ليلة العيد في اليمن: "ماتو أهلي ومن حظ النكد عشت أنا"

أشعر وكأني أضعت شيئاً و أنا أنظر إلى كفي الشاحبة التي لم تعد مشاغلي تنفع كحجة لإهمالي لها، فأنا لا أرى في مشاغلي مبرراً كافياً لقطع عادة نقش الحناء على كفيّ ليلة العيد، كونها لا يمكن أن تكون أكثر من مشاغل خالتي التي تعمل صباح مساء داخل وخارج المنزل وتستقطع من وقتها ساعات طويلة تقضيها وابنتها بصبر في انتظار دورهما في منزل "منقِّشة" الحارة المكتظ بالنساء
2016-07-10

سارة جمال

كاتبة من اليمن


شارك

أشعر وكأني أضعت شيئاً و أنا أنظر إلى كفي الشاحبة التي لم تعد مشاغلي تنفع كحجة لإهمالي لها، فأنا لا أرى في مشاغلي مبرراً كافياً لقطع عادة نقش الحناء على كفيّ ليلة العيد، كونها لا يمكن أن تكون أكثر من مشاغل خالتي التي تعمل صباح مساء داخل وخارج المنزل وتستقطع من وقتها ساعات طويلة تقضيها وابنتها بصبر في انتظار دورهما في منزل "منقِّشة" الحارة المكتظ بالنساء. خالتي كانت تصطحبني معها كل عام إلى منزل "المنقِّشة" كما تسميها اليمنيات،  فور وصولي إلى منزل جدتي في عدن التي لا تعترف بعيدٍ لا يحملني وأمي لمنزلها، تماماً كما لا تعترف نساء اليمن بعيدٍ يحل قبل أن يفرِّغ قُمع الحناء لوحات المنقَّشة على أكفهن.
الحرب التي خنقت الطرق بين المدن اليمنية لم تخنق قُمع منقشة كل حارة الذي بقي يرسم العيد على أكف اليمنيات و كأنه يغني بصوت محمد سالم عزاني:

شفت ناقش الحناء؟ يا أبوي من فنه! طائر من الجنة، ما أحلى نقشة الحناء
سبحان من صوَّر، كأنه قمر نَوّر! لو غاب باتحسر، ما أحلى نقشة الحناء

في ليلة العيد هذه، وعدت كفي بعناق قمع الحناء العيد القادم وإن طالت الحرب، متمسكة بمعايدة اليمنيين الأقدم: "العيد عيد العافية". إلا أن وعدي بوصلٍ قريب مع نقش الحناء نُكِثَ بصورة كفين تمنيت لو كانتا شاحبتين ككفي فيصبح مرأى الدم الذي يسد فراغات نقش الزهور عليهما أقل إيلاماً. الزهور المتصلة بأغصان ودوائر ووريقات خرجت من القُمع الذي لو كانت له عينين لأصيبتا بالعمى لمشهد كفي الطفلة التي أمضت ليلة العيد جثة يغطيها شال كذلك الذي يشتريه أبي لاستقبال العيد.
"عيدية" عبير مهيوب التي التقطت الكاميرا صورة نقش كفيها كانت صاروخاً أهدته ميليشيات صالح والحوثي لها ولسبعة أطفال آخرين تحايلوا بشالاتهم وأقماع الحناء على أصوات القصف من الطائرات الأمريكية بدون طيار التي تجول في سماء مدينة مأرب اليمنية منذ سنوات، سبقت ميلاد معظمهم، قبل أن تلحق بها طائرات "التحالف العربي". و اليوم تدفن الشيالات ملتحفة الأجساد النحيلة ويُودَعُ كفُ طائر الجنة التراب.
كنا نتحايل صغاراً على أمهاتنا للسهر ليلة العيد ظناً منا أن السهر يقرب صباحه، وكانت وسيلة أمي الأنجع لأن أنام هي أن تذكرني بأن نومي المبكر هو ما سيجعل وجهي نضراً  في صورة العيد التي يحرص والدي على التقاطها معي كل عيد. لو كنت أعلم أن السهر الوحيد الذي قرب الصباح بالفعل سيكون ذلك الذي أقضيه أمام صورة كفيَّ عبير اليوم، لكنت قضيت طفولتي أتوسل العيد أن يؤجل صباحه على أمل أن تضل الشظايا طريقها وينجو وجه عبير النضر من هذا الشحوب الذي يكتسيه الآن.
صوت العزاني يصاحبني و أنا أتأمل كفي عبير: "لو غاب باتحسر" يغنيها مجازاً بفرح عدني أظنه يشبه فرح عبير بنقش ليلة عيد مأربية. لو أن باستطاعتها أن تسمعني لأوصيتها بأن تبحث عن قريناتها اللاتي لم يلتقين بها في هذه الحياة. أن يجتمعن ويقضين صباح العيد في حياة أخرى لتُريَ كلٌ منهن الأخرى نقش كفيها فتطير عبير في ثنايا كل نقش لتزور عدن وتعز والحديدة  والمكلا وصنعاء وصعدة دون حواجز أو ألغام تعترض رحلتها، فتكون لها بلاد غير تلك التي غيبتها في هذه الحياة.
أما نحن فصباحنا حسرة، فلا بلادٌ و لا عيد في حضرة صورة كفيّ عبير. العالم لا يبكي موتانا، فهو لا يعرف ولا يرغب بأن يعرف بنا، أحياءً كنا أم أمواتاً. و إن كانت أغنية نقش الحناء تهويدة نوم عبير، فترنيمة صباح من بقي وحيداً غريباً يواجه رمح الصور المغروس في محجر العين هي  "الباله" التي غناها علي عبد الله السمة منذ عقود، كأهزوجة للمغترب اليمني الذي فرقت لقمة العيش المختطفة بينه وبين بلده، لنغنيها اليوم مغتربين داخل بلادنا:

الباله والليله العيد وانا من بلادي بعيد
ما في فؤادي لطوفان الحزن من مزيد
الباله قلبي بوادي بنا وأبين ووادي زبيد
الباله هايم وجسمي هنا في الغربه القاسيه
الباله خرجت انا من بلادي في زمان الفنا
الباله أيام ما قالوا موسم الطاعون قالوا جنا
الباله وماتو أهلي ومن حظ النكد عشت أنا.

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

اليمن: كوارث السيول في "تهامة"

اتّسمت الاستجابة الرسمية في تعاطيها مع الكارثة، بمستوى متواضع، يتجلّى من خلاله الأثر البالغ للحرب والصراعات السياسية، في الوصول إلى هذه الحال البائسة التي ظهرت عليها الجهات المسؤولة في حكومتي...

للكاتب نفسه

نزيف

سارة جمال 2016-06-27

"تقصم الظهر"، أكثر تعبير كانت تستعمله أمي لتصف حقيبتي منذ الدراسة الابتدائية.. أمي حاولت بشتّى الوسائل أن ترفق بي من الحقائب التي كانت تكبر عاماً بعد عام حتى أصبحت مشاويري...

استعمار القصة والصوت

سارة جمال 2016-06-02

تنقلت جولي التي أصبحت سفيرة الأمم المتحدة للنيات الحسنة في 2012 من إنقاذ نساء البوسنة إلى غلاف القضية الأكثر جاهزية للتسويق اليوم: مخيمات اللاجئين السوريين، حتى وصلت إلى محطة جديدة...