من اليمن، التي شهدت فترة انغلاق ثقافي لفترة طويلة، كتب الرحالة الإيطالي رنزو مازوني، (زارها لأوّل مرة 1877 - 1878) بأنه وجد في سوق مدينة صنعاء عند وصوله دكانين للحلاقة فقط، أدخلهما اليونانيون للأتراك. وفي الهامش، يوضح مازوني مدى التحوّل الذي حصل خلال 4 سنوات من رحلته، حيث أنه لاحظ في 1880 أن دكاكين الحلاقة أصبحت أربعة.
وفي جزء من ملاحظاته، تورط مازوني في تعريف إيديولوجي لعادات اليمنيين مع قصّات رؤوسهم، فرد لجوءهم لحلق رؤوسهم إلى أن "القرآن يأمر المسلمين بحلق الرأس بالكامل". وهذا أثار غضب مُراجع كتاب مازوني، أحمد السقاف، واضطره لأن يلجأ لهامش كتب فيه "لا صحة لذلك، وبهذا وغيره يُستدل على جهل المؤلف بالإسلام". لنرجع إلى مازوني ووصفه: أما البدو فيتركون شعورهم الطويلة الجعداء تنسدل على اكتافهم العارية بنية اللون. وعلى الرأس، حول الشعر يتركون حبلاً أصفر يميل إلى الحمرة يحيط به وهو يستخدم لإشعال بارود بنادقهم، فالمقدح لا يتّخذ من الحجر في البلاد العربية، بل يستعمل عوضاً عنه الفتيل...
من يحلق لمن!
من هذا الفتيل الأصفر، "المقدح"، أحاول قراءة ما تعنيه قصّات الشعر لدى النخب الحاكمة، ودلالتها في القاموس السياسي اليمني، على الأقل خلال القرن المنصرم الذي شهد صراعات لا تزال تتداخل وتعتمل في الأزمة العاصفة اليوم.
حالة الجدل التي أثيرت في بداية الألفية الثالثة تجعل من هذا الأمر حيوياً. فبعيد قبض السلطات الأميركية على الرئيس العراقي صدام حسين، جرى إظهاره على ذلك "البورتريه" البائس: رجل أشعث ومتسخ، ولحية وشارب كثين.. لقد كانت الصورة مفزعة للشارع، علاوة على الزعماء العرب، محك الرسالة.
الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، لم يتلكأ في فهم الرسالة. ولمّح، في مقابلة صحافية أجريت بعد العام 2003، لخشيته من ذات المآل: "يجب أن نحلق لأنفسنا قبل أن يحلق لنا الآخرون". فهل التزم صالح بنصيحته؟
في واحدة من تسجيلاته الأخيرة، نهاية 2015، أي بعد 12 سنة من تصريحه المثير للجدل، أطل ملتحياً، وعلى غير ما اعتاد الناس عليه. لقد كان يقود حرباً، من خارج السلطة، على أكثر من عشر دول عربية، تحاول تقليص نفوذه لصالح دولة الرئيس الجديد هادي المعترف به دولياً.
مساندو صالح الغاضبون، والذين وجدوا ملاذاً للتعبير عن آرائهم السياسية، صرحوا من خلال إذاعة صنعاء وقد سيطروا عليها، أن الرئيس هادي لم يعد شرعياً. ومن جملة الألفاظ والشتائم التي تلفظوا بها على الهواء، للتدليل على صواب ما يقولونه، كانت هناك تهمة غريبة: لم يكن له شارب. أو باللهجة المحلية: "حالق شنبه". والذين عاشوا هنا، أو ضليعون في قراءة العادات والتقاليد السياسية، يعرفون ما الذي كان يود هؤلاء أن يعبِّروا عنه.
العمامة والبيريه
عُرفت المرحلة التي حَكمت فيها الإمامة اليمن في بداية القرن العشرين بطابعها الدّيني، والمذهب الزيدي على وجه التحديد. ولذا مثلت العمامة، التي يطلق عليها في اليمن "القاوق"، جزءا من الزي الشعبي لـ "الحاكم بأمر الله" الإمام أحمد يحيى حميد الدين، وقبله والده. وعلى ما تبقى من مساحات في جوانب رأس الإمام يمكن ملاحظة رأسٍ حليقة، ووجه بلحية محدّدة من الجانبين، وشارب مشذّب. وبالرغم من أنه كان على الإمام أن يكون متميزاً عن رعيته، باعتباره "أمير المؤمنين"، إلا أن مواطنيه وجنوده أيضاً، كانوا يلبسون زياً شديد القرب من زيه.
وبعد وفاة الإمام أحمد في أيلول/ سبتمبر 1962، انتظر الثوار أسبوعا واحداً على ابنه محمد البدر، لخلع "جبة" النظام القديم. لكن الأخير تمسك بها، فاندلعت الثورة من داخل القصر.
تولى المشير عبد الله السلال المرحلة الجديدة، وانتقلت البلاد من العمامة الدينية إلى "البيريه الكاكي" (القبعة العسكرية). وغير ذلك لم تأخذ أي من قصات شعر الرجل، وشكل لحيته ("سكسوكة") أي مدلول سياسي، سوى كون الرئيس السلال رئيساً لشكل جديد من السلطة: الجمهورية.
تلى ذلك بعد خمس سنوات، أول إنقلاب داخل الجمهورية الوليدة، فعاد شكل آخر هجين من السلطة للهيمنة. عمامة جديدة، وقصة شارب لا هي بالدينية الطويلة، ولا بالمدنية العادية. وكان هناك تحت العمامة شعر. الكثير من المراقبين يعتبرون الإرياني الرئيس المدني الوحيد لليمن. ولأنه أتى من سلك القضاء، أطاح بعمامته، و "البيريه" الكاكي، لدولة العسكر. نُفّذ إنقلاب عسكري جديد في عام 1974، أطاح بالإرياني، وأحل محله نائب قائد الجيش حينها "إبراهيم الحمدي".
أظهر الحمدي مرونةً كبيرة، في تضييق الفجوة بين الناس والجنود، من خلال انحيازه للطبقات الشعبية. وصحيح أنه ظهر في مناسبات عسكرية بـ "البيريه"، إلًا أنّه كثيراً ما ظهر بدون لباس رأس. وكونه حليق اللحية والشارب، عرف الناس حينها الطبيعة "العلمانية" لنظامهم السياسي. هذا التحوّل أزعج تحالف العمائم - البيريهات، لكن ليست العمائم المدنية هذه المرة كالتي كان يرتديها "الإرياني"، وإنما عمائم النافذين القبليين المتحالفين مع لابسي "البيريهات" الجدد.
اغتال هذا التحالف "الحمدي" في 1977، وتم تنصيب عسكري جديد رئيساً للجمهورية، المشير أحمد الغشمي. وبحكم الطبيعة الدموية للنظام الجديد، ووعيه للتحديات التي يمكن أن تفتك به، وكونه جزءا من المؤامرة التي أودت بالرئيس الأكثر شعبية (الحمدي)، كان البورتريه الذي حرص الغشمي على الظهور به، أي بيريه كاكي، تحته وجه جامد، وشارب "نازي" معقوص. ثم ظهرت القصص الجديدة للقتل والسحل والتعذيب. يقال أن الرئيس الجنوبي الأسبق سالم ربيع علي ("سالمين")، كان شاهد عيان، أثناء زيارته لصنعاء، على إحدى قصص القتل بدم بارد. ولذا قرر من ساعته: لا يجب أن يبقى هذا الرئيس في سدة الحكم.
قُتل الغشمي بعد أقل من سنة بحقيبة مفخخة وضعت في مكتبه بصنعاء، وصلت إليه من عدن، عاصمة دولة الجنوب السابقة. وبعدها بأيام قُتل الرئيس سالمين من قبل رفاقه في الحزب، والذين اتخذوا مقتل الغشمي ذريعة للإطاحة به.
ومن المعروف أن النظام في جنوب اليمن كان اشتراكياً، مهما كان حجم الصراع داخله وطبيعته. ولذا كان التركيز على ما يمكن أن يمثله البورتريه لزعماء دولة الشمال، باعتبار أن الصراع كان بين إيديولوجيات متحركة وغير ثابتة، تماماً كما يمكن أن يعكسه التحكم بقصات شعر الرأس واللحية والشارب.
لم يؤثر كثيراً مقتل الغشمي في القوى المستفيدة من النظام، وهي ظلت ممسكة بخيوط اللعبة، فتمّ التسكين على موضع الجرح، من خلال إصعاد عبدالكريم العرشي، ليشغل منصب الرئيس بشكل مؤقت حتى يَحسم مجلس الرئاسة موضوع الرئيس الجديد. كان العرشي يرتدي عمامة، بالرغم من خلفيته العسكرية الواضحة.
وبعد أقل من شهر، انتخب المجلس الرئاسي علي عبد الله صالح. وكان عليه أن يفهم المرحلة التي من أجلها صعد رئيساً للجمهورية وهو في مقتبل شبابه. ولذا كان بورتريه وجهه مختلفاً عن بقية مجايليه. لكنه ليس الوحيد في زمانه. وجه نحيل، وشارب ممدود فوق شفة عليا غليظة، ولحية حليقة. ومن ثم أغطية رأس.. بحسب ما تمليه عليه طبيعة التحوّل والصراع.