بدعم و تمويل تركي، تنتصب في أرجاء متفرقة من قطاع غزة هذه الأيام عشرات ورش بناء و إعادة ترميم المساجد التي تم تدميرها في المواجهات العسكرية الثلاث التي خاضها الغزيون ضد الاحتلال الإسرائيلي خلال السنوات التسع الماضية. المنح المالية وأوجه الدعم التركي لحماس (وغزة) في السنوات الأخيرة اشتملت أيضا على مساعدات طبية وتشييد مركز تأهيل للمعاقين والجرحى.
صواريخ تركية ـ إسرائيلية!
لا معلومات محققة بهذا الخصوص، ولكن ربما تكون إسرائيل قد لجأت لاستخدام صورايخ "بوباي" في تدمير المساجد المعاد ترميمها، أو في استهداف الأماكن التي تواجد فيها أصحاب الأطراف المقطوعة في مركز التأهيل الذي شيدته تركيا. الصاروخ المذكور والتحديثات المتعاقبة عليه هو ثمرة مشروع عسكري تركي– إسرائيلي مشترك، قائم منذ العام 1997. وهو، إلى جانب ملف التعاون والتنسيق الإستراتيجي بين القطاعات الأمنية والعسكرية والاقتصادية و السياسية بين البلدين، يعكس إلى حد بعيد ــ مع مفارقات أخرى ــ المقاربة التركية المثقلة بالالتباس والغموض لقضايا المنطقة العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وإذا كانت الحيرة هي ما يتملك من يرى علميَّ كل من فلسطين وتركيا يرفرفان فوق ورش البناء هذه، وهو يحاول فك طلاسم أحجية هذه المفارقة، فإن حيرته تتضاعف إزاء اتفاق المصالحة الأخير بين تركيا وإسرائيل.
يجهد من يتحرى بنود هذا الاتفاق الأخير في استخلاص مغزىً سياسي فارق في أي من بنوده، ليمكن التدليل بها كخرق أحرزه الجانب التركي في المواقف التقليدية للحكومة الإسرائيلية منذ بدء الأزمة. غير أن تتبع حجم التقدم الهائل في مختلف مسارات العلاقات الثنائية بين البلدين خلال سنوات "القطيعة"، وما أفضت إليه المستجدات الإقليمية والدولية على مختلف الصّعد من مساحات للتلاقي بينهما، يجعل من الاتفاق شرطا إجرائياً ملحا لا يحتمل الانتظار لتعبيد وتوسعة مسالك مشاريعهما وخططهما المشتركة والدفع بها إلى الأمام. فصعود معدلات التبادل التجاري بين البلدين، والاعتمادية التبادلية، العالية نسبياً، القائمة بين مختلف قطاعاتهما الصناعية والإنتاجية، والأهم ما خلص إليه الطرفان من أن منفذ التصريف الوحيد المتاح أمام حقول الغاز الإسرائيلية هو مشروع الأنبوب الذي سيقلّه إلى الشواطئ التركية، والتوجس التركي من أن بعض النتائج المحتملة للصراعات الجارية في الشرق الأوسط ستؤول إلى ضرب أسوار من العزلة حول تركيا لا وسيلة إلى كسرها إلا عبر مد الجسور مع إسرائيل... وسواها أيضاً من اعتبارات، اجتمعت جميعها للضغط باتجاه طيّ صفحة القطيعة بينهما.
تركيا و غزة
الإخفاق الكبير الذي منيت به الأماني التركية في الملف السوري، والذي ثبّت حقيقة أنه أياً كانت النتائج التي ستنتهي إليها الحرب هناك، فان حضور تركيا في أي مشهد سوري مستقبلي سيظل محكوما بقيود تُضائل من نفوذه وتواجده، بفعل الوافدين الجدد من الدول الكبرى إلى سوريا، المحملين بأجندات ومشاريع تقلًص من مساحة هذا الحضور وتأثيره. ومنذ أن تبدّت هذه الحقائق، استرجعت تركيا في العامين الأخيرين وبنشاطية عالية، تحركاتها السياسية في ملف قطاع غزة واللعب على حبل الوساطة غير المعلنة بين كل من حركة حماس و إسرائيل، وفي ذهنها أن غزة لا تزال صالحة كموطئ قدم ومركز نفوذ تركي في قلب المنطقة العربية.
يمكن التأريخ لبداية الاحتضان التركي ل"ورقة" غزة بفوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، وحسم الأخيرة عسكريا بعد ذلك بعام ونصف سيطرتها التامة على القطاع. في حينه، وانسجاما مع السياسة التركية المستجدة والقاضية بالاستدارة نحو دول الجنوب أو ما سمي وقتها ب"عمق تركيا الإسلامي التاريخي"، وهي السياسة التي دشنها حزب العدالة بعد وصوله للسلطة بالتزامن التقريبي مع إغلاق أوروبا الباب أمام المساعي التركية للالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي، عملت الحكومة التركية ورئيسها على خطب ود مسلمي الجنوب العربي والفلسطينيين خصوصا، عبر مواقف وأحداث غلبت عليها نزعات الاستعراض الشعبوي، ونُفخ فيها وفي أهميتها السياسية من قبل الإسلاميين العرب وبخاصة الإخوان المسلمين. انحازت الحكومة التركية لصالح الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، ووصلت الى ذروة ذلك في واقعة إبحار أسطول التضامن الدولي مع غزة قبل ست سنوات، والمجزرة المريعة التي ارتكبتها قوة خاصة إسرائيلية بحق المتضامنين (الضحايا من الأتراك) حين هاجمت السفينة التركية "مرمره". و كان قد سبق الواقعة مشادة علنية بين كل من رئيس الوزراء التركي أردوغان والرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز في "مؤتمر دافوس" الذي كان ينعقد بالمصادفة في الفترة نفسها التي وقعت فيها الحرب الإسرائيلية الأولى على قطاع غزة مطلع عام 2009.
في غزة، و منذ أن تكرس الطلاق الحمساوي مع محور (إيران – سوريا - حزب الله) بُعيد الحرب السورية عام 2011، أكملت حركة حماس تموضعها التام في مربع الحلف التركي ــ القطري، شأنها شان باقي أجنحة الإخوان المسلمين في مختلف الأقطار العربية. ولعل الحضور التركي ــ القطري في ملف قطاع غزة وتأثيراته على القرار الحمساوي قد ظهر بجلاء خلال حرب 2014، حيث تصدرت الدولتين جهود الوساطة الإقليمية لوقف إطلاق النار بين الفلسطينيين وإسرائيل، على الرغم مما أثاره ذلك من حفيظة أطراف أخرى في مقدمتها مصر، التي استشعرت أن هذا الحضور يأتي على حساب مساحات نفوذ ودور سياسي تاريخي مكفول لها.
حتى الآن لم تفصح حركة حماس عن حقيقة المداولات التي تمت بينها و بين مختلف الأطراف التي رعت محاولات وقف إطلاق النار في الحرب الأخيرة. و لكن انطباعا عاما تشكَل، يفيد بأن قيادة الحركة تلقت وعودا وتطمينات من القطريين و الأتراك بقدرتهم على انتزاع مكاسب سياسية نوعية من الإسرائيليين لصالحها وصالح حكمها في قطاع غزة. وهو ما قد يفسر سبب المماطلة الحمساوية في الاستجابة لدعوات وقف إطلاق النار من أطراف دولية وإقليمية أخرى، في مقدمتها المبادرة المصرية التي رفضت وأثارت استفزاز النظام المصري ونقمته، وعبّر عنهما سلوكه السياسي في ما تلا ذلك من فصول خلال الحرب.
في المحصلة، امتدت الحرب ل52 يوما، من غير أن تلوح في الأفق بوادر لأي مكتسبات تذكر، ووصل البطش وجنون آلة الحرب الإسرائيلية في أيامها الأخيرة مستويات غير مسبوقة اضطرت قيادة حماس معها لإعلان موافقتها على وقف إطلاق النار و"الانتصار" مجددا على إسرائيل. غير أن الأحاديث عن الرفع الكامل للحصار عن غزة، وتشييد ميناء بحري لها على المتوسط، وتأسيس محطة توليد للكهرباء المقطوعة عنها تارة في قلب البحر من مركب تركي و تارة أخرى من محطة في العريش تعمل بغاز قطري.. بعد أن كانت أهدافا للحرب الأخيرة، تحولت لأجندة تحركات سياسية تروج أخبارها حركة حماس، وتضعها تركيا كشروط لانجاز "المصالحة" مع إسرائيل. ولكن، وبمعزل عن دقة ما أشيع عن هذه التحركات خلال العامين الماضيين، فان الأتراك ومعهم القطريين، تلقوا بالفعل تلميحات إسرائيلية باستعداد الأخيرة للتجاوب المبدئي مع ترتيبات يرعاها محورهما في القطاع، بل إن مساعيهما لقيت أحيانا أصداء مشجعة لدى إسرائيل التي نجحت بدورها في ترويض اندفاعتهما نحو غزة وتطويع سقف مبادراتهما بما لا يخرق سياسات الضبط التي تتبعها الأجهزة الإسرائيلية تجاه القطاع ومن فيه.. لتقتصر حصيلة حضورهما ودعمهما على مساعدات رمزية لا يمكن بأي حال من الأحوال وصف الجدوى منها ب"الدعم المستدام"، أو الإشارة إلى أي أثر فارق لها على الوضع المعيشي للغزيين.
خاتمة
لا تسمح إسرائيل، وفق عقيدتها الجيوستراتيجية، لأي طرف إقليمي أو دولي بأن ينتزع مساحة أياً كان قدرها في ما تعتبره مجالها الحيوي في المنطقة. وبغض النظر عن مدى إدراك كل من تركيا و قطر لهذه المسألة، فإن جل ما سعت إليه إسرائيل من خلال هامش الحركة الذي أتاحته لهما هو استخدامهما في التوطئة لسلسلة من الأهداف البعيدة، التي لا تقتصر فقط على تدجين حماس إقليمياً ودفعها لتتكيف مع محددات اللعبة السياسية في المنطقة، وتسكين الأزمات المعيشية المتفجرة للغزيين عبر تعليقهم بوعود انفراج وهمية.. على طريق ترسيخ الفصل القائم في الكيانية السياسية الفلسطينية، بل توطيد صلاتها بقطر التي ستكون واحدة من بوابات عبورها طريق التطبيع الكامل في العلاقات مع الخليج (الذي ترى إسرائيل انه ملعبها السياسي والاقتصادي الأهم في المستقبل)، وتسعير التناقضات بين تركيا ومختلف الأطراف الإقليمية الأخرى حول حق الوصاية على غزة. و لكن هل تستكين تركيا للمحددات الإسرائيلية وترضخ لها؟
قبل أيام من إعلان الاتفاق، كانت تركيا من ضمن المجموعة الدولية في الأمم المتحدة التي دفعت بترشيح إسرائيل لمنصب رئاسة اللجنة السادسة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، والمعنية بمكافحة الإرهاب وقضايا القانون الدولي، بما في ذلك البروتوكولات الملحقة باتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين زمن الحرب والانتهاكات التي ترتكبها الدول الأعضاء. دبلوماسي تركي في نيويورك رد على احتجاجات الكتلة العربية والإسلامية على الموقف التركي بالقول: إن ما يجمع إسرائيل وتركيا هو أكثر بكثير مما يجمع تركيا بالدول الإسلامية والعربية!