رمضان في الصحراء حر وغلاء

ينام الرجال تحت قِرَب الماء، تنعشهم قطرات الماء التي تتساقط على رؤوسهم تباعاً، محدثة طنيناً. يبلل الرجال عمائمهم ويتعمّمونها اتقاء حر هجير رمضان القائظ، وتبلل النساء رداءهن الصحراوي - الملحفة - هنا في جنوب شرق المغرب.
2016-06-29

صالح بن الهوري

صحافي من المغرب


شارك
من دفتر:
رمضان 2016
عمر كمال الدين الطيب - السودان

ينام الرجال تحت قِرَب الماء، تنعشهم قطرات الماء التي تتساقط على رؤوسهم تباعاً، محدثة طنيناً. يبلل الرجال عمائمهم ويتعمّمونها اتقاء حر هجير رمضان القائظ، وتبلل النساء رداءهن الصحراوي - الملحفة - هنا في جنوب شرق المغرب.

 يقضي صغار المزارعين النهار في الواحة الوارفة الظّلال، الدائمة الخضرة العذبة المياه، ويقضي  الشباب يومهم في السباحة في البركة المائية التي تجمع مياه العين القادمة من المنبع، "أمات الماء"، (أمهات الماء) عبر سلسلة آبار تربطها قنوات تحت أرضية تسمى خطّارات. وهي نظام سقي يحفظ الماء من التبخر. و"الخطّارات" تراث إنساني واحي يمتد لقرون.

 قبل طلوع الشمس، تتوجه نساء الصحراء لرعي بهائمهن وسقي الماء على حمورهن الأهلية، وتقصد نساء الواحة الحقول لجلب البرسيم و"الفصة" للبقر والماعز، يقفلن راجعات ضحى النهار قبيل اشتداد القيظ، يقلن طول الظهر. وفي العصر تقصد نساء الواحة العين لجلب الماء على ظهورهن لأنّ منازلهن غير مرتبطة بشبكة الماء الصالح للشرب.

 تعد نساء الصحراء وجبة الفطور قبل غروب الشمس المؤلفة من أكلة شعبية صحراوية حسانية قحّة تدعى "بلغمان"، والحساء الأحمر ولبن النوق والشياه. يفطر الأهالي على الرطب من التمور الناضجة للتو من نوع "الفكوس والجيهل والبوسكري" ويشربون ماء القربة البارد المنعش.

 هكذا عانى سكان الريف والصحراء حتى ثمانينات القرن الماضي من جو القيظ والحر الشديدين، حين يصادفان شهر رمضان. يمرّ الشهر على الرّحل وساكني الريف في المغرب العميق صعباً بسبب قساوة المناخ البارد شتاءً والحار صيفاً، إذ تصل درجة الحرارة إلى أكثر من 48 درجة حرارية في فصل الصيف وأقل من 10 درجات حرارية في الشتاء.

 كانت مقاومة الأهالي ضعيفة للحر بسبب عدم كهربة القرى، لم تكن المكيفات الهوائية ولا الثلاجات متوفرة آنذاك. فاعتمد الأهالي على وسائل تقليدية.

حظر التجوال

قبيل دخول رمضان تزور العائلات بعضها بعضا، تبارك مقدم الشهر الفضيل، وتطلب العفو والمغفرة لأنّ الزيارة ستنقطع خلال شهر الصوم، وخاصة إن صادف رمضان موسم الحر الشديد مثل هذا العام.
هنا الشارع الرئيسي بعمالة في محافظة طاطا، الإقليم التاريخي الشاسع الواقع إلى الحدود المغربية الجزائرية، الحر شديد خلال رمضان، تهب رياح الشركي القادمة من الصحراء بسرعة جنونية تلفح وجوه من يوجد في الشارع الرئيسي للمدينة.

 شوارع المدينة خالية من المارة، كأنها مدينة أشباح، المحلات التجارية مقفلة، يُرى في بعض الأزقّة عدد قليل من المارة مقارنة بالأيّام العادية، يغط بعض الرجال في نوم عميق في الحدائق العمومية الخضراء التي أحياها المحافظ ما قبل السابق بعد موتها، ويتمدّد آخرون في حدائق صلعاء لم تجد من يعيد إليها الحياة، ويلعب آخرون الورق في السوق في انتظار أذان المغرب، على قارعة الطريق تفترش نسوة الأرض في انتظار قدوم سيارة للنّقل المزدوج تقلهن إلى قراهن البعيدة بعد أن تسوقن.

 القيظ الشديد يرغم الأهالي على ملازمة بيوتهم، وترغم الأغراض الإدارية والتجارية الناس على الخروج لقضائها بسرعة والعودة إلى البيوت مباشرة.

 تعاني القطط المشرّدة الأمرّين بسبب عدم فتح المطاعم لأبوابها خلال رمضان، حيث  كانت تقتات على ما يمنحه لها الزبائن من طعام، وما يجود به عليها أرباب المطاعم والمحلّات من فضلات. أضحت هزيلة بسبب الجوع الشديد، يمزق مواؤها القلب، يجود عليها بعض المتعاطفين بقطع الجبن وبعلب السردين أحيانا وبالحليب أحيانا أخرى.

 في قرى الصحراء يلعب الرجال الشطرنج الصحراوي الذي يرسمونه على الرمل لتزجية الوقت، وتتجمع نسوة صحراويات للعب لعبة شعبية تدعى "السيك"، من الظهر وحتى العصر.

واقع الإدارة

يلزم الحر الشديد  القائد الإداري رئيس المقاطعة ــ رجل سلطة محلي ــ على المكوث في المنزل الذي يسكنه على حساب الشعب، تتعطل مصالح المواطنين، لأن القائد غير موجود خوفاً من مواجهة مشاكل الأهالي. يسكن ويتنقل على حساب دافعي الضرائب، ويتلقّى دخلا شهريا معتبراً من جيوب النّاس، وعلى الرغم من ذلك يلزم بيته ولا يؤدي عمله.

 يفرض على دافعي الضرائب أوقات معينة لتوقيع الشهادات الإدارية، من حل بالمقاطعة بعد منتصف النهار، لن يوقع القائد له الوثيقة التي يطلبها، وعليه العودة في الغد، ولو جاء من الرباط أو من لحمادة. يحمل إليه الصبي - شاويش - ملفاً يحوي وثائق أنجزها موظفو المقاطعة المتفانون في عملهم إلى بيته ليوقّعها ثم يعيدها إلى المقاطعة.

 يحتجّ الأهالي على تأخير قضاء مصالحهم ويطالبون بتعليلٍ لعدم توقيع وثائقهم في الحال. يأتيهم الجواب: إنّه شهر الصيام والقائد عاجز عن القدوم إلى العمل بسبب الحر الشديد.
يشتد الحر، يفترش الشاويش حصيرا بلاستيكيا وسط فناء المقاطعة، يتمدد ويغفو إلى أن يسمع أذان المغرب.

الغلاء

يجن جنون التجار والمضاربين في رمضان، يحتكرون السلع ومواد التموين الأساسية، ويزيدون في ثمن السلع التي تجلبها الشاحنات من أغادير بعد قطع حوالي ثلاث مئة كيلومتر. يسخط البؤساء لأن متطلبات الشهر الفضيل ألهبت جيوبهم. ينددون ويحمّلون السلطات مسؤولية ارتفاع الأسعار ويطالبون بزجر وردع المضاربين.

 ترتفع أثمان أسعار المواد الأساسية بالريف والصحراء بشكل مضاعف بسبب بعد المراكز الاقتصادية والتجارية والفلاحية . للعزلة كلفتها.

 فماذا تقول الأرقام الرسمية عن جنون الأسعار في رمضان؟

 عرف الشهر تحولا جذريا  في بنية الاستهلاك لدى الأسر المغربية وسجلت المصاريف الإجمالية ارتفاعا، لـ13 في المئة في المتوسط مع اختلافات حسب مستوى عيش الأسر، كما ارتفعت نفقات الأسر على التغذية بالثلث، ومسّت الزيادة مصاريف الأكل بالنسبة لكل الأسر، حسب ما ورد في بيانات إحصائية صادرة عن المندوبية السامية للتخطيط – وهي جهة رسمية.

 يبدو أن جنون الأسعار والقيظ الشديد اتفقا على جعل رمضان صعباً على سكان الريف والصحراء، الأمر الذي لن يفقه كنهه سوى من قضى رمضان في تلك النواحي، أو مرّ من هنا على الأقل!

الحداثة في الريف والصحراء

مطلع التسعينيات من القرن الماضي، جاءت منظمات دولية، حكومية وغير حكومية، إلى الصحراء والريف، أدخلت الحداثة إلى قرى المغرب العميق الهامشية المعزولة عن المراكز الصناعية والفِلاحية، ربطت القرى بالماء والكهرباء، شيدت أندية نسويّة وفتحت رياضا للأطفال بغية خدمة المرأة.

 صار للنساء والفتيات غير المتمدرسات فائض من الوقت للدراسة وتعلّم حرف يدوية مدرّة للدخل لضمان استقلال مالي، خضعن لدورات تكوينية في مجال التدبير الإداري والتسيير المالي لإدارة الجمعيات والتعاونيات الفلاحية والزراعية والصناعة التقليدية، وفي إعداد وبلورة المشاريع ومقاربة النوع.

 مع مرور الوقت سيتحسن الوضع، لن تجلب الكثير من النساء الماء من العين، سيذهب الصغار إلى روضة الأطفال، وستستغل النساء الوقت لمحاربة الأميّة وإتقان مهارات يدويّة، ولن يمرّ رمضان صعبا بعد دخول الحداثة إلى الريف والصحراء بفضل المنظمات الدولية والمجتمع المدني المحلي المناضل، وسيرسل الرجال العاملون بالمدن الداخلية والساحلية لنسائهم وأولادهم حوالات لتغذية أفضل ومكيفات هوائية وثلاجات لمقاومة الحر...

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه

مهربو الصحراء في المغرب العميق

يطالب أبناء المغرب العميق السلطات أن تغادر السياسة التي وضعها الجنرال الفرنسي ليوطي(*) للمغرب بتوزيعه إلى مناطق نافعة وأخرى غير نافعة، وأن تنجز مشاريع تعود بالنفع على الناس وتحميهم من...