق القريب ولا يوجد حلٌّ جذريٌّ لها إلا بفرض المحاسبة الدورية للأسعار وأرباحها ومراقبة تنافسية الشركات من قبل الدولة، والأهم من كل هذا: القطع النهائي مع مسألة تضارب المصالح. لعل مثال تزاوج صفتين في شخص رئيس الحكومة ورجل الأعمال خير شاهد. إنه زواج فعلي للمال والسلطة، وهو "لا يبشر بالخير" كما يصف ذلك عموم المغاربة..