قصتي مع تجديد جواز السفر اللبناني

خشيتُ أن تنتهي صلاحية جوازي مع اضطراري بالتوازي لتجديد إقامتي في إحدى بلدان العالم التي هججت إليها في مَن هجّوا، وقد كانت أقرب المواعيد المتاحة عندما حاولتُ حجز موعد، في أحد أيام آذار/مارس 2024، أي بعد نحو عام ونصف من التاريخ الذي حاولتُ فيه إيجاد موعد. ما يلي أخبار تبدو كأنها طالعة من طرائف ونوادر جحا.
2023-03-23

لبنى عوض

مهندسة مدنية/ من لبنان


شارك
جواز السفر اللبناني - صورة من الانترنت

"اعتباراً من 2023/03/06 تُلغى كافة المواعيد الممنوحة سابقاً على المنصة لدى المراكز الإقليمية ودائرة العلاقات العامة. ويمكن للمواطنين اعتباراً من التاريخ المذكور أعلاه التوجه مباشرةً إلى المراكز الاقليمية للتقدم بطلب جواز سفر دون الحاجة لموعد مسبق".

عظيم، خبرٌ سار بالنسبة لمواطنة مثلي كانت قد حاولتْ مراراً وتكراراً حجز موعد لتجديد جواز السفر على امتداد العام السابق دون توفيق. خشيتُ أن تنتهي صلاحية جوازي مع اضطراري بالتوازي لتجديد إقامتي في إحدى بلدان العالم التي هججت إليها في من هجّوا، وقد كانت أقرب المواعيد المتاحة عندما حاولتُ حجز موعد في أحد أيام آذار/مارس 2024، أي بعد نحو عام ونصف من التاريخ الذي حاولت فيه إيجاد موعد، وطبعاً بعد شهور على انتهاء صلاحية جوازي. قيل لي حينها إن عليّ حجز ذلك الموعد أيا كان ثمّ تقديم ما يٌسمّى ب"طلب استرحام" للجهات المعنية، أشرح فيه ضرورة تقريب موعدي بداعي السفر والإقامة، أو التوسط لدى أحد النافذين المعروفين لعموم الناس بغية تسهيل الأمر، فإن مع العسرِ والواسِطة طبعاً، يُسراً، وندعو الله ألّا يحيجنا أو يحيجكم لواسطة متنفذ أو "كبير". قبلها أيضاً قالوا لنا أن الدفاتر التي يُطبع عليها الباسبور غير متوفرة، فلبنان دولة مفلسة وإن لم يحبّ استخدام تلك الكلمة الدميمة، فلم يكن من الممكن إلا لعدد يسير من الناس الحصول على جوازات بيومترية جديدة، ثمّ قيل لنا أنّ الدولة تتوسط لدى دول ومطارات العالم لقبول جوازات لبنانية غير بيومترية استثنائياً، أي التحايل على هذه التكنولوجيا السارية والمفعّلة عالمياً من أجل عيون دولتنا الفاشلة، وزيادة حياة مواطني الدولة الفاشلة صعوبة بالتأكيد. هيَ أخبار تبدو كأنها طالعة من طرائف ونوادر جحا، لا عن دولةٍ ذات مؤسسات وإدارات وعساكر، ولا أعرف كيف سترَ الله فتفادينا مفاعيلها مؤقتاً.

إذن، فالخبر سعيد مبدأياً. نستطيع منذ هذا الشهر المبارك التقدم مباشرة إلى مراكز الأمن العام اللبناني بطلب تجديد جواز سفر. على الموقع الإلكتروني بعضُ المعلومات عن المستندات المطلوبة، تنقصها بعض التفاصيل حول ضرورة تصوير كل الأوراق الأصلية بالإضافة إلى أوراق المال التي ستُدفع لإتمام المعاملة. بعد الاتصال مرتين بالأمن العام للحصول على المزيد من المعلومات، جائتنا الإجابات مختصرة: علينا أن نحضر إلى المركز الفلاني الذي يفتح أبوابه الساعة الثامنة صباحاً مع الأوراق.

تتوارد أخبار حول زحمة شديدة عند المراكز في بيروت وضواحيها خاصة، فأذهب رفقة زوجي باكراً قبل فتح مركز الأمن العام لأبوابه بقليل. يضحك علينا المصطفّون بالمئات. "الآن؟ تأخرتم كثيراً. لن تحصلوا على رقم".. "كيف؟ لقد أتينا قبل افتتاح المركز أبوابه حتى"... "هههه. أنتما متفائلان جداً، عليكما بالقدوم بعد صلاة الفجر مباشرة، عند الخامسة صباحاً".. "لا، عند الرابعة!"، يردّ آخر، فيما يصرخ لنا أحد الرجال الذي في آخر الصف، وسط زنقته بين عشرات يزاحمونه على الدور، "تعالا عند الثانية صباحاً وانتظرا وإلا لن تحصلاً على الجواز!" الزحمة تنبئ فعلاً باستحالة فعل أي شيءٍ اليوم سوى العودة متقهقرين والتخطيط ليوم غد.

"يبالغون بالتأكيد"، أقول لزوجي. "الله يعينهم على الانتظار"، يقول. "طيب، أي ساعة نأتي في الغد؟" نمضي النهار كله نتفاوض حول الساعة الأنسب، فنحن لم نعد نملك رفاهية تأجيل يوم آخر، إذ يقترب موعد السفر. نقرر أننا لن نتأخر عن الرابعة فجراً.

الرابعة إلا عشرة فجراً

نصل إلى المركز والدنيا عتمة. لم يطلع خيط الشمس الأول بعد. تترائى لي بعض الرؤوس فأخاف أن نكون قد "تأخرنا" بالفعل! نقترب فنجد ما يقارب 30 شخصاً واقفين في البرد. يصبّح بعضنا على بعض. هنا يقف الرجال وهناك تقف النساء. لن أستطيع إذاً تزجية الوقت مع زوجي حتى يحين موعد افتتاح المركز. لا بأس، نقتسم "زوّادة الرحلة" التي حضّرتها استعداداً لهذا اليوم الطويل. سنبقى على اتصال عبر رسائل واتساب لنرى أين صرنا.

تتوارد أخبار حول زحمة شديدة عند المراكز في بيروت وضواحيها خاصة، فأذهب رفقة زوجي باكراً قبل فتح مركز الأمن العام لأبوابه بقليل. يضحك علينا المصطفّون بالمئات. "الآن؟ تأخرتم كثيراً. لن تحصلوا على رقم".. "كيف؟ لقد أتينا قبل افتتاح المركز أبوابه حتى"... "هههه. أنتما متفائلان جداً، عليكما بالقدوم بعد صلاة الفجر مباشرة، عند الخامسة صباحاً".. "لا، عند الرابعة!"، يردّ آخر.

المرأة التي قرب الفتاة مسنّة تعاني أمراضاً متعددة، وتمضي وقتها في تبديل القعود على الأرض بالوقوف مستندة إلى الحاجز والعكس، فكلّما تعبت من وضعها بدّلت، وكلّما حضرت امرأة جديدة إلى صفّنا توجّست منها خيفة وتأفّفت وتشبّثت بمكانها أكثر. ففي الانتظار، كما يقول محمود دوريش، يصيبها هوس برصد الاحتمالات الكثيرة. 

ثمة امرأتان فقط وصلتا قبلي إلى المركز، أمّا عدد الرجال فأكبر، فالوقوف في العراء في منتصف الليل وساعات الفجر الأولى لن يكون أكثر الأمور أماناً ويسراً لامرأة. نقف في المسافة الضيقة التي تحددها حواجز حديدية ذات قضبان تَصنع باصطفافها ممراً ضيّقاً لا يمكن لأكثر من شخصين الوقوف فيه جنباً إلى جنب، والأمر نفسه عند الرجال. يقترب ثلاثة شبان من قسم النساء، أحدهم "عامل حسابه"، يضع على كتفيه بطانية طويلة، وآخر يتوجه إلينا قائلاً أنه صار يعرف كيف تسير الأمور عندما تشتدّ الزحمة، لذا علينا أن ننظم أنفسنا. الشباب يكتبون على ورقة اسم كل وافد جديد بالدور، هكذا نبقى بالصف كلّ حسب رقمه، حتى يسهُل دخولنا عندما تفتح الأبواب. أتبرع أنا بورقة من دفتري الذي أحمله في الشنطة وتتبرع امرأة بقلم حبر ونسجّل أرقامنا وأسماءنا قربها: 1-2-3-..

هنا نمتلك ما يكفي من الوقت للتعرف إلى بعضنا البعض وتكوين تصوّر عن السبب الذي قدم من أجله كلّ منا. هناك الصبية العشرينية التي أمامي، وقد حضر معها والدها، يقف خارج الفاصل الحديدي في مكان قريب ويحدّثها كي لا يتركها وحيدة في هذين الوقت والمكان الموحشَين.

 هي طالبة جامعية تخرّجت للتو وتحاول إيجاد عمل في بلد آخر. تقول أنها ستسافر عند أقاربها في الخليج بفيزا سياحية تستغلّها للبحث عن عمل. وبين الفينة والأخرى تطلب الفتاة من والدها أن يذهب إلى البيت. "خلص بابا، لا داعي لتنتظر كل الليل، أنا على ما يرام"، تقول له فيما يزداد عدد النساء حولنا مع مرور الوقت. أما المرأة التي قرب الفتاة فمسنّة تعاني أمراضاً متعددة، وتمضي وقتها في تبديل القعود على الأرض بالوقوف مستندة إلى الحاجز والعكس، فكلّما تعبت من وضعها بدّلت، وكلّما حضرت امرأة جديدة إلى صفّنا توجّست منها خيفة وتأفّفت وتشبّثت بمكانها أكثر. ففي الانتظار، كما يقول محمود دوريش، يصيبها هوس برصد الاحتمالات الكثيرة، فتخاف من مزاحمة أيّ وافد لها وخسارتها مكسبها العظيم وامتيازها الأكبر، كونها "الرقم واحد" في صف النساء. أما تلك التي وصلت بعدي بدقائق، أي نحو الرابعة صباحاً أيضاً، امرأة أربعينية فيليبينية حاملة لجواز السفر اللبناني، قدمت رفقة زوجها اللبناني لتجديد جوازها.

 باشرت النساء الواقفات المرأة فور وصولها بالمزاح "وشو كان بدك فيه لهالباسبور؟ باسبورك الفيليبيني أفضل بالتأكيد!" هذا ما أكدته المرأة فعلاً وكرره زوجها بحماس "أكيد، ما في مقارنة! ودولتهم لا تتركهم أبداً. في فترة وباء كورونا كانوا دائماً ما يتصلون من السفارة للاطمئنان على مواطنيهم وأرسلوا مبالغ دعم مادي شهرية، أما نحن..." تتلوّى رؤوس المستمِعات يمنة ويسرة تحسراً على حالنا، "نحنَ مين سائل عنّا؟"...

بعد بعض الوقت، تطلب المرأة الفيليبينية-اللبنانية من زوجها العودة إلى البيت وتحمّله لائحة توصيات للاهتمام بالأولاد وطعامهم الذي سيأخذونه إلى المدرسة وألّا ينسى أن يذهب لتوصيلهم بعد المدرسة إلى البيت أيضاً بحال تأخرت هي إلى ما بعد الظهر في الانتظار أمام الأمن العام، وكلّما أطال زوجها البقاء، ازداد توتّرها من أن يستيقظ الأولاد وألحّت عليه أن يرحل.

ثمّ أطلّت امرأة أخرى لتنضمّ إلينا. سجّلت اسمها على الورقة وأسندت ظهرها إلى القضبان المعدنية التي تفصلنا عن الشارع. سألتها إن كانت على ما يرام، فطلبت منّي أن أكرر قولي لأنها تعاني من ضعفٍ في السمع. وقد بدت مخطوفة اللون، ما إن التقطت أنفاسها حتّى شرحت لي أنها هنا منذ الثانية عشرة من منتصف الليل، فقد خافت أن يفوتها الدور مجدداً. معظم الواقفين "كالشاطرين" مثلي هنا منذ ساعات الفجر الأولى قدموا مرةّ على الأقل من قبل ليفشلوا في الدخول إلى المبنى المحرّم، فقررنا ألّا نخاطر مجدداً ونحضر قبل أن تفيق الكائنات، وقبل أن يقرر الله أن اليوم قد بدأ. تشجّع الفتاة نفسها قربي "يلّلا، الثالثة ثابتة"، لكنها تبدو منهارة ولمّا تصير الساعة السادسة صباحاً بعد، فقد أمطرت السماء عليها في الليل ولم يكن في صفوف الانتظار سوى الرجال، فاختبأت وحيدة في ركن بعيد.

السادسة فجراً

في هذه الساعات من الفجر، تكون الدنيا كأنها غير دنيا. يختلف منطق الزمن وصورة الشارع وهيئة البنايات، تختلف وجوهنا إذ ما زال يسكنها همّ اليوم السابق ويتجمّع النوم المسلوب تحت الجفون ويتراكم في أجسامنا تعب الأمس واليوم معاً. ثمّة حياة خفيفة بدأت تُبعث على الطريق العام، سيارةٌ من هنا، مارّ من هناك، وباص صغير يتوقّف أمامنا لينزل منه 3 أو 4 أشخاص سينضمون إلى المنتظرين. يفتح المقهى الذي على الجهة المقابلة من الشارع أبوابه. لا بدّ أنه فتح خصيصاً لجموع المنتظرين. ينسلّ فوراً عدد من الرجال من الصف لشراء القهوة أو لاستخدام الحمام في المقهى أو لتصوير مستندات اكتشفوا للتو أنّ عليهم نسخها وضمّها إلى الطلب. يأتي لي زوجي بفنجان قهوة لأسند به أعصابي، أقول له أنه منذ أن صارت الساعة السادسة أشعر بالوقت لا يمضي. يقول أنه يشعر به لا يمضي منذ الرابعة، ثم يعود إلى صف الرجال...

يبدو الشبان الثلاثة بلغتهم والوشوم التي تغطي أيديهم وتوثبهم الدائم لإيجاد حلول فورية، أنهم يعرفون الشارع وأهله والحياة وشظف عيشها. قد تراهم يوماً متكوّمين عند زاوية الحي فيخطر لك أنهم "زعران" متسكعين، لكنهم هنا لأنهم ملّوا التسكع، لأنهم لم يختاروا أن يكونوا "زعراناً"، وهم هنا أكثرنا امتلاكاً لأدوات الحل والفطنة التلقائية في هذا الموقف العجيب الذي وجدنا أنفسنا فيه. 

يبدأ المطر بالهطول ناعماً ثمّ يشتد. من تملك منّا مظلّة تدعو اثنين أو ثلاثة إلى خيمتها. نلتمّ أجساماً متعبة إلى أجسام متوتّرة إلى أجسام سئمة. أجساماً يانعة إلى أجسام كهلة إلى أجسام مسنة. ينتظر كل منّا فرَجاً قريباً، بوابة تفتح أو وجهاً يطلّ علينا معلناً بدء العمل. ننتظر أن ننفجر شتاتاً في أطراف الدنيا، بعيداً من هنا، وكلّ ذلك معلّق بدفتر كحلي صغير نطلبه من هذا المبنى الموحش الكبير.

"قومي يا حجّة واقعدي على هذه الطرّاحة"، يطلع صوت أحد الشباب وقد وجد مقعد كنبة قديم في مكان ما وأتى به إلى المرأة المسنة. صديقه يعطيها البطانية التي كان يلفّ بها نفسه.

 ترفض المرأة كل اقتراحاتهم مع الشكر. يقاطع أحد الشبان الفتاة التي تمضي الوقت بتصفح الانترنت على هاتفها، "لو سمحتِ هل من الممكن أن أستخدم غوغل على هاتفك؟"، فتفتح له صفحة غوغل وتناوله الهاتف ليبحث عما يريد، فيردّ "أنا ما بقرا وما بكتب، اكتبي لي إذا بتريدي، موقع الأمن العام، أريد أن أتأكد من إذا كانوا سيسهلون مواعيد الشهر القادم"، تبدو الفتاة متفاجئة بأن الشاب لا يعرف القراءة. أقول له أنني تأكدت من الموقع غير مرة بين الأمس واليوم ولا جديد. يقول "خلينا ناطرين إذاً، أنا سأقدم طلباً للعمرة في السعودية لإيجاد عمل هناك"... لم أعد أعرف إن كان الشبان الثلاثة الذين يهتمون بتسجيل الأسماء وتنظيم الصفوف والاطمئنان على حال المسنة أصدقاء بالأساس أم أنهم صاروا رفاقاً بحكم الانتظار الطويل. يبدو الشبان الثلاثة بلغتهم والوشوم التي تغطي أيديهم وتوثبهم الدائم لإيجاد حلول فورية أنهم يعرفون الشارع وأهله والحياة وشظف عيشها. قد تراهم يوماً متكوّمين عند زاوية الحي فيخطر لك أنهم "زعران" لأنهم يمضون الكثير من الوقت متسكعين، لكنهم هنا لأنهم ملّوا التسكع، لأنهم لم يختاروا أن يكونوا "زعرانا"، وهم هنا أكثرنا امتلاكاً لأدوات الحل والفطنة التلقائية في هذا الموقف العجيب الذي وجدنا أنفسنا فيه هذا الصباح...

الوقت لا يمر.

صرنا مئة أو أكثر وقد جهجه الضوء. المطر يتقطّع. يجلدنا حيناً ويرحمنا حيناً. صرنا نحسّ بالأوكسيجين يتناقص في المساحة الضيقة التي بيننا نحن المحشورين بين الحائط والفاصل الحديدي الذي يشبه السجن أو الحظيرة. يشعر الواحد بالإحراج والغضب لهدر كرامته، يشعر أنه في مسلخ لا في إدارة رسمية، وما باليد حيلة.

السابعة صباحاً.

ثمة حركة من داخل مركز الأمن العام. لعلّه الفرَج؟ نلتفت برؤوسنا. "لن يفتح الباب حتى الثامنة تماماً، لا تأملوا شيئاً"... لكنّ عسكرياً شاباً يخرج بعد دقائق، يمشي خلفه عسكري آخر بثياب مدنية. تنفرج أسارير الجميع، سنفهم منه متى يبدأ العمل وكم شخصاً سيُسمَح له بالمباشرة بتجديد جواز السفر. يلقي نظرة عامة على جمهرة الرجال والنساء ويقترب من صفنا.

كل الأرقام والأسماء لا يعود لها معنى هنا، وهذا بالطبع مقصود. فهنا تبدأ "الواسطة". تمر قبلي امرأة لم تكن تنتظر معنا في الأسفل، لكنها استيقظت منذ قليل، وتسنى لها الوقت لشرب النيسكافيه والحصول على فطور، وقد أتت دون أن تحضر نسخاً مطلوبة من أوراقها، فطمأنها العنصر أنه "لا مشكلة، سنتدبر الأمر".

هل نجرؤ على فعل ما قد يؤدي بنا إلى الهلاك كما أودى بشاب اعترض فمُزّقت أوراقه وقيل له أنه ممنوع من عمل جواز سفره في هذا المركز؟ وهل نستطيع ذلك بعد أن رأينا مشاجرات انفجرت في صفوف الناس بعد أن تدخّل عناصر الأمن، بسبب أحقية الدور والرقم ؟ يا للمهانة وقلّة الحيلة ويا لشناعة التطبيع معهما ويا لبشاعة تهذيبنا أمام فجور اعتباطياتهم. 

واو، أقول في نفسي، مندهشة من قدرته على تفادي النظر في وجوه أيّ منا. لا "صباح الخير" ولا "مرحبا" ولا "يعطيكن العافية". يباشرنا فقط ب"وين ورقة الأسامي؟" تعطيه امرأة الورقة وقد صار مكتوباً فيها ما يزيد عن 70 اسماً، ثمّ دار بيننا وبينه الحوار القصير التالي:

- هي ورقة الأسامي؟
- نعم
- مسجّلينهم بالدور حسب الوصول؟
- نعم
- هل أنتنّ موافقات على هذا الدور؟
- موافقات
- وكل واحدة تعرف رقمها وحافظة مين قبلها؟
- نعم
- عظيم، إذاً.

يمزّق العسكري الشاب الورقة ويرميها أرضاً كأنّه يتشفّى بنا، وبكلّ سهولة. مزّقها كأنه يرقص الباليه مثلاً لكثرة ما كانت حركته انسيابية، خاصة وأنها أتت بعد حوار يحمل معاني التطمين، وكأنه يسهّل لنا أمورنا ويتعاون معنا لإنجاز معاملاتنا في هذا اليوم الشاق. يمزّقها.. هكذا بتعالي من يريد تلقين الآخر درساً لن ينساه. يمزّقها بلذّة كبيرة. تطلع شهقة مستنكِرة من إحدى النساء، "لااه! لماذا فعلت ذلك؟!" يردّ العسكري غاضباً "أنا لا أقيم اعتباراً لهذه الورقة نهائياً. هذا أمر غير قانوني وأنا فقط من يسجّل الأسامي والأرقام. يللا، قفوا لننظّمكم". أتذكر بيني وبين نفسي مقولة "أنا الدولة ولاااك!". حضرة العسكري يعتبر أننا لا نعرف تنظيم أنفسنا لأننا سجلنا أسماءنا حسب الوصول، كل واحدة تصل تأخذ رقماً، دون مزاحمة ودون جدال ودون اقتتال.

 والآن هو يربّينا، يعلّمنا معنى أن تكون الدولة "حاضرة". الله! ما هذه الهيبة كلها! الله الله! وعلى قول المشجّعين: "إيه هالعظمة دي كلّها؟ آه يا دولة، يا أبّهة!" يعيد العسكري الذي لا أعرف رتبته خلط الأوراق، ويريد منّا مشهداً مسرحياً جميلاً: أن نمدّ أيدينا ببطاقات هويّاتنا للعسكري المساعد له ونصرخ بأسمائنا حتّى نُسمَع، إذ صرنا كثراً والمساحة التي نقف فيها لا تسمح لنا برؤية الرجل الذي يسجل الأسماء من جديد بشكل واضح أصلاً، ولا مجال له للدخول بيننا وأخذ الأسماء. لكن هذا هو الهدف أصلاً، فهو يريد هذا المشهد اللذيذ بالذات. أن نحتاجه، أن نطلع فوق بعضنا البعض وأن يستشرس بعضنا على بعض لضمان الحصول على رقم بعد طول انتظار! لقد هدد مكان الجميع وبالتالي قلّب المنتظرين بعضهم على بعض، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، أعادنا إلى حظيرة الدولة، صاحبة الشرعية بورقة فارغة وقلم "بيك"، وجعلنا مذعورين خائفين من ضياع الفرصة، جعلنا مواطنين كما ينبغي للمواطنين أن يكونوا. شكراً، شكراً، أيها الشاب الحليوة الذي لم يعد معاشك يكفي لسداد نصف فاتورة كهرباء، كمعظم الناس الواقفين هنا، لكنّك تختار صفعهم في الوجه.

شعرت بالدم يتصاعد إلى رأسي وبالدنيا تدور من حولي. بمحض الحظ، ولأنني قريبة من أول الصف، تمكنت من تسجيل اسمي بنفس الرقم، ثم سارعت إلى إرسال رسالة نصية إلى زوجي المنتظر في المقلب الآخر، كأننا على ضفّتي جبهة قتال ننتظر فجوة في جدار القلعة لنخترقها. "سيأتي الآن إليكم ليمزق ورقة الأسماء، لا تتحرك من مكانك!" لكن زوجي لم يكن محظوظاً بما يكفي، فقد اشتد التزاحم حيث يقف ومرّ ما يزيد عن 15 اسماً إضافياً أمامه.

حسناً، رضينا بقضاء الدولة وقدرها، لكن المطر عاد يهطل. صرخت للعسكري، صاحب الحركة البهلوانية بتمزيق الأوراق، أسأله: "هل من أمل بدخولنا قريباً إلى مكانٍ مسقوف، فالدنيا مطر وريح؟" ليجيبني "لننظمكم بالأوّل!". ماذا؟ ألم نكن منظمين فخربتم ترتيباتنا؟ أوكي. أنتظر عسكرياً آخر وأحاول جاهدة قراءة ملامحه. قد يكون ألطف من الأوّل؟ "عفواً، يعطيك العافية! هل من أمل بدخولنا إلى تحت هذا السقف؟ هناك نساء عجائز وناس أحضروا أطفالهم الصغار للباسبور"، ليأتيني جواب الثاني بعصبية، وأيضاً من دون تكلّف النظر في وجهي: "إنتِ تاني مرّة بتسألي هالسؤال!"... "صحيح، هذا لأنني لم أحصل على جواب في المرة الأولى!"،

طيب، نصبر بعد.

تتردد في رأسي أغنية مارسيل خليفة "كل قلوب الناس جنسيتي، فليسقطوا عني جواز السفر". أضحك لوحدي.

إنها الثامنة صباحاً.

لا بدّ أن قارئ هذه السطور نفسه قد غلبه التعب والقرف. يُدخِلوننا 10 بـ10 من جهتي الرجال والنساء. وباختصار، ففي الداخل ثلاث مراحل للانتظار. ينادون على أسمائنا في أول وثاني غرفة للانتظار، ثم في الثالثة والأخيرة، تختفي لائحة الأسماء ونصير ننتظر فراغ كرسي كي ننقض عليه عشوائياً. لا يوجد سوى غرفة واحدة لإتمام معاملات الباسبور، بها 6 محطات لاستلام الأوراق وأخذ البصمات إلكترونياً، 2 منها فقط تشتغلان – لكلّ هؤلاء البشر، وببطء – ثمّ يشغّل عسكري ثالث المحطة الثالثة وتبقى نصف الماكينات خالية ممن يشغّلها.

أفكر بما تعلّمه ابن الدولة في مؤسساتها، بما بقي له من معاشه ومن كرامته هو الآخر، وباختياره أن يكون مسماراً آخر في آلة مهترئة صدئة من القلب والأطراف، في الجوهر والهيئة. أفكر بهذا مثالاً صغيراً عن اعتلالنا الشامل، بهذه التجربة وهي سهلة أمام سواها من تجارب التحصّل على الدواء والاستشفاء إلى وضع الكهرباء والمياه والمدارس، إلى طوابير البنزين والخبز...

كل الأرقام والأسماء لا يعود لها معنى هنا، وهذا بالطبع مقصود، فهنا تبدأ "الواسطة" بالظهور بأشكال مختلفة، وهي بحاجة لحد أدنى من التستّر، وإن كانت عمليّاً تتم "عالمفضوح" وبراحة كبيرة. وتمر قبلي امرأة لم تكن تنتظر معنا في الأسفل، لكنها استيقظت منذ قليل، وتسنى لها الوقت لشرب النيسكافيه والحصول على فطور ربما، قبل أن تأتي رفقة ابنها الشاب وحفيدها الطفل (مع أن عناصر الأمن في الخارج يمنعون منعاً باتاً دخول أي شخص سوى صاحب العلاقة إلى المبنى – لكن سبحان الله، ثمّة استثناء لا يُفهم هنا وهناك). الطفل يلهو بماكينات الدولة للتبصيم، ويكبّس على شاشة أخذ البصمات كما يحلو له، ويتسلّى بهيبة الدولة، والعنصر خلف الماكينة يقول له "بس يا عمّو، اجلس قرب التاتا". أمّا السيدة، فقد أتت دون أن تحضر نسخاً مطلوبة من أوراقها، فطمأنها العنصر أنه "لا مشكلة، سنتدبر الأمر" ـ مع أنه منذ قليل قال لآخر أن إتمام معاملته "مستحيل" لنقص كهذاَ! فعلاً، سبحان الله.

أصلاً، هل لنا سوى التسبيح والابتهال لإشغال ألسنتنا حتى لا تنفلت فتشتم وتسب؟ سبحااااااان الله.

وهل نجرؤ أصلاً على فعل ما قد يؤدي بنا إلى الهلاك كما أودى بشاب أخبرونا أنه بالأمس اعترض فمُزّقت أوراقه وقيل له أنه ممنوع من عمل جواز سفره في هذا المركز؟ وهل نستطيع ذلك بعد أن رأينا مشاجرات انفجرت في صفوف الناس أنفسهم بسبب أحقية الدور والرقم بعد أن تدخّل عناصر الأمن؟ يا للمهانة وقلّة الحيلة ويا لشناعة التطبيع معهما ويا لبشاعة تهذيبنا أمام فجور اعتباطياتهم ولا-أخلاقهم.

الدوار الذي أشعر به قبيل إتمامي لتقديم الطلب عضوي وحقيقي وليس مجرد اضطراب. أدخل مكتب الرائد مدير المركز ليوقع ورقتي فيما يتحدث على الهاتف. لا ينظر إلى الورقة ولا إليّ كأنما حرام في هذا المكان النظر في وجوه البشر. أخرج من هذا المكان اللعين بعد أكثر من 5 ساعات من حضوري إليه. في الباحة أمام المبنى نتبادل عبارات "الحمدلله عالسلامة!" أمّا زوجي المسكين، فقد كان شاهداً على كل أنواع الواسطات تمر أمام ناظريه، وقليل الحظّ، لم يخرج إلا بعد 9 ساعات من الانتظار، متأخراً على عمله كعشرات المواطنين ذلك اليوم..

أفكر الآن بأولئك الشبان الذين أداروا وضعاً غير سوي بما استطاعوا، بنا نحن الذين تعلمنا كيف نسيّر الأمر مباشرة ووافقنا جماعياً على الترتيبات التي رأيناها مناسبة وتحفظ كرامتنا بالحد الأدنى. أفكر بما تعلّمه ابن الدولة في مؤسساتها، بما بقي له من معاشه ومن كرامته هو الآخر، وباختياره أن يكون مسماراً آخر في آلة مهترئة صدئة من القلب والأطراف، في الجوهر والهئية.

 أفكر بهذا مثالاً صغيراً وبسيطاً جداً عن اعتلالنا الشامل وعن كيف نمرض ونموت نفسياً وجسدياً من أمور صغيرة وكبيرة تتراكم فينا كهذه التجربة - وهي سهلة أمام سواها من تجارب التحصّل على الدواء والاستشفاء إلى وضع الكهرباء والمياه والمدارس، إلى طوابير البنزين والخبز على مراحل، إلى عشرات الآلاف من التجارب المريرة في المصارف على امتداد العامين الماضيين... أفكر بكل أولئك الذين أرادوا السفر، الهجّ الكبير.. أفكر بما يتراكم في النفوس، وبانفجاره.   

مقالات من لبنان

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...