تصوّب النكتة بعضاً من مَيَلان الواقع عن لحظة توازنه، كأنها تتكفّل بإعادة تشكيله على نحوٍ أكثر خفّة كلما ازداد عسْفه، فهي بذلك تتعدّى كونها مجرّد بنية لغوية سرديّة مكثفّة، لتصير أداة لفهم تجلّيات الواقع داخل منظومة الوعي الفردي والمجتمعي.
واللافت أن تعتذر النكتة مراراً عن حضور مأدبة الحرب المقامة على أرض سوريا منذ سنوات، وهذا نقبله كتقشّفٍ لبق يتجنّب زجَّ واقعٍ حالِكٍ داخل مفردات تستحثّ فعل الضحك، ونقبل معه أن مهمة النكتة في تفكيك صورة الحدث خلال العام 2011 و2012 كانت متاحةً أكثر مما أصبحت عليه في الأعوام الأربعة اللاحقة. وقتذاك كان بمقدور النكتة أن تقترح نصيباً من السخريّة على مسار الأحداث لغرض تقبّله، قبل أن يتشابك خيط الحياة مع خيط الموت والتهجير والخيبة، وتتلعثم خطاه وتتداخل في زوغان معقّد الوجهة كما الخيط في كرة الصوف، فيصير معه تجاوز الواقع فعلاً نهائياً، يصعُب استصلاحه أو هضمه على مراحل، مثلما يصعب استدراج النكتة منه.
التفرعات السياسية للنكتة
تضمن البنية السردية للنكتة الإطلال على الحياة من ضفةٍ آمنة، تتيح اختزال جانبٍ منها أو أكثر في كثافةٍ لغويّة انتقائية تجعلها تصمد في حيّز التداول لفترةٍ ما، وأحياناً تصير مستنداً محفوظاً في الذاكرة يمكن الاستدلال به كلما اقتضت الحاجة. النكتة أيضاً تمتلك فرضية مضمرة تحاول البرهنة عليها متى أُلقيت على من يسمعها، فهي تقترح إذاً مقاساتٍ جديدة لإدراك حجم الحدث في مسار وعيه الاجتماعي. ولأن الحراك الشعبي الذي نشأ في سوريا عام 2011 كان حالةً ملتبسة لم يجتمع حولها كلّ السوريين، فإن النكتة غدت في فضائها الخاص تصوغ موقفاً سياسياً من الحراك نفسه بكل التباساته الممكنة. فرّقت بين الأفواه التي تناقلتها، كما فرّقت السياسة بين معارضٍ للنظام، وموالٍ له.
المعارضون للنظام رصدوا بسخريّة آلة الحرب تطلّ على حياتهم اليوميّة، صاروا يتندّرون بالاستدلال على عناوين بيوتهم بِنَسْب مكانها إلى موقع دبابةٍ مثلاً (بيت فلان يقع بعد الدبابة الثانية على جهة اليمين)، أو يسخرون من جهل المرابطين على الحواجز التابعة للنظام (أوقف "شبّيحة" على حاجز أمني رجلاً متوجّهاً إلى مدينة حماه، وسألوه ماذا يحمل معه، فأجابهم: كمبيوتر محمول و"فلاش" ذاكرة، استفسروا منه إن كان يحمل "فيسبوك" بين أغراضه، فردّ بالنفي، فارتاحوا، وسمحوا له بأن يكمل طريقه).
الموالون بدورهم عاينوا في نكاتهم أساس الحراك على أنه مؤامرة خارجية هدفها النيل من النظام الحاكم (أمسكت الشرطة "منْدساً" وساقته إلى المحكمة، وهناك عنّفه القاضي بامتعاض: ألا تخجل من نفسك؟ هذه المرة الثانية التي تأتي فيها إلى هنا، ردَّ "المندس" بسرعة: حبذا لو توجه هذا الكلام لنفسك، فأنت كلّ يوم هنا!). فرضية المؤامرة تستلقي بارتياح فوق نكاتٍ أخرى يرويها الموالون كتلك التي تتحدث عن المجموعة الثالثة التي زجّت منتخب سوريا لكرة القدم خلال تصفيات كأس العالم الماضية إلى جانب منتخبات قويّة مثل اليابان وأوزبكستان وكوريا الشمالية (من قبيل سأقطع يدي إن لم تكن هذه القرعة مسحوبة في قطر).
ليس صعباً إذاً تتبّع المفردات التي تقدّم انطباعاً معرفياً نسبيّاً عن الواقع، وكيف تعود وتظهر داخل البنيّة السرديّة للنكتة. المعارضون مثلاً يسمّون الموالين بالشبيّحة، والموالون يسمّون المعارضين بالمندسين، وأحياناً قليلة تتجوّل النكتة بلا هوية سياسية واضحة، تختار موضوعاً لا يحتمل المناكفة، فيستحسنها الجميع، ويتناقلونها بلا تحفّظ (كيف تخرج عن دينك في خمسة أيّام، كتاب من تأليف عماد خميس وزير الكهرباء السوري) أو (فتوى شرعيّة موجّهة للمجاهدين: لا يجوز ضرب عمود الكهرباء لأنه مذكّر، بينما يصحّ ضرب محطة توليد الكهرباء لأنها مؤنث).
كما يسهل الاستدلال على منبت النكتة من الألسن التي تتناقلها. وقد يتجانس القالب الذي يعجن مقولةَ نكتتين، فيما يختلف مضمون سردهما بحسب الموقف الإيديولوجي لصانعها (يسأل شاب صديقه عن مصير الذي يموت في إحدى المظاهرات، وما إن كانت روحه تطلع إلى الجنّة، أو إلى النار، فيردُّ صديقه: يا أحمق، تطلع على قناة الجزيرة). بالمقابل نجد: (يسأل طفل والده عن مصير الكاذب، وهل يذهب إلى النار فعلاً؟ فيجيبه والده: في هذه الأيام يا بني يذهب إلى "قناة الدنيا").
مناطق تظهر على خارطة النكتة
اقترحت السمات المناطقية نفسها مجدداً على مدلولات النكتة. حضرت مباشرة في عناوين أغلبها، كما كانت تفعل قبل الحرب. إذ رصدت النكتة المنسوبة إلى أهل حمص حال السنوات الأولى للحراك بخفّةٍ متقنة، لم تراوغ في استنباط معطيات مثاليّة، بل أمسكت بخوارزميات الواقع وفككت معظمها، مُبدّلةً بين الأدوار تارةً (حمصيّ قتل مجموعة من الشبّيحة، وعندما اعتقله الأمن، وسأله عن اسمه الثلاثي، قال لهم: أنا لا أحب الشهرة، سجّلوا اسمي فاعل خير)، أو مُصرّةً على توثيق حالة بعينها (أوقف حاجزٌ أمني حمصيّاً بعد انتهاء مظاهرة، فسأله الضابط المسؤول إن كان قد هتف بشيء، فنفى الحمصيّ التهمة، ثم طلب منه الضابط أن يسمعه أغنيةً يحفظها، فردد الحمصيّ: "يا درعا حِنَا معاكِ للموت")، ونكتة أخرى تقول: (قرر سكان حمص أن يتضامنوا مع أنفسهم خلال المظاهرات، فنظّموا واحدةً هتفوا فيها: "ياحمص.. حمص معاكِ للموت").
حتى أنّ مناطق لم تكن معروفة في سوريا، خصّتها النكتة خلال سنوات الحرب بعنايةٍ واسعة، مثل قرية "كفرنبل" التابعة لريف إدلب، حين تخصصت بإطلاق لافتاتٍ ساخرة ملأت تدريجياً مواقع التواصل الاجتماعي المعارِضة، وتلك صّنعت نقداً كوميديّاً مبسّطاً لفجاجة الموت والعزلة والقهر. وهذا نمطٌ من النكات تقرؤه العين أولاً، ثم يُحفَظ، ثم يصير نكتةً تطرحها أفواهُ الناس بعضهم على بعض، أكثرها شهرة (سوريا خلصت، والأزمة بخير) و(نطالب بزيادة عدد الدبابات في كفرنبل للتخفيف عن حمص المنكوبة) و(بابا وماما استشهدا، وباسم ورباب في المعتقلات).
ثم ظهرت النكتة المستندة إلى سردٍ بصريًّ متواضع. تلك المحاولات المحليّة غير المبرمجة للسخرية من اختلال موازين القوى العسكرية بين المعارضة والنظام. عشرات من مقاطع الفيديو جرى تحميلها عامي 2012 و2013 من أرياف حمص، هناك حيث عاين الناس عن كثب معارك مضنية وطويلة. وأظهر المحتوى البصري لتلك التسجيلات السكانَ المحليين وقد حوّلوا على سبيل المثال مدفأةً منزلية إلى مجسمٍ ساخرٍ يقارب شكل المدفع، وآخرون صنّعوا مجسماتٍ بدائية تحاكي سلاح "المنجنيقات" المنقرض.
النكتة رواية فريدة للواقع
يختلط علينا فهم كيان النكتة أحياناً، فهي تحمل مقاربات المقولة الفكريّة والقصة القصيرة في إطارها الشعبي الفكاهي. لكننا غالباً ما نصنّفها على أنها حكاية شفاهيّة يرتبط تناقلها بمقدرتها على الاحتفاظ بوجبةٍ دسمة من السخرية، تظلّ تدور بين الألسن والآذان لسنواتٍ، وبعضها يظلّ محفوظاً لعقود. وهي في سوريا رافقت نظام البعث الحاكم، كسردٍ موازٍ لفضاء البلاد الموصد بوجه الحريّات وتداول السلطة. كانت واسعة الانتشار قبل الحرب، وقبل مشاعيّة التعرض لوسائل التواصل والإعلام الحديث، ولعلّها بقيت جزءاً من مقتنيات مجالس الحديث، بالرغم من كل العنف البوليسي للدولة الأمنية، لكنها استمرّت تُبتكر وتُصنّع وتُوزّع كأرغفة الخبز (لاحظ أحد المذيعين في التلفزيون السوري خلال نقلٍ مباشر لمسيرة تأييدٍ ضخمة طفلاً يتّقد حماسةً فاقترب منه المذيع وسأله عن سبب حماسه واندفاعه في الهتافات، فردّ الطفل: لأني وطني، فاستحسن المذيع إجابته وسأله: ما اسم والدك؟ فرد الطفل: أبي هو حزب البعث. اتّسعت ابتسامة المذيع، وسأله أيضاً: ممتاز، وما هو اسم أمك؟ فرد الطفل باندفاعٍ: أمي هي طلائع البعث. ربّت المذيع على كتف الطفل، وسأله أخيراً: عظيم، وما هي أمنيتكَ في الحياة، هنا ردَّ الطفل ببراءة: أتمنى أن أغدو يتيماً).
تقدم لنا "ليزا وادين" أستاذة علم الاجتماع السياسي في جامعة شيكاغو في كتابها الذي يحمل عنوان "السيطرة الغامضة: السياسة، الخطاب، والرموز في سوريا المعاصرة" مقاربة اجتماعية لوظائف النكتة باعتبارها مخزونا ثقافيا مجتمعيا عميقا، وقد نظرت إلى تاريخ النكتة الاجتماعي في سوريا على أنّه تاريخٌ اجتماعي تأسس وفق هرميّة اجتماعية وسياسية وحالة فساد التهمت كلّ أجهزة الدولة.