سجال بين طرفي الحرب بشأن اللقاح: لماذا عاد شلل الأطفال إلى اليمن؟

منذ العام 2015 الذي بلغت فيه الحرب أكبر منعطف إثر التدخل العسكري لـ "التحالف العربي" ضد جماعة الحوثيين، استمرت طائرات اليونيسف والصحة العالمية بين وقت وآخر بإيصال المساعدات الطبية إلى اليمن بما في ذلك لقاح شلل الأطفال. بالمثل، لم تنقطع حملات التحصين التي نفّذتها السلطات الصحية بالتعاون مع منظمات محلية ودولية. فلماذا إذاً عاد الشلل للفتك بأطفال اليمن؟
2023-03-06

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
طفلة في اليمن تتلقى جرعة من لقاح شلل الأطفال- يونيسف

في 16 أيار/ مايو 2009، أعلن المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في العاصمة المصرية القاهرة، خلوّ الجمهورية اليمنية رسمياً من "مرض شلل الأطفال الناتج عن الفيروس البري"(1).

قالت الحكومة اليمنية حينها إن هذا الإعلان جاء بعد دراسة ومراجعة لجنة الإشهاد الإقليمية التابعة للمنظمة للوثائق المقدمة من قبل تلك اللجنة في اليمن، وقال وزير الصحة العامة حينها عبد الكريم راصع، إن "هذا الإنجاز" جاء بعد أكثر من تسع حملات تحصين خلال العقد الأول من الألفية الثالثة.

غير أن المرض نفسه عاد بصورة أخرى بعد 11 سنة، إذ أعلنت المنظمة الأممية المعنية بالطفولة (يونيسف) في 25 آب/ أغسطس 2020، عن عودة تفشي شلل الأطفال في البلاد. أرفقت المنظمة إعلانها بإحصائية أولية لخمس عشرة حالة قالت إنه تمّ الإبلاغ عنها وهي مصابة بالفيروس المسبب للمرض من النوع 1 (CVDPV1). هذه الحالات تم الكشف عنها - بحسب اليونيسف - في مناطق مختلفة من محافظة صعدة، شمال غرب اليمن، وقد تأخر الكشف عنها سنتين بسبب عدم وصول عينات الفحص إليها في العام 2018.

لماذا عاد المرض؟

مثل أي مرض فيروسي المصدر، يتطلب شلل الأطفال الوقاية باللقاح، وهذا أكثر جدوى من معالجته بالأدوية لاحقاً. ولئن كان الفيروس يصيب الأطفال الصغار (عادةً تحت سنّ الخامسة)، يفيد إعلان اليونيسف بأن السقف العمري للأمان من الإصابة به، هو سنّ الثالثة عشرة.

اعتمدت السلطات الصحية في اليمن في العام 2015 تلقيح الأطفال بالحقن العضلي ضد هذا المرض، وعلى الرغم من إعلانها أن عدد الأطفال المستفيدين من اللقاح في كل حملة تطعيم بمئات الآلاف، عاود المرض انتشاره ابتداءً من محافظة صعدة، وهي المحافظة التي يكاد يكون فيها التلقيح منعدماً خلال السنوات الماضية.

  لعبت الحرب دوراً محورياً في حرمان أطفال اليمن من أخذ اللقاحات اللازمة لسلامة نموّهم، وليس فقط لقاح شلل الأطفال. فقد أعادت الحرب أمراضاً وأوبئة أخرى كانت البلاد خالية أو شبه خالية منها، كالحصبة والحصبة الألمانية، الكوليرا، الدفتيريا... وغيرها. وبمقتضى الحال التي بلَغها الانهيار في قطاع الخدمات الصحية خلال سنوات الحرب، تضاءل مخزون اللقاحات بسبب استمرار الأعمال القتالية التي توقفت على إثرها حركة الواردات إلى البلاد، كما أن الانقطاعات الطويلة للتيار الكهربائي خلال سنوات الحرب الأولى، أدت بدورها إلى تلف اللقاحات المخزّنة في المرافق الصحية. وعلى الرغم من الاستجابة الطارئة لمنظمتي الصحة العالمية واليونيسف لنداء الاستغاثة الذي وجهته وزارة الصحة التابعة لسلطة الحوثيين في صنعاء، أدى وضع الحرب إلى حرمان شريحة واسعة من الأطفال في سنّ التحصين، من تلقي اللقاح.

منذ العام 2015 الذي بلغت فيه الحرب أكبر منعطف إثر التدخل العسكري لـ "التحالف العربي" ضد جماعة الحوثيين، استمرت طائرات اليونيسف والصحة العالمية بين وقت وآخر بإيصال المساعدات الطبية إلى اليمن بما في ذلك لقاح شلل الأطفال. بالمثل، لم تنقطع حملات التحصين التي نفّذتها السلطات الصحية بالتعاون مع منظمات محلية ودولية. فلماذا إذاً عاد الشلل للفتك بأطفال اليمن؟

لم تعلن سلطات صنعاء ممانعتها للقاح رسمياً، لكنها تنتهج نوعاً من الارتياب إزاء المساعدات الطبية والغذائية القادمة من الخارج.

تصنّف منظمة الصحة العالمية شلل الأطفال بأنه "مرض شديد العدوى، يصيب في الغالب الأطفال الصغار، ويهاجم الجهاز العصبي ويمكن أن يؤدي إلى شلل في العمود الفقري والجهاز التنفسي، وفي بعض الحالات الوفاة". وفي سردها لتاريخ لقاحات شلل الأطفال، تقول المنظمة إنه على الرغم من كون لقاح شلل الأطفال الفموي "آمن وفعال"، يحدث "في المناطق التي تكون فيها تغطية التطعيم منخفضة"، أن "يبدأ فيروس اللقاح الضعيف الموجود أصلاً في اللقاح الفموي بالانتشار في المجتمعات غير الملقحة". وعندما يحدث هذا، مع ترك الفرصة للفيروس بالانتشار لفترة كافية من الوقت، "فقد يعود وراثياً إلى أن يصبح فيروساً قوياً، قادراً على التسبب بالشلل، مما يؤدي إلى انتشار ما يُعرف باسم فيروسات شلل الأطفال المشتقة من اللقاح (cVDPV). ومع أن السلطات الصحية في اليمن اعتمدت في العام 2015 تلقيح الأطفال بالحقن العضلي ضد هذا المرض، وعلى الرغم من إعلانها أن عدد الأطفال المستفيدين من اللقاح في كل حملة تطعيم بمئات الآلاف، عاود المرض انتشاره ابتداءً من محافظة صعدة، وهي المحافظة التي يكاد يكون فيها التلقيح منعدماً خلال السنوات الماضية.

فوبيا اللقاحات

 في أواخر كانون الثاني/ يناير 2023، وبحضور مسؤولين اثنين من وزارة الصحة، ناقش مجلس النواب التابع لسلطة صنعاء مخاطر انتشار الأمراض والأوبئة في مناطق سيطرة الجماعة، ومن ذلك "وفاة عدد من الأطفال بسبب انتشار شلل الأطفال والحصبة". طالب النواب في الجلسة نفسها بحضور وزير الصحة وبإيلاء هذه القضية اهتماماً خاصاً، بما في ذلك التحقيق في أسباب وفاة الأطفال و"محاسبة المقصّرين"، كما طالبوا بـ "توفير اللقاحات وبرامج التحصين ورفع مستوى الوعي الصحي في التعاطي مع الأمراض والأوبئة المنتشرة". في اجتماع لاحق عُقد في 18 شباط/ فبراير الفائت خارج قبة البرلمان بصنعاء، بين رئاسة مجلس النواب وبعض الوزراء من بينهم وزير الصحة، تمّ توجيه قيادة الوزارة بتحمّل مسؤوليتها "في ترصد الأوبئة والعمل على مكافحة انتشار مرض شلل الأطفال والحصبة وغيرها". وبما يشبه اللوم، "حثّت" رئاسة البرلمان مسؤولي الوزارة على تنفيذ توصية مجلس النواب التي كان الوزير التزم بها "في آخر جلسة"، وتنصّ على تنظيم حملة تحصين للأطفال "من منزل إلى منزل".

  ليست هذه المرة الأولى التي يتوفى فيها أطفال جراء الإهمال وتقصير السلطات الصحية، ففي أواخر العام 2022، توفي ما يقارب عشرين طفلاً مصاباً بالسرطان جراء إعطائهم أدوية منتهية الصلاحية. تمرّ مثل هذه الأحداث المؤلمة مرور الكرام ولا أحد يحاسب أحداً، فقد دأبت السلطات في صنعاء والمحافظات التابعة لها على التعامل بحساسية إزاء أي نقد أو مطالبات بمحاسبة المقصّرين، بذريعة ظروف الحرب، وصارت تهمة موالاة "العدوان" أكثر التهم جاهزية لإخراس من يجرؤ على فتح فمه.

مثل أي مرض فيروسي المصدر، يتطلب شلل الأطفال الوقاية باللقاح، وهذا أكثر جدوى من معالجته بالأدوية لاحقاً. ولئن كان الفيروس يصيب الأطفال الصغار (عادةً تحت سنّ الخامسة)، يفيد إعلان اليونيسف بأن السقف العمري للأمان من الإصابة به، هو سنّ الثالثة عشرة.

 مؤخراً أصبحت عودة انتشار شلل الأطفال موضوع سجال بين طرفي الحرب الرئيسيين: الحكومة المعترف بها دولياً وسلطات صنعاء، حيث اتهم وزير الصحة في الحكومة المعترف بها دولياً سلطات الحوثيين بتنظيم فعالية ضد لقاحات شلل الأطفال، اعتبرها "حملة ضد اللقاحات برعاية رسمية"، كما اعتبرت وزارته تنظيم فعالية ضد اللقاحات "تصرّفاً طائشاً" و"مغامرة بمستقبل أطفال اليمن". وكان الوزير نفسه اتّهم في مطلع العام 2022، سلطات صنعاء بعدم قبول تنفيذ حملة وطنية للتحصين ضد شلل الأطفال في مناطقها. والحال أن سلطات صنعاء لم تعلن ممانعتها للقاح رسمياً، لكنها تنتهج نوعاً من الارتياب إزاء المساعدات الطبية والغذائية القادمة من الخارج. يتجسد ذلك في آخر خطاب لزعيم الجماعة عبد الملك الحوثي في 17 شباط/ فبراير الفائت، الذي اتهم فيه أعداء جماعته بأنهم "يعملون على بيع الأغذية والأدوية واللقاحات غير المأمونة". والفوبيا المجتمعية ضد اللقاحات إجمالاً موجودة بصفة عامة، وهي ليست حصراً على المجتمع اليمني، غير أن الفعالية" (2) التي أشعلت السجال من شأنها أن تعزز هذه الفوبيا لدى المواطنين، خاصة أنها حظيت برعاية وبحضور رئيس الوزراء في حكومة صنعاء، وحضرها وزير الصحة ومدير مكتب قائد الجماعة عبد الملك الحوثي.

الأرقام غير مفزعة لكنها البداية

تفيد إحصائية وزارة الصحة التابعة للحكومة المعترف بها دولياً بوجود 228 حالة إصابة بشلل الأطفال، بينما تفيد وزارة الصحة التابعة لسلطة صنعاء أن العدد 226. ويبدو الرقم متواضعاً، لكن الأمر ليس هيّناً عندما يتعلق بحياة أطفال يتربص بهم الموت أو ينتظرهم مستقبل مفخخ بالإعاقة. كما ينبغي الأخذ بالاعتبار تنويه منظمة الصحة العالمية حول تحوّل "الفيروس الضعيف" الموجود في اللقاح إلى "فيروس قوي" عندما تكون تغطية التحصين ضعيفة. فحين ندقق في إعلان المنظمة عن خلوّ اليمن من فيروس شلل الأطفال، فقد كان المقصود شلل الأطفال البرّي، بينما المتفشي حالياً هو شلل الأطفال المشتق من اللقاح، وهو - بحسب المنظمة - ناتج عن انحسار نطاق التحصين. ولأن هذا المرض "شديد العدوى"، فلن يلبث هذا الرقم أن يتضاعف إذا ما استمر اعتبار اللقاحات "غير آمنة ولا فعّالة" أو أنها أداة للهيمنة الغربية، كما جاء في أدبيات الندوة التي رعتها حكومة صنعاء. ومن جانب آخر، ما فائدة "مختبر الاكتشاف المباشر لفحص عينات شلل الأطفال" الذي دعمت تجهيزه منظمة الصحة العالمية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 بصنعاء؟!

لا تزال منظمة الصحة العالمية تعتبر انتشار شلل الأطفال في إقليم شرق المتوسط "طارئة صحية مُلحة... تسبب قلقاً دوليّاً". وفي العاشر من شباط/ فبراير الفائت، عقدت اللجنة الفرعية الإقليمية المعنية باستئصال شلل الأطفال والتصدي لفاشياته اجتماعها الرابع، منوهة إلى ضرورة استمرار كل من أفغانستان، جيبوتي، مصر، باكستان، الصومال، السودان واليمن، بـ "التصدي لسريان فيروسات شلل الأطفال المشتقة من اللقاحات". كما أصدر أعضاء اللجنة "بيانين بشأن اليمن وأفغانستان، طالبوا فيهما بإتاحة اللقاحات لجميع الأطفال دون انقطاع". 

إذا تم تحصين السكان بشكل كافٍ، فستتم حمايتهم من كل من فيروسات شلل الأطفال البرية والمشتقة من اللقاح. 

______________________

1  - https://bit.ly/3IDMpem Yemen - Polio outbreak (WHO, UNICEF, Global Polio Eradication Initiative) (ECHO Daily Flash of 25 August 2020   
 2 - للاطلاع على محتوى الفعالية على الرابط: https://althawrah.ye/archives/790448

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

للكاتب نفسه

حلم أمريكا المتجدد: إضافة سقطرى إلى سلسلتها النارية العابرة للمحيطات

تمضي المواجهة العسكرية في المياه البحرية لليمن بوتيرة بطيئة نوعاً ما، لكن إيقاعها غير المتسارع، ينذر بتحوّلات جذرية لصراع القوى الإقليمية والدولية المتنافسة على النفوذ في مضيق باب المندب، الذي...