الثورة الأخيرة

كتب الكثير عن حدث 14 تموز 1958 العراقي، من دون أن تذكر الثورة، أو بالأحرى أن الثورة لم تجسَّد من حيث الوقائع الدالة عليها أو التي هي روحها. ربما تكون الثورة أكثر حضوراً بكثير مما تسنى لمن تناولوها على مر 58 عاما أن يظهروه، أو حتى ان يجعلوا منه جزءاً ثابتاً من مكونات الحدث.
2016-07-13

عبدالأمير الركابي

كاتب من العراق


شارك
ضياء العزاوي - العراق

كتب الكثير عن حدث 14 تموز 1958 العراقي، من دون أن تذكر الثورة، أو بالأحرى أن الثورة لم تجسَّد من حيث الوقائع الدالة عليها أو التي هي روحها. ربما تكون الثورة أكثر حضوراً بكثير مما تسنى لمن تناولوها على مر 58 عاما أن يظهروه، أو حتى ان يجعلوا منه جزءاً ثابتاً من مكونات الحدث. فالثورات إبان ما كان يعرف بزمن صعود حركة التحرر العالمية، ومن ضمنها الحركة التحررية العربية، كانت أكبر من الوسيلة التحليلية المتاحة في حينه، مما اضطرها لتحمل وطأة الايديولوجيا والاستعارة التعميمية، والأحكام المسبقة. وكان يتزايد ثقل المنهج السائد والغالب، وكذلك أثره، كلما كانت الجوانب أو المعطيات الواقعية المنتمية لتلك الثورات اكبر وأوسع من الإطار الإيديولوجي المتاح. وربما يأتي يوم (حتماً) لاستقامة التآلف بين الفكر والتاريخ في منطقتنا، يزداد فيه الاعتقاد بلزوم النظر الى الوقائع والاليات المحرِّكة على حساب القوالب الجاهزة.

وبالإجمال فان علم الثورات لم يدخل عالمنا أصلا، ولا ظهر من يقول لنا ما هي الثورة في العالم العربي، وكيف تعين مقوماتها أو سقف استهدافاتها. لقد جرت أحاديث شعاراتية أو توثيقية ويومياتية كثيرة عما عرف بثورة 23 يوليو المصرية، لكن من دون بحث ميكانزمات الحدث، وعلاقتها بالثورة كلحظة تغيير تاريخي على مستوى البنية، أو مقومات بلوغ الأهداف، أو الوسائل المتاحة والمستعملة، ومن قبل أي من القوى الاجتماعية. كذلك لم يسبق ان تطرق أحد الى العلاقة بين لحظة الانعتاق التي تلازم الثورات كشعور عام متجاوِز للتراكمات القيمية والمفهومية، أو انتكاستها، أو حدودها. فلم يعرِّفنا احد كما فعل تروتسكي في "الثورة الروسية" أو "جاك لندن" على المسرح الحياتي الفاعل والمنعتِق بعفوية ومن دون مخرج، سواء من ثقل الذاكرة المتراكمة، أو من الالتزامات المتعلقة بحدود الوضع البشري وممكناته.

توهج الكائن العادي

ترى هل عرفت ثوراتنا العربية، أو ثورة تموز في العراق، مثل هذا التألق أو توهج الكائن العادي، أو عرفنا لحظات أو تصرفات لا تنتمي للمعتاد مثل توقف الأداة التنفيذية للدولة عن العمل، كما حصل في العراق بعد ثورة تموز 1958، حين أغلقت مراكز الشرطة أبوابها تقريبا، أو استقالت عن العمل، لأن جهة الاختصاص هذه لم تعد تجد من يحتكم إليها ما دام نوع الاحتكام قد أوكل للهيئة الاجتماعية المتحوِّلة، والصائرة مرجعاً متسامحاً بل متجاوزاً للشؤون الإجرائية او التي تستوجب الاحتكام للقانون. هذا التعطل استمر وقتها سارياً لأكثر من ستة أشهر، إلى أن عادت نواة السلطة الجديدة تتعكز على مداخل أخرى للقوة، مثل الحاكمية العسكرية، وقرارات الحاكم العسكري العام (محمد صالح العبدي) الذي قام بحملة جمع للأسلحة من الفلاحين بدون مبرر سوى محاولة استعادة الهيبة والفاعلية المفقودتين، أو من قبيل اتخاذ قائد الفرقة الأولى (سيد حميد سيد حسين الحصونة) قرار منع جريدة "اتحاد الشعب" الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي من التداول في المناطق التي تنتشر فيها فرقته من البصرة حتى شمال الحلة، متجاوزاً على سلطة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم. وقائد الفرقة هذا هو الذي عصى أوامر رئيس الوزراء لاحقا، فلم ينفذ عملية احتلال الكويت كما أمره قاسم في أول الستينيات.

انقلاب يستبق الثورة

ما حدث يوم 14 تموز/يوليو 1958 كان انقلابا يريد استباق الثورة.. من دون جدوى. فالحركة الشعبية وحشد الانتفاضات والاضرابات من الثلاثينيات حتى الخمسينيات، كان وقتها قد حقق الغلبة الفعلية في الشارع للقوى المنظمَّة المناهِضة للنظام الملكي. وفي الخمسينيات، حين تنادى بعض الضباط لإقامة تنظيم "الضباط الأحرار"، فإنهم لم يقوموا بذلك فقط لأنهم تأثروا بالتجربة المصرية، التي كانت موحية من دون شك، الا انها لم تكن كذلك بالمعنى الاستنساخي. ففي العراق، حدث الانقلاب العسكري الأول في العالم الثالث عام 1936 على يد بكر صدقي، والعسكر كانوا متناغمين مع زخم الحركة الشعبية. وفي عام 1948، خلال انتفاضة كانون الثاني/يناير، امتنعوا عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين، مما أدى لسقوط الحكومة. وفي الأجواء العالم ثالثية والعربية وقتها، حيث كان العسكر يلعبون دورا مهماً في تغيير الحكومات الموالية للغرب، اندفع العسكريون العراقيون للمبادرة مأخوذين بقوة ضغط الحركة الشعبية، ومكانة الأحزاب الوطنية الإيديولوجية، ممثَلة بـ "جبهة الاتحاد الوطني" المتشكلة عام 1955 من الحزب الشيوعي، والوطني الديمقراطي، والبعث، والمستقلين، والحزب الوطني الكردستاني، عن طريق تحالف خاص مع الحزب الشيوعي. وكان العسكريون بحكم اختصاصهم بالسلاح والقوة، يظنون بان طبيعة اختصاصهم تمنحهم أرجحية، أو تحقق لهم التوازن مع الأحزاب الوطنية، على الأقل من ناحية قدرتهم على تنفيذ عملية تغيير السلطة.

غير ان العسكر لم يكونوا قادرين مثلا على جعل بعض الناس يقفون في الشارع، وينادون على المارة قائلين "يا ناس، أنا فلان بن فلان اطلب منكم السماح، انا اخطأت بحق الوطن، وارتكبت مخالفات وجرائم وأنا اعتذر وأطلب منكم أن تسامحوني". هذه الطريقة في التطهر الذاتي العلني من قبل مجرمين عاديين أطلقت الثورة سراحهم، كانت تنتمي لعالم اخر غير ذلك الذي ظل العسكريون أو الأحزاب الإيديولوجية تقترحه أو تصر على تنفيذه. ومثل هذا المشهد كان يتكرر بطرق أخرى، مثل ان يصعد أحدهم إلى باص مصلحة نقل الركاب، ويطلب من الجابي ان يقطع بطاقات لجميع الركاب على حسابه الخاص، لأنه مخطئ، ويريد أن "يكفر عن ذنوبه بحق الناس والوطن".. تلك المشاهد كانت تغوص في الوجدان أو تخرج من وجدان غير مقنن ولا مؤطر، أو هو تحرر فجأة من التأطير المتوارَث، مثله مثل خروج المرأة إلى المسرح، أو انتسابها لمليشيا "المقاومة الشعبية"، وحملها للسلاح. ففي إحدى مدارس البنات في الناصرية بجنوب العراق، ألفت "زينب" (وهي فخرية عبد الكريم لكن زينب هو الاسم الذي تشتهر به، وهي أصبحت في ما بعد أهم ممثلة عراقية)، مسرحية ومثلتها أمام الجمهور. وفي الشامية في الفرات الأوسط، كما في السماوة، خرجت النساء واعتلين المسرح، ومثلن وسط مجتمعات بدت كأن ذاكرتها تمر بحالة قطع، فلم تعد هي نفسها بقياس القيم التي ظلت غالبة حتى الأمس، وذلك علما أن المرأة في السماوة نظمت عام 1959 تظاهرة نسوية رفعت شعار "بس هالشهر ماكو مهر"، تكريما لثورة 1958.

هل يتلاقى هذا مع الاندفاعة الهجومية المفاجئة لجماهير الفلاحين على قصور ملاّك الأرض أشباه القطاعيين، حديثي النعمة، ومن خانوا أبناء جلدتهم من أعضاء العشائر المساواتية المشاعية تاريخيا، لتظل في اكثر من مكان، مشاهد القصور الخاوية التي تركها أهلها وهربوا إلى الخارج، أو إلى بغداد.

أصول العنف الجمعي

هل وجد أدب (أو تبقَّى)، ينتمي لهذه الملامح من "ثورة تموز" 1958 مع كل ما خلفته في العالم العربي من دوي باعتبارها "محور الفوضى"، كما كان يقول الملك حسين ملك الأردن؟ لم يأمر الانقلابيون وقتها، لا في بيانهم الأول الذي القي بصوت عبد السلام عارف، ولا في أي من بياناتهم اللاحقة بطرد الاقطاعيين من الريف، مثلما أنهم لم يأمروا بسحل نوري السعيد، رمز النظام الملكي والتعاون مع الاستعمار الإنكليزي، بعد دفنه وإخراجه من قبره، أو تعليق جثة عبد الإله، الوصي على العرش، وتقطيع لحمه، وصولا حتى إلى تمثيل أكل بعض أفراد العائلة المالكة.. مع أن هؤلاء لم يكونوا يستحقون بالفعل مثل هذه الدرجة المبالِغة من القصاص! لكننا أمام عنف جمعي، يهمنا أن نعيده لأصوله وبواعثه، وهذا لن يكون ممكناً إذا لم نعد قراءة عموم السردية العراقية الحديثة، أملا بالعثور على المعنى الفعلي الأعمق للصراع الوطني والاجتماعي الذي حكم تاريخ هذه البلاد منذ عام 1920 وبعدها، أي بعد الثورة الكبرى، واضطرار الإنكليز لإقامة "الدولة الحديثة" عام 1921. لماذا بدت ثورة تموز 1958 وقتها كسلطات متفرِقة ومتنازعة، أو متناحرة، فيها الكثير من ملامح وطموح مجتمع الـ "لا - دولة"، مثلما صارت لحظة افتراق بين الأطر الحزبية الايديولوجية وبين الناس الذين أصبحوا الآن فاعلين خارج الحزبية، كما حدث في الجيش، حين تشكلت فجأة وعفوياً "لجان الضباط والجنود"، مع ان أحداً لم يستطع أن يثبت بأن تلك الظاهرة كانت استنساخا للتجربة الروسية المشابهة والأقدم.

ويسجل على الحزب الشيوعي آنذاك، انه اصدر بيانا يدين فيه "الغوغاء" والفوضى، وانه كان ضائعا بين ما يفرضه الموقف "الأممي" من ناحية، والداخلي الخارج عن السيطرة من ناحية أخرى. وكالعادة في مثل هذه الأحوال، فان من ظل يتحدث بصوت عال، هم أولئك الذين كانوا يظنون أنهم يملكون أكثر من غيرهم مقومات الرؤية، والمفهوم الاستراتيجي والآني الصائب. إلا أن الحزب الشيوعي وقتها عانى من التكتلات والصراعات الداخلية الحادة، وتمَّ نفي سلام عادل سكرتير الحزب إلى موسكو، قبل ان يعود ويقود انقلاباً داخلياً، عزل بنتيجته أربعة من القادة الكبار المتآمرين عليه وعلى نهجه.

الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة كامل الجادرجي، انتهى من وقتها، ولم يعد يتمتع بأي دور قيادي في الواقع السياسي العراقي. وحزب البعث تغيرت قيادته، وبدأت عملية انتقاله من حزب قومي شعبي بقيادة فؤاد الركابي، الى حزب سلطة وحكم، الى ان أمسكت به مجموعة قرابية وصلت للحكم في 17 تموز / يوليو 1968 بقيادة احمد حسن البكر / صدام حسين. وهكذا كانت الثورة تنطفئ وتموت، وأحزابها تنسلخ عنها معلِنة نهاية حقبة "الوطنية الإيديولوجية"، ليدخل العراق مساراً آخرمن نوع مختلف كليا.

... كل هذا والثورة لم تقرأ بعد. فهل يكمن في قراءتها سر وقانون صحوة العقل أو الإرادة العراقية على تاريخ مطموس وضائع، قبل بدء زمن التفاعل معه بما يستحق، وبما هو عليه؟

مقالات من العراق

"شنكَال"؟

فؤاد الحسن 2024-12-23

لا يقبل الدين الإيزيدي الراغبين في الانتماء إليه، الذين لم يولدوا لأبوَين إيزيديين. وهو بذلك، كديانة، ليست تبشيرية، ولا نبي أو رسول للإيزيديين، وهذا ما يجعل علاقتهم مباشِرة مع خالقهم،...

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

للكاتب نفسه