رمضان في الغربة يكون مختلفاً بالتأكيد، ولكن لا يبدو الأمر سلبياً من جميع جوانبه، فإلى جانب الإحساس بالغربة وافتقاد الأهل والأصدقاء والأجواء الرمضانية التي اعتاد عليها المغترب في بلده الأصلي، هناك أيضا جوانب إيجابية، فقد تكون الظروف المعيشية في الغربة أفضل وأكثر راحة ويتخلص المغترب من أوضاع كانت تؤرقه في بلده، كذلك، فإن الإقامة في بلد آخر تمكّن من الاطلاع على ثقافة جديدة وعادات رمضانية تخص شعوبا أخرى، وذلك إذا كان البلد عربيا أو ذا أغلبية مسلمة، حيث الأجواء الرمضانية ظاهرة، والطقوس الاحتفالية والدينية تمارس على نطاق واسع. يختلف الوضع بالطبع إذا كان المغترب يقيم في بلد غربي مثلا، حيث لا يشعر بأجواء رمضان إلا على نطاق محدود: أسرته أو جيرانه أو الجالية التي ينتمي إليها والتي تنظم أنشطة خاصة برمضان كالإفطارات الجماعية وغيرها.
***
بهاء إبراهيم صحافي ومترجم مصري يعمل في قطر منذ عامين حيث يقيم مع زوجته وأطفاله، يقول: أكثر شيء أفتقده هنا العائلة طبعاً، خاصة أن هذا هو رمضان الثالث على التوالي الذي يمر عليّ في الغربة، لكني أحاول تعويض ذلك عن طريق الأصدقاء وزملاء العمل من المصريين المقيمين هنا وأسرهم حيث نتجمع ونفطر سوياً. أشعر أن يومي الرمضاني هنا أكثر تنظيماً، فهو موزع فقط بين العمل والبيت. وزملاء العمل هم جيراني في السكن. المجتمع هنا محافظ، فلا يوجد مطاعم أو مقاهٍ تفتح أبوابها للجمهور في نهار رمضان، رغم أن الكثير من المقيمين هنا من الأجانب غير المسلمين. هناك ولائم تنظم في المساجد كما تقوم الجمعيات الخيرية بتوزيع وجبات قبل الإفطار على الفقراء لاسيما من العمال الأجانب، ويقوم بعض الأثرياء بمد موائد في أماكن خاصة، وهو ما يختلف عن مشهد موائد الرحمن في مصر التي يمكن أن تقام في أي مكان. كذلك، ظاهرة التسول لم أرها هنا، فمن النادر جدا أن يطلب منك أحد مالاً، وإن حدث لا تكون هذه مهنته بل يفعل ذلك بشكل عابر. من صور التكافل التي أعجبتني، وهي مستمرة طوال العام، مشروع "حفظ النعمة" الذي تقوم عليه الجمعيات الخيرية ويهدف إلى تجميع الطعام الذي يزيد عن حاجة البعض وتوزيعه من بعد على المحتاجين بدلاً من التخلص منه دون أن ينتفع به أحد. الأكل القطري ليس كله متوافق مع ذوقي، لكني أحببت "الكبسة"، واللافت هنا أن المجتمع متعدد الجنسيات وهو ما أدى لوجود مطاعم هندية مثلا وأخرى أفغانية أو يمنية أو تركية..إلخ. الفوانيس وزينة رمضان موجودة ولكنها تعلق داخل البيوت والبنايات وليس في الشوارع كما عندنا. بخلاف الأهل والأصدقاء، لا أستطيع أن أقول إنني أفتقد شيئاً معيناً في رمضان في مصر.. ولكني أفتقد مصر بوجه عام، أفتقد بيتي ووجودي في بلدي وليس في الغربة، وهو شعور ممتد بطبيعة الحال. لكن على الجانب الآخر لا بد أن أعترف أن الحياة في مصر مرهقة جدا، وأن المرء فيها يعيش تحت ضغوط كثيرة..
***
رامي البنا، مصري يقيم مع زوجته في إسطنبول حيث يدرس، لا يشعر أن عاداته الشخصية الرمضانية اختلفت كثيراً في الغربة، هو فقط يفتقد أهله وأصدقاءه، وقد صار له أصدقاء جدد من الأتراك يجتمعون معا بعد الإفطار يوميا، لكنه يلحظ بعض أوجه الاختلاف في عادات رمضان بين البلدين: رمضان هنا في المؤسسات الرسمية لا يكون ظاهراً، فلا يوجد مثلا تخفيض في عدد ساعات العمل، والبعض يكون صائماً والبعض غير صائم ولا أحد ينكر على الآخر في ذلك، لكن الأمر في المناطق السكنية يختلف من مدينة لأخرى. بالنسبة للطقوس الدينية فصلاة التراويح هنا تقام في معظم الجوامع بصورة سريعة وعبارة عن 23 ركعة، كل ركعة بآية واحدة. ولا يوجد درس ديني بينها بل تتخللها صلوات على النبي، مع وجود جوامع تختم القرآن خلال الشهر، وهذه تنشر الجهات المختصة قائمة بأسمائها لمن يريد. أما عن المأكولات الرمضانية هنا، فتوجد بعض الحلويات والمخبوزات الخاصة برمضان، مثل الكَلاش، ونوع من الخبز اسمه "رمضان بيداسي" أي "مخبوزة رمضان"، وتمتد الطوابير قبل الإفطار للحصول عليها طازجة وساخنة. وعموماً أجد بعض التشابه بين الأكل المصري والتركي، فهم يتناولون الخضروات مثل السبانخ، والبقوليات مثل الفاصوليا، وهي وجبة أساسية لديهم، لكن نحن نضع ملحاً أكثر على الطعام. والشوربة عندهم مهمة للغاية، فتقريبا لا توجد أكلة بدون شوربة، حيث يبدأون طعامهم بها، ولها أنواع كثيرة هنا. ومن العادات الرمضانية في تركيا أيضا العزومات، وتبادل الأطباق بين الجيران، وقد تبادلنا الأطباق مع جارتنا، كما يتم تبادل الأطباق في الأماكن العامة، فالأتراك يحبون تناول إفطارهم في المناطق المفتوحة الخضراء، لذا تزدحم هذه المناطق وقت الإفطار، ويصحبون معهم الأطعمة والأهم ماكينة الشاي، فالشاي هنا أساسي على مائدة الإفطار، ومن الأمور الجيدة التي لاحظتها الحرص على نظافة الأماكن العامة رغم الزحام. وبعد الإفطار تمتلئ المقاهي بالرواد، وهناك مقاه تقدم الشاي فقط، وأخرى لشرب الشيشة. وبالنسبة للتكافل الاجتماعي في رمضان، فكل بلدية تنظم موائد للإفطار وذلك في أماكن خاصة مجهزة، ويرتادها الفقراء وغيرهم، كما تقوم الأوقاف بالعديد من الأنشطة التكافلية.
***
أحلام مصطفى، فلسطينية من غزة، تقيم منذ عام مع زوجها المصري وابنتيهما في سيدني بأستراليا حيث تدرس للحصول على درجة الدكتوراه، خبرت رمضان في الإمارات حيث عاشت أغلب سنوات عمرها، وفي مصر التي انتقلت إليها في 2010 لإتمام درجة الماجستير في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهي ترى أن الأجواء والعادات الرمضانية تبدو بوجه عام متشابهة في البلدان العربية وتلك ذات الأغلبية المسلمة، "مع التسليم بخصوصية كل بلد بالطبع، لكن يمكن القول إن المظاهر العامة واحدة: اجتماع الناس وزينة البيوت وتجهيز الأطعمة وخلافه، أما في البلاد ذات الأقلية المسلمة فالوضع مختلف، فالجميع لا يحتفل معك ولا الجو العام يُقرَ بمناسبتك. العمل يستمر على ما هو عليه والدوام حتى الخامسة مساء، لذا يلجأ المغتربون إلى تكوين علاقات مع غيرهم تمكنهم من تحقيق ولو جزء بسيط من هذه الروح القائمة على الاجتماع والمشاركة، يتجمعون في صلاة التراويح وفي إفطارات رمضانية تنظمها الأندية الطلابية والجمعيات الثقافية والاتحادات. ربما أصعب ما في الأمر هو محاولة نقل الإحساس برمضان للأطفال في غياب الجو المعتاد.. ألجأ إلى تعليق الزينة داخل المنزل وإشراكهم في شراء بعض الأغراض الخاصة برمضان، وكذلك الاستماع إلى القرآن والابتهالات الدينية، وشرح عملية الصوم لهم. ولعل من الإيجابيات التي يضيفها الصيام للمرء في الغربة التفرغ للصيام ولشهر رمضان تماما، لعدم وجود الانشغالات المعهودة التي يمكن أن تستنزف الوقت والطاقة، فينصب التركيز على النفس والعائلة، ومحاولة الإحساس التام بما في الشهر من فضائل". ترى أحلام أيضاً أن إقامتها في بلد كأستراليا جعلتها تنظر لرمضان على أنه شهر للعمل والإنجاز، فهي تعيش في محيط ينتظر منها أن تؤدي عملها بغض النظر عما تفعله في حياتها الخاصة، بينما الفكرة السائدة لدى كثير من الناس في بلداننا أن الحياة تتوقف في رمضان.