"الكتاب الوحيد الذي يستحق الكتابة هو ذلك الذي لا نملك القوة أو الشجاعة لكتابته، الكتاب الذي يؤلمنا (نحن الذين نكتب)، الذي يجعلنا نرتجف، نحمر وننزف".
هيلين سيكسو، لغوية وروائية وشاعرة ومناضلة ونسوية جزائرية/ فرنسية
"تقصم الظهر"، أكثر تعبير كانت تستعمله أمي لتصف حقيبتي منذ الدراسة الابتدائية.. أمي حاولت بشتّى الوسائل أن ترفق بي من الحقائب التي كانت تكبر عاماً بعد عام حتى أصبحت مشاويري الصغيرة لا تكتمل من دون حقيبة كبيرة تصفها إحدى صديقاتي متندرة بالشاحنة. عاندتُ أمي كثيراً، وتغنجت أكثر وأنا أطلب منها كل مساء أن تمسح كتفي بعد أن أعود وأنفض حمولتي.. لم أشعر بقصم الظهر التي كانت تتحدث عنه، فالنوم كان كافياً لأصحو قادرة على حمل عتاد لن أستعمل جميعه بالضرورة، ولكن من يدري! أقول في سري كل صباح سأحمل كل شيء حتى إذا حضرتني الكلمات كتبتها.
ظهري المتين انقصم يوم باتت الحقيبة أخف دون حاسوب ثم دون ورقة أو قلم. فأنا لم أعد قادرة على الكتابة خشية النزيف.
النزيف هو أن أتحدث بصيغة الغائب عما ـ كنت - أعرفه ويعرفني جيداً.. غائب لأنه لفظ معرفتي كما تلفظ الأرض الموتى في بلادي بعدما تعبت من حملهم أحياء واحتضانهم أمواتاً. ما أعرفه لم يعد يعرفني ويحاول استئصالي كما لو كنت ورماً خبيثاً غير مرغوب به. ذاكرتي تقف في جبهة تصدٍ غير متكافئ مع تدفق الصوت والصورة العنيف الذي يعتدي عليها لتشكيلها بشكل يتلاءم والحاضر. أن أجبر على تبني الفعل الناقص ـ كان - لأكتب عن كل ما أعرفه يقيناً وأصبح لا يعرفني يضعني أمام خيارين: نزيف مع ظهر متين أو جلد يتظاهر بالالتئام ليخفي ظهري المقصوم.
قبل أشهر اشتريت آلة كاتبة أنتيك، فرحت بها كثيراً للون حقيبتها الأزرق وغبار السنين بين أزرارها العطشى للزيت.. قالت لي صاحبة المحل إنها بيعت لصاحبها الأول في 1952. منذ أن أتيت بها إلى غرفتي وأنا أعبث بآلتي الكاتبة كل مساء، أتأمل حروفها الروسية واللاتينية وأفكر بكل الذي كتب عليها... هل خرجت من آلتي الكاتبة تلغرافات سوفياتية؟ أم وظيفة درس لكلية ما بالمجر، حيث أنا الآن؟ هل كُتبت عليها رسالة غرام؟ أتمنى ألا تكون الأخيرة قد خرجت منها! وأن يكونا قد كتبا رسائلهما خطياً، أو بددا أحاديثهما وجهاً لوجه، ففي الحالتين تصبح الحروف مكيفة بأنفاس تخفي الماكينة اختناقها..
محتارة أنا في مصير آلتي الكاتبة.. كيف لي أن أحملها معي كل محطات المحاكمة التي سيكون لي موعد معها قبل أن أصل بيتي؟ اليوم ظهري المقصوم أمعن في الأنين.. أفقت وفقراتي مغروسة في لحمي.. افتعلت شجاراً سريعاً مع آلتي الكاتبة، عاتبتها على ثقل وزنها وقلت لها الطريق إلى صنعاء لا يشبه الطريق الذي سلكناه من محل الأنتيك، ألا ترين كيف أرصّ كتبي في صندوق بينما أبحث له عن مستودع في مدينة ما لم يداهمها بعد حرس الحدود؟ أتذكرين كيف منحت معطفي الوحيد لصديقتي لأن الحقيبة الواحدة التي يسمح بنهشها في القاعدة العسكرية التي تحاكم العائد قبل الراحل لن تتسع له؟ لماذا أنت ثقيلة الوزن لهذا الحد؟ ألا يكفي حمل النفس القسري؟ يا آلتي الأنتيك، اليوم الظهر مقصوم! بالكاد يحمل صاحبته... كيمنٍ بالكاد يحمل أحرف اسمه، وبات يخيرني بين كتابته بصيغة الغائب وبالفعل الناقص ـ كان - أو تنكيس القامة التي تتآكل كلما مر يوم من دون أن أكتب. أشفقت على آلتي من عتبي واحتضنتها وبدأت أنزف:
بلادي تشبهني لحظة وقوفي ولحظة تآكل قدمي.. أعرف ضيقها واتساعها وأعرف كيف تطوي أرضها لي، واليوم ظهرها مقصوم مثلي، لا تستطيع أن تطوي الأزقة لي ولآلتي الكاتبة معاً، بالكاد تملك انحناءات تكفي لي، على مضض. بلادي وحيدة مثلي تتعكز على الذاكرة لتطفئ لهيب الفقد. لأكتب بلادي، علي أن أكتبني، ولأكتبنا أنزف وأنزف حتى تغرغر روحي وتنتفض قبل أن تلتحف بنزفها الذي ليس لها سواه.
يا آلتي الأنتيك، قبل ثلاث سنوات ونيّف، كانت الهدايا قصائد ادخرتها لمثل هذا اليوم. أولى القصائد استعارها الغرباء من درويش حين نبتوا كالعشب بين مفاصل صخرة معاً، وآخرها استعرتها أنا منه لليوم الذي تطحن فيه الصخرة عشبها فنصبح غرباء لأول مرة:
تقول: منى نلتقي؟!
أقول: بعد عام وحرب
تقول: متى تنتهي الحرب؟!
أقول: حين نلتقي