مرّت أكثر من خمس سنوات على لحظة غيرت مسار حياة السوريين، وتوقفت بعدها حياة كثيرين منهم. كلّ شيء تغيّر. صارت أحياء كاملة على الأرض، وصارت أشياء بسيطة كالحصول على الخبز والماء والوقود تحتاج تفكيراً طويلاً وهمّة عالية. وحدث أن خرج ملايين من البلد، وصل منهم من وصل إلى الوجهة التي كانت في باله، وتوقفت رحلة من توقفت رحلته لغرقٍ أو اعتقال أو إغلاق حدود. شيءٌ واحدٌ ما زال ثابتاً وسط هذا كلّه: مسلسل باب الحارة. كلّ شيءٍ يمكن أن يتوقّف إلّا صناعة التسلية. الناس محتاجون إلى التسلية طوال الوقت.
وصلنا الآن إلى الجزء الثامن من هذا المسلسل شديد الرواج بين السوريين وبين سواهم كذلك. في السابق تعرض المسلسل لانتقادات بسبب تمجيده لذكورية المجتمع وتصويره المرأة كمتفرّغة لكيد الدسائس والثرثرة طوال الوقت، لكنّ انتقادات هذا العام من نوعٍ آخر. فقد انضمّ إلى المعجبين بالمسلسل المتحدث بلسان "جيش الدفاع الاسرائيلي للإعلام العربي" أفيخاي أدرعي، عبر مشاركة مقطع من المسلسل على صفحة تويتر الخاصة به، تظهر فيها سارة اليهودية القادمة إلى المسلسل حديثاً. في المقطع تتحدث سارة مع متشدّد دينياً عن إسلام معتدل ليس فيه كره لليهود. في مقطعٍ آخر يظهر أفيخاي محاطاً بجنود مسلمين في جيش الاحتلال يسألهم، بثقل دمّه المعتاد، عن عاداتهم الرمضانية، فيقول له أحدهم إنّه يتابع بشغف مسلسل باب الحارة.
حسناً، لا بدّ أنّ رواج الأجزاء السابقة من مسلسل بدأ عرضه في بدايات القرن الواحد والعشرين، ويتحدّث عن شكل متخيل لمجتمع دمشقي في بدايات القرن العشرين، يشير إلى حنين فئاتٍ واسعة في مجتمعات مشوهة النمو، ربما بسبب عولمة لم تنتجها ولكنها تستهلكها بنهم.. ولعل باب الحارة هو نوع من التعويض عن هذا التشوه بقدر ما هو تعبير عنه أصلاً..
أمّا الآن فقد صارت صور السوريين، على اختلاف شروطهم وانتماءاتهم الاجتماعية، حاضرة في الإعلام العالمي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا جعل القائمين على باب الحارة يعملون على تمرير رسائل سياسية لمواطني العالم الذين سيتابعون المسلسل لحظة بلحظة ما دام سوريّاً! قبضايات الشام وأبطال حاراتها ينبذون التطرف الدينيّ الإسلامي ومعاداة السامية المرتبطة بهذا التّطرّف. لكنّ مَن التقط الإشارة لم يكن رؤساء الدول الأوروبية وأعضاء برلماناتها بل رجلٌ خبيث أراد أن يربط الناس بين يهوديّة سارة في المسلسل ويهوديّة إسرائيل، فيكوّن في وعي من يتابع رسائله الرمضانية أنّ القائمين على المسلسل يروّجون للتعايش مع دولته. وهذا يخلق مساحة جديدة للشتائم والردود عليها، تزيد من هامش التسلية التي يختصّ بها أفيخاي كما يختصّ بها القائمون على المسلسل. أفيخاي وباب الحارة يشبهان بعضهما كثيراً! كلٌّ منهما يقدّم كذبةً مصوّرة ويواصل مع الوقت تقديم تنويعات على هذه الكذبة.