حكاية 30 يونيو..

لم يكن تحرّك "30 يونيو" وليد لحظته، كما لم يكن مجرّد عمل مؤجل إلى حين انقضاء العام الأول من حُكم جماعة الإخوان لمصر.
2016-06-30

مايكل عادل

باحث من مصر


شارك
عمار أبو بكر - مصر

لم تكُن كُل تلك الجموع وليدة الدعوة الواحدة، لم يجمع كُل هؤلاء البشَر الدافع نفسه والحلم نفسه. تعددت الأحلام والنيّة واحدة.. كما أسباب الموت. فالموت قد يشبه الحياة أحياناً وقد يكون طريقاً إليها، وما الانفجار إلا نتاج واحد لتراكمات عديدة، واجتماع للكثيرين تحت دوافع متعددة ومظلّة واحدة. ولكن في هذا اليوم سار الناس واحتشدوا ككُتلةٍ واحدةٍ بأحلام جمّة تعددت واختلفت.

لم يكن تحرّك "30 يونيو" وليد لحظته، كما لم يكن مجرّد عمل مؤجل إلى حين انقضاء العام الأول من حُكم جماعة الإخوان لمصر.

2012

في العام السابق لحراك 30 حزيران/ يونيو، وتحديداً في نهاية الشهر نفسه من العام 2012، تولّى محمد مرسي عيسى العيّاط رئاسة مصر ليبدأ بالوعد الشهير بأنه لن يكون رئيساً عن جماعته ولا حاكماً بموجب عضويّته بها، بل أنه ــ وكما كرر كثيراً ــ سيقف أمام الشعب دائماً رئيساً لكُل المصريين، وقد كان لهذا الأمر أثر في اصطفاف عدد كبير من القوى السياسيّة المحسوبة على التيّار المدني اليساري والليبرالي حول مرشّح جماعة الإخوان المسلمين الفائز بانتخابات رئاسة الجمهوريّة.

بدأ مرسي فترته الرئاسيّة بإجراء إعادة تشكيل المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة الذي كان يقوم بإدارة المرحلة الانتقالية بعد الإطاحة بمبارك خلال الثورة المصريّة في "25 يناير 2011". فأحال المشير محمد حسين طنطاوي والفريق سامي عنان للتقاعد، وقام بتكريمهما ومنحهما قلادة النيل والتي تعد أعلى وسام مصري، ثم عيّنهما مستشارين له متجاهلاً كافة المطالبات بمحاكمتهما على أحداث العنف ضد المتظاهرين خلال عاميّ 2011 و2012 (أحداث محمد محمود الأولى والثانية وأحداث مجلس الوزراء)، مؤكداً أنه لن يسمح أبداً بتوجيه الاتهامات لهما، واصفاً الأحداث السابق ذكرها بأنها أحداث شغب كانت تهدف لعرقلة المسيرة الديمقراطيّة عقب الثورة. وطبقاً لمفهوم الجماعة، كانت المسيرة الديمقراطيّة هي إتمام الصفقة: الخروج الآمن لهؤلاء مقابل وصول الجماعة للحُكم وإحكام سيطرتها على الدولة.

لم تترك جماعة الإخوان المُسلمين مناسبة قبل تولّي مرسي الحُكم إلا وأعلنت وقوفها مع أجهزة الدولة الأمنية خلال أي صراع سياسي أو ثوري تخوضه، فكما أعلنت موقفها مما جرى في "محمد محمود" و"مجلس الوزراء"، كانت قد أعلنت خلال الإرهاصات الأولى للثورة عدم مشاركتها، ورفعها لمطالب لرئيس الجمهورية آنذاك. وهكذا وقفت صامتة أمام إجراء كشف العذريّة على فتيات الميدان (آذار/ مارس 2011) وكافة الأحداث التي أعقبت ثورة يناير وحُسبت عليها، ورغم ذلك فقد حصلت على فرصة تاريخيّة لتقديم نفسها من جديد كتيّار شعبي يسحب يده من المناوشات السياسيّة ويقصي عن ذاته شبهات تبنّي مشروع أكثر رجعيّة وقمعاً مما سبق حين وقفت الفصائل السياسيّة التي كانت على خلاف عميق معها إلى جوار مُرشَّح الجماعة في فرصة تشبه الوقت بدل الضائع المُحتسب في نهاية مباراة محتدمة.

في واقع الأمر، لم تكن القوى السياسية المتضامنة ــ كالجمعية الوطنية للتغيير، وحركة السادس من أبريل، وقطاع من حركة الاشتراكيين الثوريين ــ تنظر إلى الخلافات الأيديولوجية بقدر تطلّعها إلى كسر دائرة الحُكم العسكري من خلال أي تنظيم محسوب على التيار المدني. وهنا كانت المفارقة. ف"الإخوان" لم تكن فقط جماعة دينيّة تميل إلى المنهج الثيوقراطي السياسي والأمر والنهي من قرار مكتب إرشاد منغلق فحسب، ولم تكن أيضاً مجرّد جماعة دوغمائيّة ولكنّها أيضاً كانت أقرب القوى السياسيّة حينها إلى مؤسسات الدولة التي لا تترك فرصة إلا وتعلن تأمينها على قرارات المجلس العسكري السياسيّة وتحركات الشرطة الأمنيّة ضد كُل ما هو ثوري، ورغم كُل ذلك لم تقرر تلك النخبة مقاطعة الانتخابات كموقف جذريّ رافض لكلا المرشحين، "شفيق" المحسوب على النظام البائد و"مرسي" المحسوب على الجماعة.

بدأ التعامل مع الشارع تعبيراً عن المعارضة، بفعاليّة هزيلة في 24 آب/ أغسطس 2012، تقدّمها ودعا إليها عدد من المحسوبين على المرشَّح الرئاسي الخاسر أحمد شفيق، ومنهم النائب محمد أبو حامد والكاتبة فاطمة ناعوت، وهم أصروا على إتمام النزول إلى الشارع رغم رفض أغلب القوى السياسيّة والحركات الشبابيّة له، مما يشير إلى عدم وجود كُتلة حرجة مُحرّكة للشارع ما حَكَم عليه بالفشل قبل قيامه، وقد أسفر عن مكاسب قوية للتحالف الحاكم (الإخوان المسلمين وأجهزة الدولة الأمنية)، واعتبرته الجماعة وقتها فرصة قوية لعرض العضلات أمام المؤسسات والقوى السياسيّة ولتقديم نفسها كتيّار حاكم بلا معارضة.

أمّا البداية الفعليّة للموجة المناوئة لنظام محمد مرسي فكانت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، وتحديداً في ذكرى أحداث محمد محمود الأولى التي أعطى فيها مرسي أوامره للشرطة بالتعامل المباشر مع المتظاهرين، فأصيب عدد كبير منهم برصاص الشرطة وسقط الشهيد جابر صلاح (الشهير بـ"جيكا")، وهو أوّل شهداء الثورة ضد حُكم محمد مرسي. خرجت الجماعة ببيان يؤكد موقفها ضد ما أسموه "فوضى"، وأن على أجهزة الدولة أن تقف بحزم في وجه "المخرّبين"، مما وضع مرسي بشكل مباشر في وجه الثورة كحاكم شاء لنفسه أن يكون في عِداد الطغاة.
تطوّر الأمر فيما بعد، حينما قررت الجموع أن تقصد "قصر الاتحاديّة" وهو مقرّ رئاسة الجمهورية في تظاهراتها التي كانت تتخللها اشتباكات مع الشرطة و مع ميليشيات مؤيّدة للرئيس، مما أدى لسقوط شهيد. فبدأت التيّارات السياسية المحسوبة على الثورة في استشعار الخطر الداهم في أن يقرر رئيس الجمهورية استخدام مؤيديه في قمع وقتل المتظاهرين المعادين له، وكذلك في تعذيب المتظاهرين وتعليقهم على أسوار قصر الرئاسة في مشهد جاهلي سوريالي. في حين خرج الرئيس في خطاب استفز الجميع مؤكداً أنه لن يتهاون مع من يشيع "الفوضى" وبأنه يدعو الجميع لحوار سياسي بدأ من خلاله سلسلة التهميش المُهين للأحزاب والحركات السياسيّة، مستضيفاً الأحزاب المؤيدة له، ليكون الحوار تحت مظلة قراراته هو وحده.

2013

مع الربع الأول من 2013، كانت "جبهة الإنقاذ الوطني" قد تشكّلت بالكامل وأوجدت لنفسها مكاناً يحاول بقدر ما أن يمثّل جناحاً سياسيّاً للتحركات الميدانية الضاغطة على الرئيس، وبدأت معها حملات الإخوان الإعلامية المعادية لها والتي وصفتها بـ"جبهة الخراب" وقامت بترويج شائعات حول ممثليها، من محمد البرادعي وحمدين صبّاحي وغيرهم.

في أحيان كثيرة كانت الجبهة مخيّبة لآمال المتظاهرين الذي ملّوا سقوط المزيد من الشهداء والمعتقلين والمصابين، وملّوا تحدي الجماعة وكيدهم وتطاولهم على الشهداء سواء بالقول أو بالفعل، وملّوا فتاوى التكفير لهم وتواطؤ أجهزة الدولة بالكامل مع الجماعة ــ بعكس ادّعاء الجماعة فيما بعد ــ وصمت الجميع بداية من وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم وصولاً إلى من أسمته الجماعة "وزير دفاع بنكهة الثورة"، الفريق أول عبد الفتاح السيسي، الذي كان غامضاً بالنسبة للجميع وقتها. توعّدت الجماعة كُل من يقف ضدها بأن هذا الرجل ولاءه الأول والأخير لهم، وظلّت لأشهُرٍ طويلة تمتدح صَلاته والتزامُه وتقواه، مُهددين الجميع بأنه سيبطش بكُل من يقف أمام مشروعها السياسي في البلاد.

مع احتدام الصراع، بدأت المجموعات الشبابية في محاولة إعادة تنظيم الصفوف وتكوين ترتيبات وتنسيقات بين المجموعات الداعية للتظاهرات والمُنظّمة لها وسائر المجموعات على الأرض، بالإضافة للتنسيق المستمر بين المجموعات الميدانيّة والمجموعات الحقوقيّة التي كانت تعمل بجهد متواصل طوال تلك الفترة وما زالت حتى يومنا هذا.

وبدأت في الظهور مجموعات "البلاك بلوك" (متظاهرين يرتدون الأسود ويخفون وجوههم ويعرفون عادة بأنهم أفراد مستقلون وبلا تنظيم)، وكذلك التنسيقيات الشبابية التي أدارها شباب غير مسيّس دون تسمية أو ظهور إعلامي. وبظهور تلك المجموعات ودعوات التظاهر المتتالية، أصبحت الكتلة الحركية أكثر استعداداً لمواجهة أي عنف سواء من قِبَل الشرطة أو من الجماعات المسلّحة المؤيدة للرئيس. وبالفعل كانت كافة المواجهات منذ ذلك الوقت محسومة لصالح الثوّار بعد أن أصبحت الأمور أكثر تنظيماً، وبمشاركة مجموعات "الألتراس" (مؤيدو فرق كرة القدم، وهم شديدو التنظيم)، وتعلّمت باقي المجموعات من إستراتيجية حماية ميدان التظاهر وتأمين الحراك. عند هذه النقطة، وتحديداً في نيسان/ أبريل 2013، كانت الكفّة الأقوى هي كفّة جموع معارضي الرئيس الذي وضع ظهره للحائط مع كُل مبادرة ألقى بها في الأرض طبقاً لأوامر جماعته.

وعلى حين غرّة ظهرت حركة "تمرّد"، بعد أن كان بدأ العد التنازلي لبقاء الرئيس في قصره بعد أن اكتسبت تلك الجموع خبرة في كيفيّة وصول الحاكم إلى حافّة الجبل تمهيداً لإلقاء نفسه خارج التاريخ.

بدأت "تمرّد" في محاولة توحيد القوى تحت مظلة ومبادرة واحدة تتضمّن جمع توقيعات تطالب الرئيس بإجراء انتخابات رئاسية مبكّرة، أو نزول جموع المواطنين إلى الشوارع يوم 30 حزيران/ يونيو 2013 للمطالبة بإسقاط الرئيس بعد أن خالف وعوده وقسمه وعلّق الدستور ورفض تعديل لجنة الخمسين وأسقط شهداء من صفوف الثورة واعتقل العديد من الشباب وأطلق مؤيديه على معارضيه في اقتتال دموي. لاقت الحملة إقبالاً ممن ملّوا العنف وآثروا السلامة، ولاقت ريبة وشَكاً من آخرين. ولكنها سارت في طريقها إلى أن جاء اليوم المُحدد سلفاً. واجهت السُلطة تلك الدعوات بالسخرية والتسفيه والتكفير والتوعُّد، حتّى خرج هذا وذاك يتوعّدون القلة التي ستخرج إلى الشوارع بالمشانق والمقاصل. وكان من ضمن الداعين لتعليق المشانق لمن سيتظاهر في ذلك اليوم النائب والصحافي مصطفى بكري الذي لا يدّخر جهداً اليوم في وصف أي معارض بأنه "إخواني"، ويدعو نفسه أحد قيادات "30 يونيو".. التي طالب بإعدام متظاهريها.

ومع امتلاء كافة شوارع البلاد وميادينها بالمتظاهرين في مشهد خيالي، ظهر بيان الجيش الأول والذي يمهل الجميع 48 ساعة للوصول إلى تسوية،. وبمجرد النطق بالمهلة، بدأت "الجماعات المسلحة" (وكانت بقيادة محمد الظواهري وعاصم عبد الماجد، منطلقين من اعتصام "نهضة مصر" بمحافظة الجيزة. كان ذلك تحالفاً بين الجماعة الإسلامية وجماعة الإخوان، ومؤيداً للسيسي) في اقتحام مناطق مثل "المنيل" و"بين السرايات" و"سيدي جابر"، وإطلاق النار على السكان والمارّة مما أدى لمذابح دموية.. وهي أيضاً تلك المهلة التي انتهت بالبيان الشهير الذي عُزل بموجبه مُرسي عن الحُكم، وبدأ فصل جديد في حياة الوطن بكافّة جوانبه، لم يكتمل بعد.

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

رياضة "قلب السترة": نموذج من مصر

مايكل عادل 2016-08-31

مالت الوجوه ألف مرّة ومرّة خلال سنوات قليلة، منذ قيام ثورة "يناير 2011". استدار البعض موجّهاً ظهره نحو أفكار تبنّاها منذ عقود، كما تخلّى الكثيرون عمّا اعتنقوا، ثم عادوا ثم...

دوائر "مالِك عدلي".. وأطفال الحديقة

مايكل عادل 2016-07-19

تستعدّ أسماء لإخباره بأن القضية قد حُكم فيها لصالح مصر، لصالح بطلان اتفاقية تسليم الجزر للمملكة، والوصول عبر الأدلة والوثائق إلى مصرية الأرض كما قال هو من قبل، ونال عقابه...