إذا كانت المستشفيات الحكومية رديئة الخدمة، فلماذا لا يتم تحسين مستواها بالحصول على قروض أو توقيع عقود شراكة، أليس الهدف هو التطوير؟.. هذا ما قيل للرأي العام في الشهر الماضي عقب توقيع وزارة المالية على عقد للحصول على قرض تطوير من البنك السعودي للتنمية بقيمة 120 مليون دولار. وكان العاهل السّعودي الملك سلمان خلال زيارته لمصر قد قام بالفعل بزيارة مستشفى القصر العيني ووضع الحجر الأساس لمشروع تطوير مستشفى المنيل الجامعي التخصصي القديم التابع لقصر العيني، بعد التوقيع على القرض المُيسر.
وقصر العيني هو المستشفى الجامعي العريق الذي يقدم الخدمة لما لا يقل عن 35 ألف متردد شهرياً على العيادات الخارجية وحدها، أمّا عدد المحجوزين فيصل إلى 18 ألفا، ذلك غير كونه المدرسة الطبية الأولى في البلاد.
جزر البحر الأحمر ليست وحدها..
خلال الزّيارة نفسها، وعقب اندلاع أزمة اتفاقية تنازل مصر عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير للمملكة السعودية، خرجت وكيلة نقابة الأطباء د. منى مينا لتقول إنّ خطر بيع مصر لا يقتصر على أراضي جزر البحر الأحمر وحدها، وأشارت الى أن هناك عشرات "الجزر" الطبية الهامّة التي تقدّم خدمتها لملايين الفقراء من المصريين رهن خطر البيع والخصخصة. وهذه الصاعقة لن يحتملها المصريون لعدم قدرتهم على تلقّي العلاج خارج تلك المنظومة مهما بلغت مساوئها الّتي هي بحاجة لتأكيد الإصلاح. وقالت: "مع تأكيدي لرفض أي تفريط في سيادة مصر على كل ذرة من التراب المصري، ألا ترون معي أن التفريط في مستشفياتنا التي تشتريها واحد وراء الآخر، شركات متعددة الجنسيات ("أبراج" وأخواتها)، وهي شركات لا نعرف ملاّكها ولا الأغراض التي تحركهم.. ألا ترون معي أنّ هذا أيضاً تفريط في السيادة وفي مصالح الشّعب المصري وخطر على الأمن القومي لمصر؟"
مجانية الطبابة مهدّدة؟
وقد أرسلت نقابة الأطباء مخاطبة رسمية لإدارة قصر العيني لتستفهم منها حول كلّ ما تردّد في وسائل الإعلام عن "القرض" الموجّه للمستشفيات التابعة له. وتساءلت النقابة في رسالتها عن طبيعة المبلغ الضّخم الموجّه لتطوير قصر العيني ــ وهو حوالي مليار جنيه ــ هل هذا المليار "منحة" أم "قرض"؟ وإذا كان قرضاً فما هي شروطه؟ وهل هو موجّه لقصر العيني فيكون هو المطالب بالسداد، أم أنه موجه لوزارة التعليم العالي (بصفته مستشفى جامعياً) والدولة هي المطالبة بالسداد؟ وأضافت الرسالة أنّ المعلومات المتداولة في الإعلام تقول إنّ هذا القرض الميسّر عليه فائدة 3 في المئة، وبالتالي مطلوب له 30 مليون جنيه فوائد سنويّة، كما أنّه سيسدد على 20 عاما، فيكون إذاً مطلوب سداد 50 مليونا أخرى سنوياً، ليصبح الإجمالي 80 مليونا لقسط سداد الدين، بالإضافة لخدمة الدين. ومن ثمّ يصبح السّؤال هنا كيف يمكن لمستشفى قصر العيني الذي يقدّم خدماته مجّاناً أو يقدمها بسعر التكلفة أن يسدد 80 مليون جنيه، إلا إذا غيّر طبيعة عمله غير الربحية؟ وما هو مصير مستشفيات قصر العيني في حال العجز عن السداد.. هل يتمّ بيعه؟
من جانبه، نفى رئيس جامعة القاهرة تلك المخاوف بقوة عبر تصريحات صحافية قال فيها "الحصول على قروض تطوير لا يعني على الإطلاق المساس بمجانية الخدمات". الصورة رغم التطمينات تتطور سريعاً. فخلال زيارة العاهل السعودي لمستشفى قصر العيني، تمّ تعليق لوحة رخامية بسطور تشير الى طبيعة هذا الاتفاق، إلا أنه وفي صباح اليوم التالي تم تهشيمها على يد طلاب وأطباء في قصر العيني، وهو ما فسر أولاً كاعتراض على اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، ولكنه تمّ بعد ذلك استخدامها كصور رمزية في الأوساط الطبية والسياسية لرفض أي سيناريو مستقبلي لخصخصة المستشفيات العامة.
ليس قصر العيني وحده بالتأكيد الذي تشمله تلك التصورات، ولكنها استراتيجية عامة خرجت إلى التداول قبل خمسة عشر عاماً ثم عادت حثيثاً بعد اندلاع ثورة يناير وسط اتهامات بمحاولات خصخصة القطاع الصحي الخدمي في مصر وتأكيدات رسمية مقابلة من أنها محاولات لتطوير قطاع يعاني من أمراض مزمنة.
"الرعاية الصحية"
هو اسم الهيئة الجديدة المقترَحَة من جانب وزارة الصحة عبر قانون جديد للتأمين الصحي. يكون لها صفة الاستقلالية وتتبع لها كل عمليات التطوير للمستشفيات الحكومية، وأول خطوة على الطريق هي توقيع عقد تطوير مستشفى قصر العيني. وقد كشفت المذكّرة الرسميّة الموقعة بين وزارة المالية المصرية والبنك السعودي بعض النّقاط الهامة حول طبيعة القرض الممنوح، منها أنّ قيمة القرض تبلغ 450 مليون ريال سعودي (930 مليون جنيه مصري) بفترة سماح لا تزيد على 5 سنوات، على أن يُسدَّد القرض على مدار 20 عاماً من أرباح العلاج، بفائدة تصل إلى 1.5 في المئة، وهو ما يتخطّى فائدة البنك الدولي المقدمة للدول. ويُعَدّ هذا أحد أهم أسباب اعتراض عدد كبير من كبار الأطباء داخل مستشفى قصر العيني على المشروع، من بينهم العميد السابق لكلية طب قصر العيني والنقيب الحالي للأطباء د. حسين خيري، الذي سبق وعطّل مقترحاً حكومياً بتطوير المستشفى عبر عقد اتفاق مشابه مع شركة "ماكينزي" الإنجليزية الشهيرة، وعُرف المشروع حينها بـ "رؤية تطوير قصر العيني 2020". وشمل الرفض أصوات كثير من رؤساء مجالس الأقسام في الجامعات المصرية التي كان القانون يشترط موافقتهم على تمرير أي قرار يخصّ المستشفيات الجامعية في مصر والبالغ عددها 11 مستشفى ومعهداً متخصصاً، ولكنه في العام الأخير تمّ إلغاء هذا البند وأصبحت الموافقة مقتصرة على رؤساء الجامعات بشكل مباشر.
ومن اللّافت للنظر أنّ مشروع "تطوير وتجديد المستشفيات الجامعيّة في مصر"، سبق أن تقدّم به وزير الصحة الحالي، طبقاً لما ورد في محضر جلسة الاجتماع الخاص بمجالس الأقسام في الجامعة خلال عام 2012، وكان حينها يشغل منصب عميد طبّ عين شمس. ورغم ترويج رموز في الحزب الوطني المنحلّ لهذا المشروع حينها، إلا أنّه تم رفضه بقرار أغلبية رؤساء مجالس الأقسام بالجامعات المصرية. وهكذا تدور الدائرة ومخاوف المهتمين لا تخصّ فقط "قصر العيني" أو "القرض السعودي" وحده، ولكنّها تتعلق بتوجه يتم تأصيله عبر قوانين واتفاقات أخرى تشمل العديد من المستشفيات.
في تدوينة أخرى لها، تحدثت الطبيبة منى مينا عما ينتظر ملف الصحة في مصر وأشارت إلى شركات عربية ودولية أخرى كبرى، منها شركة "أبراج كابيتال" الإماراتية التي توسعت أعمالها داخل مصر بشكل غير مسبوق في الأعوام الثلاثة الأخيرة لتشتري 17 مستشفى مصريّاً خاصّاً شهيراً. ليس هذا فحسب، ولكن اشترت سلسلةً من معامل التحليل الطبي والأشعة وكذلك شركات أدوية كبرى، ما اعتبرته مينا مخططاً لاحتكار القطاع الصحي الخدمي في مصر.
الإنفاق ووجوهه
ومن المعروف أنّ حجم الإنفاق الحكومي على هذا القطاع يأتي في المرتبة الرابعة داخل الموازنة المصرية الأخيرة بنسبة 5.3 في المئة من حجم المصروفات وتصل قيمتها إلى 42.2 مليار جنيه في العام. إلّا أنّ هذه الأرقام، رغم تفوقها مقارنة بغيرها من الموازنات السابقة، تواجه أرقاماً أخرى صادمة وذات دلالة، ومنها استحواذ بند الأجور والتعويضات وحده على 62 في المئة من تلك الاعتمادات. ومن ناحية أخرى، فإن حجم الإنفاق الخاص (من جيوب المواطنين) على بند الخدمات الصحية يمثل وحده 53 في المئة من إجمالي الإنفاق الصحي في مصر ــ وفق إحصاءات رسمية ــ مما يجعل مصر في مرتبة متقدمة بين الدول الأعلى في الإنفاق الخاص على القطاع الصحي، ويشير الى خلل واضح بحق المواطن في الصحة، كما كفله الدستور الذي يلزم الدولة برفع حجم الإنفاق على الصحة سنوياً ليصل إلى 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولا عزاء للمتوجعين..
نصّ لـ"الموقف المصري" حول المستشفيات المصرية وموازنة الصحة
تعليق الدكتور خالد فهمي على نص الموقف المصري