الأمل طريق النقابات المهنية المصرية للنجاة من مكائد السلطة

هل نجحت السلطة في القضاء على قوة التجمعات المهنيّة بمواجهتها بكل ما تملكه من آليات قمعٍ وإقصاء؟ الإجابة بالطبع لا، فتجربة النقابات المهنية في مصر ضاربة في القدم، يتناقل أفرادها الخبرات والمواقف الرافضة للسيطرة والتهميش، فضلاً عن أن المجلس ينحاز في النهاية إلى مطالب الجمعية العمومية، التي بدورها تتأثر بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتتفاعل معها.
2023-03-19

صفاء عاشور

باحثة وصحافية من مصر


شارك
مجلس نقابة الصحافيين الجديد

 في مبنى نقابة الصحافيين - الكائن في شارع عبد الخالق ثروت بوسط البلد - امتزجت في مساء الجمعة 17 آذار/مارس 2023، الفرحة بالدهشة على وجوه مئات من أعضاء الجمعية العمومية، عقب إعلان اللجنة القضائية المشرفة على انتخابات النقابة فوز الزميل خالد البلشي على مقعد النقيب. الفرحة سببها استعادة الجمعية العمومية لقوتها في مواجهة نظام جمّد العمل الصحافي، وأجبر جميع الصحف المحلية على السير في طريق واحد، نهايته التأييد الأعمى للسلطة، وتهميش مناقشة القضايا الحقيقية للمجتمع، فضلاُ عن تعطيل عمل الصحافة كسلطة للرقابة وكشف الفساد. أما الدهشة فسببها أن المرشح المدعوم من السلطة لم ينجح، بينما نجح البلشي، المناضل النقابي الفاعل، ورئيس تحرير موقع "درب" المحجوب في مصر.

وبجانب البلشي، نجح أربعة زملاء على مقاعد المجلس بانتخابات التجديد النصفي للصحافيين، وهم من ضمن قائمة أطلق عليها "تيار الاستقلال"، كونهم بعيدين عن الأوامر المباشِرة للسلطة. ذات الأمر حدث خلال انتخابات نقابة المهندسين العام الماضي (1)، عقب فوز طارق النبراوي، المناضل النقابي العنيد، بمقعد نقيب المهندسين، وهو المحارب لسنوات خلال عصر مبارك ضد فرض الحراسة وتجميد العمل النقابي على نقابة المهندسين. يكتمل المشهد أيضاً بالحراك النقابي الرائع لنقابة المحامين في كانون الأول/ ديسمبر 2022، في حشد لم تشهده النقابات المهنية منذ عام 2016، حين أجهضت انتفاضة الصحافيين ضد اقتحام نقابتهم (2) من قبل قوات "الداخلية" للمرة الأولى في تاريخها، على إثر اعتصام زميلين داخل مبناها، اعتراضاً على تخلي مصر عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير.

ويظل الرهان دائماً على حراك المجتمع المدني، وبخاصة النقابات، لاستعادة الحياة السياسية المعطّلة في مصر، وضد المكائد والعراقيل التي تضعها السلطة في طريقها، والتي لا تنجح دائماً. فانتخابات النقابات المهنية على سبيل المثال تخضع لإرادة الجمعية العمومية وحدها، وقد أضاف لها جيل ثورة يناير زخماً كبيراً مما يربك مخططات السلطة.

مثلث الرعب

مشهد يعود إلى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الراحل محمد حسني مبارك: ما أن تبدأ فعاليات التظاهر لبضعة أفراد على سلالم مبنى نقابة الصحافيين، حتى تتجمع قوات شرطية تفوق المتظاهرين عدداً، قبل أن تغلق الحواجز الأمنية شارع عبد الخالق ثروت أمام العربات والمارة، وتبدأ عناصر تابعة للأمن - بملابس مدنية - في التقاط صور للمتظاهرين، وتدوين شعاراتهم وهتافاتهم، بينما الضابط المسؤول يتواصل مع القيادات الأمنية بتوتر بالغ لإطلاعهم على التطورات، وقد يزجّ ببلطجيةٍ من الرجال أو النساء، إذا تطّلب الأمر، لتفريق الجمع بطرق لا تتضمن تدخل الشرطة المباشر، فسلالم الصحافيين خلال تلك الحقبة كانت "مقدسة" لا يمكن اقتحامها مهما تطورت الأمور وعلا سقف المطالب.

المشهد السابق يحوي ثلاث بنايات مثّلت حراك تأطير مطالب التغيير السياسي منذ التسعينات من القرن الماضي وحتى قيام ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، وهي : نادي القضاة، نقابة الصحافيين ونقابة المحامين، المعروفة إعلامياً في تلك الفترة بـ"مثلث الرعب"، رعب النظام الحاكم بالطبع.

يظلّ الرهان دائماً على حراك المجتمع المدني، خاصة النقابات، لاستعادة الحياة السياسية المعطّلة في مصر، وضد المكائد والعراقيل التي تضعها السلطة في طريقها، والتي لا تنجح دائماً. على سبيل المثال، تخضع انتخابات النقابات المهنية لإرادة الجمعية العمومية وحدها، وقد أضاف لها جيل "ثورة يناير" زخماً كبيراً، الأمر الذي يربك مخططات السلطة.

بجانب الكيانات الثلاثة المشار إليها، برز دور عدد من النقابات والتجمعات المهنية الأخرى، التي وصلت إلى ذروة تنظيمها بمحاولة تأسيس "اتحاد النقابات المهنية" خارج عباءة الدولة خلال العام 2010، وقد تمثلت أبرز مطالبه في: إسقاط القانون رقم 100 لسنة 1993، استقلال الموارد المالية للنقابات، تحسين مداخيل المهنيين، وأن يقتصر تغيير قانون النقابة على اقتراحات جمعيتها العمومية فقط، إضافة إلى استمرار رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو المبدأ الذي أقرته الجمعية العمومية في العديد من النقابات والكيانات المهنية منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد وحتى اليوم.

مقالات ذات صلة

وعقب قيام ثورة العام 2011، اندمجت تلك النقابات مع المطالب الشعبية العامة. وحين أفاق ممثلوها على ضرورة التمسك بالمطالب القديمة الخاصة بالحريات النقابية، في مواجهة سلطة جديدة تعيد سيرة سابقتها في القمع والتهميش، تعرضت النقابات للعقاب الجماعي، وذلك باستخدام ثلاث طرق رئيسية: أولها، الملاحقة الأمنية لأفراد النقابات الناشطين، أو العزل، كما حدث مع المستشار زكريا عبد العزيز، الذي عزل (3) بتوصية من لجنة تأديب "نادي القضاة" عام 2016؛ ثانيها تلويح السلطة بإدخال بعض النقابات المهنية في نفق "الحراسة" المظلم، بحجة معلنة هي الخلافات بين أعضاء مجلسها أو المخالفات، وبسبب غير معلن هو أنها تدار من قبل مجالس لا تتفق مع هوى السلطة وتصعب السيطرة عليها، كما حدث مع نقابة الصيادلة عام 2019. وهناك أخيراً دفع السلطة بموالين لها في الانتخابات، ودعمهم عبر وسائل الإعلام، وأيضا تسهيل حصولهم على خدمات لصالح ناخبيهم، كما حدث مع نقابة الصحافيين خلال الدورتين السابقة والحالية.

ولقد تمّ تدوير كيان اتحاد النقابات المهنية الذي ظهرت نواته عام 2010 إلى كيان مؤيد للسلطة، يضم نقابات صغيرة غير مشهورة بنشاطها السياسي، على رأسها نقابة المعلمين، وتستهدف أنشطتها دعم السياسة العامة وتوجهات الدولة، كما حدث خلال عام 2019 حين أيد (4) الاتحاد التعديلات الدستورية الرامية إلى زيادة مدة الحكم الرئاسي إلى ست سنوات.

"مهندسون ضد الحراسة"

هل نجحت السلطة في القضاء على قوة التجمعات المهنية بمواجهتها بكل ما تملكه من آليات قمع وإقصاء؟ الإجابة بالطبع لا، فتجربة النقابات المهنية في مصر ضاربة في القدم، يتناقل أفرادها الخبرات والمواقف الرافضة للسيطرة والتهميش، فضلاً عن أن المجلس ينحاز في النهاية إلى مطالب الجمعية العمومية، التي بدورها تتأثر بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتتفاعل معها، ومهما تغافلت أو غلبها تيار التأييد، إلا أنها تعود مرة أخرى إلى تنظيم صفوفها وتحديد مطالبها، وفي نقابة المهندسين مثال قوي على ذلك، فخلال العام 2022، نجح المهندس طارق النبراوي في انتزاع مقعد النقيب من منافسة هاني ضاحي وزير النقل السابق، الذي كان مدعوماً بقوة من السلطة. وبدا أن التهديدات والإغراءات الحكومية فقدت سطوتها عند حدود لجان الاقتراع الخاصة بانتخابات المهندسين، ونجحت الجمعية العمومية في اختيار نقيب يدعم مصالحها. 

تكرر الأمر في الجمعية العمومية العادية التي انعقدت في الثامن من شهر آذار/ مارس الحالي، والتي ناقشت واحداً من الملفات الشائكة وهو التعليم الهندسي، حيث أقرت تحديد أعداد المقبولين في التعليم الهندسي سنوياً بحيث لا تزيد عن 2500 مهندس، مع عدم قيد خريجي المعاهد الخاصة بالنقابة إلا في حال اعتمادها من قبل "الهيئة القومية لجودة التعليم والاعتماد والمنشأة". وأدت تلك القرارات إلى نشوب صراع جديد بين تيارين، الأول موالٍ للحكومة يمثله أعضاء من المجلس وهيئة المكتب، بعضهم ينتمي إلى حزب "مستقبل وطن" (5)، من ضمنهم اللواء يسري الديب مدير الهيئة العامة للأبنية التعليمية، وآخر مستقل على رأسه النقيب الحالي، الذي أصدر قراراً بتجميد صفحة النقابة على فيسبوك بعد سيطرة التيار المقرب من السلطة عليها في إطار الصراع الدائر بين الأعضاء، وبعد وصفها الجمعية العمومية بـ "الغوغاء".

كان الضابط يزج ببلطجيةٍ من الرجال أو النساء لتفريق الجمع بطرق لا تتضمن تدخل الشرطة المباشر، فسلالم نقابة الصحافيين خلال تلك الحقبة كانت "مقدسة"، لا يمكن اقتحامها مهما تطورت الأمور وعلا سقف المطالب. 

هكذا نرى كيف يشعل قرارٌ مهني فئوي خالصٌ صراعاً سياسياً، والسبب هنا هو العلاقة التي تربط بعض الأعضاء في الجمعية العمومية بأصحاب المعاهد والجامعات الخاصة من المتنفذين، مما يؤدي إلى تضارب في المصالح، علماً بأن نقابة المهندسين وكافة النقابات المهنية في مصر لا تفصل في عضويتها بين أصحاب العمل والعاملين. فالجمعية العمومية تضم المهندسين من عاملين وأصحاب شركات ومسؤولين بالدولة.

ولمعرفة أهمية فوز النبراوي نقيباً للمهندسين خلال الانتخابات الأخيرة، علينا العودة بعقارب الساعة إلى ثلاثين عاماً مضت، حين أصدرت الدولة القانون الجديد المنظِّم للنقابات المهنية رقم 100 لعام 1993، الذي وضع عدداً من الشروط التعجيزية، من ضمنها (6) تلك الخاصة بالانتخابات، حيث نص على ألاّ تقام الانتخابات في مواعيد العطل الرسمية، وأن يكتمل نصاب الجمعية العمومية بنصف عددها، وإنْ لم يتحقق ذلك تؤجل لأسبوعين ليكتمل النصاب بحضور الثلث، وإن لم يحدث ذلك يستمر المجلس ثلاثة أشهر ثم تعاد الكرة، وفي النهاية يتم تعيين حارس قضائي يكون له حق دعوة الجمعية العمومية للانتخابات. وقد وضع القانون خصيصاً لعرقلة النقابات التي لها فروع في المحافظات، من حيث صعوبة انتقال أفرادها إلى القاهرة في غير العطل الرسمية، ولم ينجُ من القانون إلا النقابات المركزية في العاصمة كنقابة الصحفيين.

بموجب ذلك القانون، توقفت الانتخابات لسنواتٍ داخل عدد من النقابات كنقابة التجاريين، وفرضت الحراسة على عدد آخر، من بينها نقابة المهندسين عام 1994، استغلالاً للصراع بين مجلسه الذي غلب عليه تيار الإخوان المسلمين في مواجهة تيارات يسارية وقومية ومستقلة، واحتاج الأمر إلى عشر سنوات كاملة ليعيد المهندسون تنظيم صفوفهم، ونبذ خلافات التيارات لصالح المهنة، فتكون تيار "مهندسون ضد الحراسة" عام 2004، وكان المهندس النبراوي من أبرز المؤسسين والمتحدثين باسمه. وعلى الرغم من أن هدف التيار كان في الأساس رفع الحراسة عن النقابة، إلا أنه سرعان ما اشتبك مع الأوضاع السياسية إلى جانب النقابات الأخرى، وبخاصة في قضيتي رفض التطبيع مع العدو الصهيوني ورفض خصخصة القطاع العام وإهدار الأصول المملوكة للدولة.

شارع عبد الخالق ثروت في وسط البلد يحوي ثلاث بنايات مثّلت حراك تأطير مطالب التغيير السياسي منذ تسعينات القرن الماضي وحتى قيام ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، وهي : نادي القضاة، نقابة الصحافيين ونقابة المحامين، المعروفة إعلامياً في تلك الفترة بـ "مثلث الرعب"، رعب النظام الحاكم بالطبع.

في عام 2011 أسقط قانون النقابات رقم 100، وتحررت نقابة المهندسين من الحراسة بحكم قضائي. مرة أخرى، انتخب مجلس تابع بشكل كبير إلى تيار الإسلام السياسي، أبطلته الجمعية العمومية عام 2014، وأجريت انتخابات فاز فيها النبراوي، ومجلس من المستقلين، أغلبهم شارك في الدفاع عن النقابة خلال سنوات الحراسة. في عام 2018 خسر النبراوي وتياره أمام المهندس هاني ضاحي وزير النقل وقتها، الذي دعمته السلطة. وفي انتخابات العام الماضي 2022، دفعت السلطة بأحمد عثمان النائب عن حزب "مستقبل وطن" لمقعد النقيب، لكنه منع بحكم قضائي بسبب كونه نائباً في البرلمان، وجيء بهاني ضاحي مرة أخرى، فخسر ونجح النبراوي في خطوة تشجع على التغيير في النقابات المهنية الأخرى لصالح مرشحي تيارات الاستقلال والإنقاذ.

"الحزب الوطني" الجديد

من الملاحظات المهمة في انتخابات المهندسين أن السلطة حاولت الدفع بأعضاء من حزب "مستقبل وطن" داخل صفوف المهنيين، وهو الحزب الذي أنشئ عام 2013 عقب أحداث "30 يونيو 2013" (7)، ويعتبر امتداداً لـ "الحزب الوطني" (أيام مبارك) من حيث تأييده المطلق للسلطة، وتبرير قراراتها، فضلاً عن اختيار المسؤولين من بين صفوفه، وملء مقاعد البرلمان أيضاً، إذ استحوذ الحزب على 316 مقعداً في الدورة البرلمانية الحالية من إجمالي 596 مقعدا، مشكلاً "حزب الأغلبية"، لكن إخفاق الحزب في الاستحواذ على مقعد نقيب المهندسين في انتخابات 2022، يعيد إلة الأذهان سيرة "الحزب الوطني" أيضاً، الذي لم يكن مفضلاً بين أفراد الجمعيات العمومية للنقابات المهنية. لذلك نشأ الصراع المشتعل الذي انتهى بإصدار القانون رقم 100.

منذ ثمانينات القرن الماضي، ارتفع نجم تيارات الإسلام السياسي داخل النقابات المهنية، على رأسها تيار الإخوان المسلمين، إذ بداخل النقابات المهنية تتخفف القيود المفروضة على الممارسة السياسية في الحياة العامة، ويصعب التزوير، أسوة بما كانت تشهده الانتخابات البرلمانية من تزوير فاضح بلغ ذروته خلال انتخابات عام 2010 (8) لصالح "الحزب الوطني"، إضافة إلى قَصر الوظائف العليا على أفراد موالين للسلطة.

نقابة الأطباء قبل ثورة يناير 2011 كانت أكبر مثال على ذوبان التيارات السياسية وتوحدها في مواجهة تباطؤ الدولة في تحقيق مطالبها الفئوية. فخلال عام 2009 هبت النقابة بفروعها لمطالبة الدولة بتحقيق سلم أجور عادل للأطباء، فكان القيادي الإخواني الراحل دكتور عصام العريان - أمين صندوق النقابة وقتها - يشارك في تظاهرات واعتصامات الأطباء بجانب دكتورة منى مينا المتحدثة الرسمية باسم جماعة "أطباء بلا حقوق"، وقد شهدت المطالبات تضييقاً أمنياً ومواجهات رفعت من حدة المطالب.

لكن بعد عام 2011 انحاز الإخوان بمجلس نقابة الأطباء، وبشكل سياسي بغيض، للجماعة، وحاولوا إجهاض اعتصام الأطباء بشهر أيار/ مايو من العام نفسه، والذي أقرته (9) الجمعية العمومية عقب اجتماع طارئ للمطالبة بإقالة وزير الصحة والقيادات الفاسدة بالوزارة، وزيادة ميزانية الصحة إلى 15 في المئة من الإنفاق الحكومي، وتأمين المستشفيات.

جاء تبدل أحوال أعضاء المجلس بأوامر من "الجماعة"، التي بدأ نجمها يصعد بتحالفها مع المجلس العسكري الذي حكم البلاد وقتها، كما شكلت بجانب تيارات الإسلام السياسي الأخرى نسبة ما يزيد عن 70 في المئة من نواب البرلمان المنتخب عقب الثورة المصرية، فيما ظهرت التغطية الإعلامية لانتخابات النقابة في العام نفسه منحازة إلى جماعة الإخوان، إذ نقلت على لسان أعضائها أخباراً غير دقيقة عن استحواذ الجماعة على أغلب مقاعد نقابة الأطباء بفروعها، وهو ما نفاه تيار الاستقلال في بيان له.

جرت في 2010 محاولة تأسيس "اتحاد النقابات المهنية" خارج عباءة الدولة، وتمثلت أبرز مطالبه في إسقاط القانون رقم 100 لسنة 1993، واستقلال الموارد المالية للنقابات، وتحسين مداخيل المهنيين، وأن يقتصر تغيير قانون النقابة على اقتراحات جمعيتها العمومية، واستمرار رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو المبدأ الذي أقرته الجمعية العمومية في العديد من النقابات منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد وحتى الآن.

احتاج الأمر إلى عشر سنوات كاملة ليعيد المهندسون تنظيم صفوفهم، ونبذ خلافات التيارات لصالح المهنة، فتكون تيار "مهندسون ضد الحراسة" عام 2004. هدف التيار كان في الأساس رفع الحراسة عن النقابة، إلا أنه سرعان ما اشتبك مع الأوضاع السياسية إلى جانب النقابات الأخرى، وبخاصة في قضيتي رفض التطبيع مع العدو الصهيوني ورفض خصخصة القطاع العام وإهدار الأصول المملوكة للدولة. 

وعند انتهاء حكم الإخوان المسلمين في منتصف عام 2013، جاءت الانتخابات لتعبر عن شعبيتهم المنهارة في نقابة الأطباء التي سيطروا عليها لـ 28 عاماً، وذلك لثلاث أسباب أساسية، أولها هي أجواء الشحن السياسي التي جعلت الجميع في مواجهة تيار الإخوان، وثانيها غضب المهنيين على الإخوان بسبب إضاعتهم مكتسبات الثورة خلال فترة حكمهم، إذ لم يختلف نظامهم كثيراً عن نظام مبارك، وثالثها الأمل في إحياء مطالب العدالة الاجتماعية للثورة بعد مشاركة الأطباء مع غيرهم في إسقاط نظام الرئيس الراحل محمد مرسى، وهو الشعور الخادع الذي شعر به كل من شارك في تظاهرات "30 يونيو".

وجاء الانتصار العظيم متمثلأ في تصعيد الطبيبة منى مينا كأول سيدة تشغل منصب أمين عام نقابة الأطباء، وبالطبع لم تعجب النبرة الإصلاحية الثورية للطبيبة المناضلة السلطة، فوجهت لها اتهامات بكونها "إخوانية" (وهي القبطية!) وهو اتهام يوجه للمعارضين كنوع من التهديد الأحمق لترويعهم، وربطهم بالأحداث الإرهابية التي تورط فيها أفراد من جماعة الإخوان عقب سقوط سلطتهم.

في مواجهة السلطة

نقابة الصحافيين بطبيعة تركيبها من أقل النقابات التي تقاطع مجلس نقابتها مع الإخوان المسلمين، لكنها اشتبكت مع نظام الجماعة كعادتها دائماً في الاشتباك مع الأنظمة المستبدة، ففي 12 كانون الاول/ ديسمبر من العام 2012 استشهد الزميل الحسيني أبو ضيف على أبواب قصر الاتحادية، ضمن التظاهرات الغاضبة للتيارات المدنية ضد الجماعة. الفتى صاحب القلب الأخضر الذي نجا من موقعة الجمل بعد إصابة بالرأس، تلقى طلقات نارية في الرأس أيضاً آتية من جهة أنصار الإخوان، فيما اختفت كاميراته وأوراق كان يحملها مثلما أفادت شهادات أصدقائه. وفاة الفتى غير المسيس، المهني، طيب القلب، أثارت غضب الصحافيين من المنتمين إلى جماعة الاخوان المسلمين. وقد عجل من وصول هذا الغضب إلى الذروة الوضع المرتبك للجماعة ومحاولاتهم فرض السيطرة على جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها، ما بدا أشبه بمن أسكرته نشوة الانتصار فترك المعركة في منتصفها لجمع الغنائم.

ما حدث منذ سقوط نظام الإخوان وحتى نهاية عام 2015، كان فرصة استغلتها السلطة الحالية لفرض حصار شامل على الصحافة، ومصادرة حريتها بدعوى محاربة الإرهاب، وملاحقة أعضاء "الجماعة" الصحافية والقبض عليهم. وبدا المشهد مستكيناً تماماً، والاستسلام الجديد للسلطة يسري كالمخدر في جسد المهنة العريقة، حتى أحداث اقتحام النقابة من قبل قوات الداخلية للمرة الأولى في الأول من أيار/ مايو 2016، على خلفية اعتصام صحافييَّن بمبناها، رفضاً لقرار تخلي مصر عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير.

 في البداية بدت جموع الصحافيين متماسكة في مواجهة حادث الاقتحام، فتحقق الحشد المرجو للجمعية العمومية غير العادية التي عقدت بعد ثلاثة أيام من تاريخ الواقعة، وارتفع فيها سقف المطالبات ليصل إلى وجوب اعتذار رئيس الجمهورية وإقالة وزير الداخلية، لكن سرعان ما انقلب الوضع بتعليمات من السلطة، التي دعمت تحركات مجموعة من الزملاء مشكّلين "جبهة تصحيح المسار"، التي هدفت إلى كبح جماح المجلس المنتخب والتسفيه من قدرته في مواجهة فعل الداخلية. عقدت الجبهة تلك مؤتمراً (10) بمؤسسة الأهرام الموالية للسلطة، حتى توحي للصحافيين وجودَ انقسام داخل صفوفهم. الغريب أن عدداً ممن شكلوا تلك الجبهة نجحوا في الحصول على مقاعد بالمجلس خلال الانتخابات التي تلت الواقعة، بالحشد الحكومي المعتاد من قبل المؤسسات الرسمية وبالتوجيهات المباشرة، لكنّ أعضاء المجلس هؤلاء أبدوا عدم فاعليتهم في حل كثير من الأزمات المهنية، ورفعوا شعار "الخدمات"، في مقابل إغفال الحديث عن العراقيل التي تضعها السلطة في طريق العمل الصحافي اليومي، فسقط ثلاثة منهم في انتخابات التجديد النصفي للصحافيين الحالية، في مشهد يستحق التأمل، ويكشف عن وعي الصحافيين للمخاطر التي تهدد المهنة.

نقابة المحامين كسرت بدورها الحصار المفروض على حق التظاهر منذ صدور القانون رقم 107 لسنة 2013، ونظمت تظاهرات حاشدة، نجحت في تأجيل تطبيق الدولة للتسجيل في "الفاتورة الالكترونية" لبضعة أشهر، التي تُعامِل المهنيين من المحامين والفنانين وغيرهم كالتجار، وتفرض عليهم ضرائب بدعوى إدخالهم ضمن الاقتصاد الرسمي للدولة، وهو ما أثار غضب ورفض أعضاء الجمعية العمومية للمحامين. واللافت للنظر أن تظاهراتهم داخل القاهرة وخارجها لم تتعرض للقمع الأمني، فالمهنيون حين ينتفضون لا ينفع معهم المنع والقمع بالطرق المعتادة.

استرداد النقابات لعافيتها سيتطلب بعض الوقت، وعودة مواجهتها مع السلطة لأسباب مهنية متداخلة مع الواقع السياسي والاجتماعي بدأت بالفعل. بعد سقوط فزاعة "الاتهام بالإرهاب" و"نشر أخبار زائفة"، تفتحت أعين الجمعيات العمومية للنقابات على الحقوق المهدرة، التي لن تستعاد بغير نضال المستمر. 

______________________

1- عقدت انتخابات نقابة المهندسين بتاريخ 11 آذار/مارس 2022.
2- حدث الاقتحام بتاريخ الأول من ايار/ مايو 2016.      
3- أيد بالقرار الجمهوري رقم 255 لسنة 2016 - منشور بالجريدة الرسمية
4-حسب خبر نشر في جريدة الأهرام بتاريخ 15 نيسان/أبريل لعام 2019، https://2u.pw/FrdZme      
5- حزب السلطة الحالية
6-المواد الأولى والثانية والخامسة من القانون رقم 100 لسنة 1993 https://2u.pw/GP3dcv    
7-المظاهرات الكبيرة والعرائض المليونية التي تطالب باسقاط الرئيس مرسي قبل أيام من اعلان وزير الدفاع وقتها، عبد الفتاح السيسي، في 3 تموز/يوليو انهاء حكمه.
8-الجولة الثانية للانتخابات التشريعية 2010 : غياب ضمانات النزاهة، تقرير للشبكة لمعلومات حقوق الإنسان https://2u.pw/wVuC6M    
9- انعقدت الجمعية العمومية الطارئة للأطباء بتاريخ الأول من أيار/ مايو لعام 2011    
10 - عقد المؤتمر بتاريخ 8 أيار/ مايو، وطالب بسحب الثقة من المجلس والنقيب

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه