كَسْر "العَسِيب" خطُّ الاستجارة الأخير في اليمن

الاستجارة عادة قبلية منتشرة في عموم المنطقة العربية ومنها اليمن، يلجأ إليها شخصٌ ضاقت به الأحوال، حدّ أن تصبح حياته مُهَدَّدَةً بخطر مؤكّد، أو ينتظر كرامتَه إذلالٌ قادم، على اختلاف الأسباب التي تُوْصله إلى هذه الحال... مما يترتب عليه وَضْع الجاني والمخطئ ـ هو وأفراد أسرته كلهم ـ في مرمى الاستهداف الانتقامي.
2023-03-09

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
الجنبية في اليمن

من العادات الاجتماعية في اليمن عاداتٌ فاعلةٌ في إرساء قيم السلم والتصالح الاجتماعي، سيما المرتبط منها بـ "الجنبية"، تلك النوعية من الخناجر العربية التي عادةً ما تُربط بحزامٍ حول الخاصرة، وتتواجد في اليمن وعُمان وجنوب المملكة العربية السعودية، مع خصوصيتها اليمنية، بوصفها مكوِّناً مهماً من مكونات الهوية، وجزءً رئيساً في الزي التقليدي اليمني قديماً وحديثاً، حيثُ تشير الباحثة ـ المتخصصة في التراث الشعبي اليمني ـ أمة الرزاق جحاف، إلى أن الظهور الأول لـ "الجنبية" اليمنية كان في تمثال الملك "مَعْد يَكْرب" الموجود في المتحف الوطني بصنعاء، والذي يعود تاريخه إلى حوالي 400 ق.م، يظهر فيه الملك مرتدياً "الجنبية" بصورتها الأولى الشبيهة بالسيف، قبل أن تمرّ صناعتها بمراحل التطور المتعددة خلال العصور التاريخية المتعاقبة، وصولاً إلى صورتها التراثية الحديثة.

قيمة معنوية ومادية

تتجاوز "الجنبية" اليمنية ماهيتها ـ زينةً وزيّاً تقليديّاً ـ إلى صيرورتها قيمةً معنوية ذات ارتباط بمكانة الرجل وشرفه ووجاهته الاجتماعية. كما أنها ـ إلى ذلك ـ قيمة مادية، يصل سعرُ بعضها إلى مبالغ خيالية، والفاعل الرئيس في تحديد سعرها هو نوعية المادة التي يُصنع منها أهمُّ أجزائها المَقْبض/ الرأس. فأغلى أنواعه هو المصنوع من قرون "وحيد القرن". كما يُصنع من قرون الوعول، أو عاج سن الفيل، أو الكرك المُصَنّع من قرون البقر. أمّا نوعيّاته الأقل سعراً فهي تلك المصنوعة من البلاستيك، و"الفيبر"، والخشب.

تدخل "الجنبية" بشكلٍ رئيس في عملية التحكيم التي تستهدف حل الخلافات والمشكلات والخصومات الناشئة في أوساط المجتمع اليمني، على المستويين الفردي والجماعي، حيث يُقَدِّمُ كلّ طرفٍ من الطرفين المتخاصِمَين "جَنبيّته" إلى المُحَكّم.

أهم كيفيات الاستجارة هي تلك التي يقوم فيها المستجير بكَسْر "العسيب" (غمْد الجنبية") في حضرة الشخص الذي جاء إليه مستجيراً به. والاستجابة في هذه الحال بديهية وواجبٌ يقترب من القداسة في العرف الاجتماعي. 

وتسهم بشكلٍ ثانوي في مستوى ارتفاع سعر "الجنبية" أو انخفاضه المواد التي تُصنع منها أجزاؤها الأخرى. فقطْعتها المعدنية الحادة (النصلة/ السلة)، تُصنع من حديد الهندوان المعالَج، الذي يشبه إلى حدٍّ ما ال"ستانليس ستيل" (وهو الفولاذ المقاوم للصدأ) و"العسيب" ـ غمْدها الذي توضَعُ فيه ـ ويُصنَع من الخشب الخفيف، ويُغَلّف بالجلد وخيوط الخيزران، أو بالزنك المُطَعّم بالذهب والفضة. ويُنْقش بنقوش مختلفة بارعة الجمال. أمّا الحزام الذي يُثَبّتْ الغمد في منتصفه، فغالباً ما يُصنع من الجلد، ويُطعّم بالخيوط الذهبية أو الفضية.

استجارة كَسْر "العسيب"

الاستجارة عادة قبلية منتشرة في عموم المنطقة العربية ومنها اليمن، يلجأ إليها شخصٌ ضاقت به الأحوال، حدّ أن تصبح حياته مُهَدَّدَةً بخطر مؤكّد، أو ينتظر كرامتَه إذلالٌ قادم، على اختلاف الأسباب التي تُوْصله إلى هذه الحال، والتي قد تكون أخطاء كبيرة اقترفها هو في حق آخرين، أو تكون أسباباً لا يد له فيها، كظروف الواقع التي ليس في مستطاعه السيطرة عليها، أو أن تكون أسباباً عائدةً إلى خطأ اقترفه واحدٌ من أفراد أسرته في حق شخص من أسرة أخرى، أو جنايةً، أو غير ذلك مما يترتب عليه وَضْع الجاني والمخطئ ـ هو وأفراد أسرته كلهم ـ في مرمى الاستهداف الانتقامي.

يستجير مَنْ يقع في مثل هذه الحال بشخصيةٍ اجتماعية، تتوافر في صاحبها صفات الوجاهة، والنفوذ، والثراء، والشهامة، والقدرة على إجارة المستجير به وحمايته والحفاظ على كرامته، فلا يذهب إليه المستجير إلّا وهو مطمئنٌ إلى توافر هذه المقومات في شخصيته.

وتختلف كيفيات الاستجارة باختلاف الخطر المُهَدِّد، فمنها ما يستخدم فيها الشخص المستجير مكانته الاجتماعية ـ إن كان صاحب مكانة اجتماعية جارَ عليه الزمن ـ ويظل فيها محتفظاً بقدر مناسب من تلك المكانة. ومنها ما يكون فيها المستجير قد فَقَدَ اعتبارات وجاهته، ويغلب عليها أن يختزلها المستجير، بقوله لمن جاء إليه مستجيراً به "إنه في وجهه"، بمعنى أنه وَضَع نفسَه وأهلَه وجاهَه في حماية هذا الشخص.

وأهم كيفيات الاستجارة هي تلك التي يقوم فيها المستجير بكَسْر "العسيب"، في حضرة الشخص الذي جاء إليه مستجيراً به. وعلى ما في الكيفيات السابقة من بديهية الاستجابة، إلا أنها في هذه الحال واجبٌ يقترب من القداسة في العرف الاجتماعي، كون الاستجارة بكَسْر العسيب هي آخر ما يمكن أن يلجأ إليه شخصٌ ما، لأنها حالٌ يصل فيها المستجير إلى المستوى الصفري في هرمية الطبقات الاجتماعية، الذي تحيل عليه صفةُ انكسار العسيب، كمعادلٍ لانكسار شخصيته ووصوله ـ هو وأفراد أسرته ـ إلى مستوىً لا ينتظرهم فيه إلا هوانٌ وضِعةٌ اجتماعيةٌ لا فكاك منها، أو أخطارٌ ستفترس حياة بعضهم وتُنَكّل بالبعض الآخر. ومجمل هذه التداعيات المحدقة بالمستجير هو ما يجعل من عملية إجارته واجباً ذا قداسةٍ عُرْفية، كون الوصول إلى الاستجارة يمثّل بارقة الأمل الوحيدة والأخيرة، التي من أجلها يتخلى الشخص عن كل اعتباراتِ شخصيته الاجتماعية وغير الاجتماعية، ويَمْنَح مَنْ يستجير به شرفَ إعادةِ هذه الاعتبارات إليه، كما يمنحه ـ في الوقت ذاته ـ شرفَ الاتِّصاف بأنه الملاذ الأخير له، ولِمَنْ يقع في مثل ظروفه القاهرة.

وفي كل الأحوال، فإن الشخصية الاجتماعية التي يستجير بها شخصٌ ما، لا تتهاون في الحفاظ على كرامة المستجير، ولا في العمل على أن يمضي التعاطي مع قضيته في سياق الضوابط المتعارف عليها في نسق الأعراف الاجتماعية، مع بَذْلِ هذه الشخصية جهوداً ومحاولاتٍ في حلِّ المشكلة إن كانت مما يمكن حله في سياقها العرفي. أما المشكلات والقضايا التي لا بد من أن تصل ـ هي وأصحابها ـ إلى الجهات الرسمية المختصة، فإن تلك الشخصية الاجتماعية هي مَنْ يقوم بذلك، مع استمرارية التزامها الضمني العرفي بالحفاظ على كرامة المستجير وأفراد أسرته.

"جَنْبِيّة" التحكيم

تدخل "الجنبية" بشكلٍ رئيسٍ في عملية التحكيم التي تستهدف حل الخلافات والمشكلات والخصومات الناشئة في أوساط المجتمع اليمني، على المستويين الفردي والجماعي، حيث يُقَدِّمُ كلّ طرفٍ من الطرفين المتخاصِمَين "جَنبيّته" إلى المُحَكّم (1)، والوصف المرتبط بها في هذه الحال هو "العَدَال"، بما يحمله من معنى التوازن بين طرفي التحكيم، وتكون هذه العملية أكثر إحالةً على توازن رغبتهما المشتركة في الوصول إلى تسويةٍ فيما بينهما، وهو الأمر الذي يحرص عليه مَنْ وَضَعا فيه ثقةَ تحكيمهما، من خلال قيامه بإجراءاتٍ يغلب عليها الطابع العرفي، غير المتعارض مع التشريعات القانونية. كما يغلب على هذه العملية التحكيمية الوصول إلى تسويةٍ مُرْضِيَةٍ بين طرفيها. بعدها يعيد المُحَكّم إلى كلٍّ منهما "جنْبِيّته/ عدَاله". فأعراف التحكيم تقضي بأن يدفع الطرفان أجرة المُحكّم، يُقرُّها المجتمعون الذين قد يُحَمِّلون أحد الطرفين الجزء الأكبر منها بناءً على ما تمَّ الوصولُ إليه من نتائج، وغالباً ما يكون الإقرار بقسمة أجرة التحكيم على الطرفين بالتساوي، تداعياً مع جوهر التراضي المُتَضَمّن تنازلاتٍ مشتركة من كليهما، والذي على ضوئه تقوم تسوية الخلاف فيما بينهما.

الاستجارة بكَسْر "العسيب" هي آخر ما يمكن أن يلجأ إليه شخصٌ ما، لوصول المستجير إلى المستوى الصفري في هرمية الطبقات الاجتماعية، الذي تحيل عليه صفةُ انكسار العسيب، كمعادلٍ لانكسار شخصيته ووصوله ـ هو وأفراد أسرته ـ إلى مستوىً لا ينتظرهم فيه إلا هوانٌ وضِعةٌ اجتماعيةٌ لا فكاك منها، أو أخطارٌ ستفترس حياة بعضهم وتُنَكّل بالبعض الآخر.

الشخصية الاجتماعية التي يستجير بها شخصٌ ما لا تتهاون في الحفاظ على كرامة المستجير، ولا في العمل على أن يمضي التعاطي مع قضيته في سياق الضوابط المتعارف عليها في نسق الأعراف الاجتماعية، مع بَذْلِ هذه الشخصية جهوداً ومحاولاتٍ في حلِّ المشكلة إن كانت مما يمكن حله في سياقها العرفي. 

كما أن هناك تفاصيل متوائمة مع خصوصية كل موقفٍ خلافيّ أو تحكيمي، منها تلك المواقف التي لا يتساوى فيها الطرفان في مستوى الخصومة، بمعنى أن يكون الخطأ من طرفٍ واحد في حق الآخر. وفي هذه الحال يسْتبق المخْطئ مرحلة التحكيم، فيأتي بنفسه إلى صاحب الحق ويقدم إليه "جنْبِيّته". وتَحْمِل ممارسته هذه ضِمْنِيّة اعترافه بالخطأ، كما تحمل ردّ اعتبارٍ لِمَنْ وقعَ الخطأ في حقه، والذي يصبح بهذه العملية هو الخصم والحكَم في آن واحد، مع قُبولٍ قطعي بما يَحكم به. ولا يكون حُكْمه ـ في الغالب الأعمّ ـ إلّا صَفْحاً وتسامحاً مع المخطئ، وتنازلاً عما كان سيَتَضَمّنه قرار محكّمٍ ثالثٍ بينهما، فيما لو كانا وصلا إليه.

كذلك، تُستخدم "الجنبية" للحيلولة دون اتّساع الخلاف في المواقف الحرجة، التي تكون مشاكلها منذرة بعواقب وخيمة، حيث يكون من غير الممكن أن يذهب المخطئ بنفسه إلى صاحب الحق، لذلك فهو يستعين بشخص يحظى بتقدير واحترام عند الطرف الآخر، ويرسل معه "جنْبِيّته" إلى خصمه، فيستقبل الخصم الوسيط بكرمٍ وحفاوة، ويقبل ما جاء به من عَرْضِ احتكام الخصمَين إلى حَكَمٍ بينهما. ومع الوسيط ذاته يعيد الخصم "الجنبية" إلى صاحبها، كون رسالته الضمنية قد وصلت من خلالها، بما تحمله من حُسْنِ نية، ورغبة في السلم، والحدّ من استشراء المشكلة وتداعياتها.    

______________

1- المُحَكّم بين الطرفين ـ إن كان الخلاف بين أفراد القبيلة نفسها، يكون شيخ القبيلة أو مَنْ في مستواه. كما يمكن أن يكون المُحَكّم واحداً من أفراد العائلة أو الأسرة الكبيرة حينما يختلف اثنان من أفرادها. أما حينما يكون الخلاف بين قبيلتين، فإن المُحكّم بينهما عادةً ما يكون شيخ قبيلة محايدة.

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...