الاستشراق في اليمن بين زمنين.. الحرب كمرحلة فاصلة

يظل معظم النتاج المعرفي للمستشرقين حبيس مكتبات العالم المتقدم، بينما يجهل القارئ العربي المشهد الكامل للرؤى الثقافية والأنثروبولوجية التي شكّلت وتشكل نظرة المجتمعات الغربية لمجتمعات الشرق. تلك الجدلية التي تختلط فيها صورة العربي بالفارسي بالتركي بالهندي...إلخ، فكله شرق غرائبي، عدا ما يتعلق بصورة اليهودي والمسيحي.
2023-03-02

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
من آثار اليمن المسروقة والمعروضة في متاحف اوروبية

لطالما قاد المستشرقون أقدام المستعمرين إلى البلدان التي زاروها وكتبوا عنها، لكن ذلك ليس الجرم الوحيد الذي ارتكبه مستكشفو بلدان الشرق العربية، أو بعضهم تحرياً للدقة. ثمة جرم آخر تمثّل في تعسّف التعبير عن مجتمعات هذه البلدان وطبيعة الحياة فيها، سواءً عن قلة دراية أو عن سوء طوية. وإذا كان الحديث عن اليمن، فلا بد أن أمامنا مراحل طويلة من البحث في كتب المستشرقين والرحالة الذين زاروا البلد وكتبوا عنه على مدى القرون الأربعة الماضية.

يعود أقدم ذكر لليمن في كتابات الرحالة الأوروبيين إلى كتاب "الطواف حول البحر الإرتيري" الذي ينسبه مؤرخون لتاجر يوناني من القرن الرابع قبل الميلاد. بعد ذلك أبعدت الصراعات في أوروبا المستكشفين والرحالة عن المنطقة العربية حتى القرن الخامس عشر الميلادي على أقل تقدير، حين قدم البرتغاليون لاحتلال بلدان الشرق الثرية، ومن ذلك موانئ اليمن ونظيراتها على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر، وتلك الواقعة قبالة ساحل البحر العربي من بلاد الهند.

 وباستثناء رحلة الإيطالي لودفيكو دي فارتيما (1502 ميلادية)، لم يُسجل التاريخ المعروف دخول مستشرق أو رحالة أوروبي إلى الأراضي الداخلية لليمن إلا في العام 1762، وهي القصة المأساوية للبعثة الدانماركية التي مات جميع أفرادها في "البلاد السعيدة" باستثناء الجغرافي وعالم الرياضيات ذائع الصيت كارستن نيبور. ثم توالى مجيء المستشرقين وهواة جمع الكنوز الأثرية والمغامرين، خاصة خلال فترة الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن والاستعمار العثماني لشماله. معظمهم كتبوا عن البلد المستغلَق، فإلى أي مدى نجحوا وأخفقوا في فهمه، وأين هو نتاجهم المعرفي؟

  يفيد المترجَم من كتب الرحالة والمستشرقين عن اليمن، بأن معظمها لم تتم ترجمته بعد. وبقدر ما حملت هذه الكتب من فائدة لتاريخ البلاد، ففيها بلا شكّ استنتاجات غير دقيقة، وفيها حتى بطولات زائفة لكتّابها، كتلك التي أوردها "جوزيف هاليفي" عن شجاعته الخارقة أمام رجال القبائل والتي فنّدها لاحقاً مرافقه اليهودي اليمني "حاييم حبشوش"، أو ذلك الادعاء المضحك للرحالة الإيطالي "رينزو مانزوني" في كونه اصطاد عشرة طيور برصاصة واحدة في "وادي بَنا" وسط البلاد! لكن المرء لا يجدر به التوقف عند مثل هذه الترّهات وحسب، فأراشيف المكتبات الأوروبية تعجّ بمئات - إن لم يكن آلاف - الكتب والمصنّفات عن هذا البلد الذي ما زال إلى اليوم يعاني من نقص المعلومات عنه، حتى بالنسبة إلى مثقفيه.

من الثورة إلى الحرب

خلال الفترة 1962- 2014، عندما كان اليمن لا يزال يحظى باستقرار نسبي، كانت سفاراته والمراكز الثقافية التابعة لها في أوروبا، تقيم أو تشارك في إقامة ندوات تعريفية بكتاب أو منتَج معرفي عن البلد هنا أو هناك، كما كان أساتذة جامعات ومؤرخون وباحثون محليون يسافرون إلى بلدان أوروبا وأمريكا لاستكشاف المكتبات المتضمّنة مصنفات تخص اليمن. خلال هذه الفترة التي تربو على نصف قرن، ظهرت مئات الكتب وآلاف الصور، ناهيك عن النقوش واللقى الأثرية والمخطوطات، في متاحف ومكتبات أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ما تزال هذه المكتبات عامرة بمحتوياتها من مؤلفات المستشرقين وهواة الترحال، كما لا تزال عامرة بالمخطوطات المهربة والمسربة عبر العمليات التجارية والقنوات الدبلوماسية والسرقات وغيرها من طرق الاستحواذ.

توالى مجيء المستشرقين وهواة جمع الكنوز الأثرية والمغامرين، خاصة خلال فترة الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن والاستعمار العثماني لشماله. معظمهم كتبوا عن البلد المستغلَق، فإلى أي مدى نجحوا وأخفقوا في فهمه، وأين هو نتاجهم المعرفي؟ يفيد المترجَم من كتب الرحالة والمستشرقين عن اليمن، بأن معظمها لم تتم ترجمته بعد. 

ما تزال متاحف ومكتبات أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية عامرة بمحتوياتها من مؤلفات المستشرقين وهواة الترحال، كما لا تزال عامرة بالمخطوطات المهربة والمسربة عبر العمليات التجارية والقنوات الدبلوماسية والسرقات وغيرها من طرق الاستحواذ.

 وإذا كان الدكتور محمد عيسى صالحية أحصى في العام 1985، قرابة 350 مكتبة تضم مخطوطات ومصنفات عربية في 21 بلداً، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي حينها، فلنا أن نتصور كم زاد عدد هذه المكتبات خلال الثمانية والثلاثين سنة الماضية، وكم زادت محتوياتها من معارف التراث العربي (1). أحصى صالحية أيضاً 483 مستشرقاً قال إنهم عملوا في البلدان العربية بين العامين 1840 و1985، وأن تركيزهم كان ينصبّ على جمع الكتب المتعلقة "بالحروب والجيوش وأدوات الحرب وصناعة السفن والمراكب الحربية ومراسيم الخلافة ومظاهر الحضارة الإسلامية".

ومنذ اندلاع الحرب في اليمن سنة 2014، حيث تقلّص ذلك المناخ الذي كان يغري الباحثين باستكشاف مكتبات أوروبا الحافلة بأمهات المؤلفات عن البلد، انهزمت الروح البحثية بسبب الحرب ولم يتخلص الباحثون من نزعة التنقيب عن المدائح والإطراءات لبلدانهم في كتب المستشرقين، بالرغم من أن كتبهم المترجمة إلى العربية تغص بالأخطاء وبعضها يطفح بالترهات وبالخيالات المريضة للرجل الأبيض عن الشرق الفاحش. مثال على ذلك استغراب "رينزو مانزوني" من عدم رؤيته للنساء في شوارع صنعاء، هو الذي أتى لاستكشاف تاريخ البلد وحضارته. بالمثل، مواطنه "دي فارتيما" الذي ادعى أن إحدى زوجات السلطان الطاهري وقعت في غرامه لأن لونه أبيض وهي سمراء، وهناك، الكونت السويدي "لندبرج" الذي قال إن الرجل العربي لا يمكن أن يعطيك كلمة إلا بثمن!

ملف الكونت السويدي

 من الملفات المودعة في مكتبات أوروبا، يمكن أن نأخذ ملف الكونت "كارلو دي لندبرج" في مكتبة جامعة "أُبسالا" في السويد، كمثال على طبيعة عمل واحد من أكثر المستشرقين نشاطاً خلال أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. الملف عثر عليه محمد عيسى صالحية وعرضه في كتابه "تغريب التراث العربي..."، ثم تناوله المؤرخ والآثاري اليمني محمد عبدالقادر بافقيه بصورة أكثر تفصيلاً (2)، مستفيداً من كونه ابن البلد الذي يخصه ملف المستشرق الذي تتلمذ على يد إرنست رينان - خليفة مؤسس الاستشراق الحديث "سلفستر دوساسي"، كما يصفه المؤلفان نقلاً عن إدوارد سعيد.

 في ملف لندبرج، الذي كان وثيق الصلة بملك السويد والنرويج، أوسكار الثاني، توجد أكثر من تسعين رسالة بينه وبين عدد من اليمنيين الذين وفروا له ما أراده. هؤلاء الأشخاص الذين شكلوا شبكة علاقاته يتفاوتون في صفاتهم - حسب بافقيه - بين "السلطان وشيخ القبيلة والقاضي ونصف المتعلم من أبناء المدن والأمي الريفي من أبناء القبائل، وغيرهم"، لكنهم يجتمعون في أمر واحد: المصلحة الشخصية. والمصلحة هنا تتمثل في بيع وشراء النفائس الأثرية والمخطوطات وكل ما كان يطلبه الكونت أو يوافق رغباته وخططه الاستشراقية. فإلى جمع النقوش والتحف الأثرية، عمل لندبرج على جمع المعلومات حول لهجات سكان جنوب اليمن وحِرفهم، سيما في محافظات أبين، شبوة، حضرموت، المهرة وسقطرى، وقد كتب عنها في مجلته "Arabica" ابتداءً من عددها الثالث، إضافة إلى كتابه المتسلسل الذي حمل عنوان "Etudes".

منذ اندلاع الحرب في اليمن سنة 2014، تقلّص ذلك المناخ الذي كان يغري الباحثين باستكشاف مكتبات أوروبا الحافلة بأمهات المؤلفات عن البلد. انهزمت الروح البحثية بسبب الحرب ولم يتخلص الباحثون من نزعة التنقيب عن المدائح والإطراءات لبلدانهم في كتب المستشرقين، بالرغم من أن كتبهم المترجمة إلى العربية تغص بالأخطاء وبعضها يطفح بالترهات وبالخيالات المريضة للرجل الأبيض عن الشرق الفاحش.

هل هناك أمل في بزوغ جيل جديد من المستشرقين يرفضون أسس الاستشراق السائدة منذ سلفيستر دوساسي إلى الآن، وينفتحون على رؤى المخالفين لهم من العلماء والباحثين والمثقفين المنتمين إلى البلدان التي يدرسونها؟

بدأ لندبرج نشاطه في اليمن منذ العام 1894، وظل على ارتباط بشبكة علاقاته في اليمن حتى وفاته في 1923. وإذا كان صالحية وبافقيه درسا أرشيف مراسلاته لإيضاح طريقة تعامله التي لم تتسم بالسوية مع شركائه المحليين، الجاهلين بطبيعة الحال لقيمة ما كانوا يعطونه إياه، فإن النتاج العلمي للندبرج مازال غير مترجم، وبالتالي لا نعرف تفصيلاً ما الذي كتبه عن لهجات سكان جنوب اليمن وعن حرفهم ونمط حياتهم آنذاك. ذلك أن الترجمة مشروع يُفترض أن تقوم به مؤسسات حكومية أو دور نشر قادرة على تحمل كلفته المادية وإيصاله إلى القراء المعنيين بالأمر. هكذا يظل معظم النتاج المعرفي للمستشرقين حبيس مكتبات العالم المتقدم، بينما يجهل القارئ العربي المشهد الكامل للرؤى الثقافية والأنثروبولوجية التي شكّلت وتشكل نظرة المجتمعات الغربية لمجتمعات الشرق. تلك الجدلية التي تختلط فيها صورة العربي بالفارسي بالتركي بالهندي...إلخ، فكله شرق غرائبي، عدا ما يتعلق بصورة اليهودي والمسيحي.

ماذا عن بزوغ جيل جديد من المستشرقين؟

 مع تصاعد الصراع الثقافي بين الشرق والغرب ودخول الأديان على خط الصراع بصورة حادة، استدعت الحاجة مزيداً من الجهود المكرسة للتسامح الديني والانفتاح الثقافي، سيما خلال العقدين الماضيين من الألفية الثالثة، حيث كسرت تكنولوجيا الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت احتكار وسائل الإعلام الرسمية والتجارية للمعرفة، وبات بإمكان شخص في عمق الظلام أن يشحن هاتفه المحمول عبر لوح شمسي ويطّلع على آلاف الكتب والصور والفيديو في أي مكان من العالم. بات أيضاً بإمكان الفرد في العالم المتقدم أن يطّلع على مجريات سياسة حكومته في البلدان التي طالما ظلت فريسة للسلوك الاستعماري الرسمي وشبه الرسمي، بما في ذلك البلدان التي تشهد حروباً وتضعضعاً سياسياً يخل بالحياة الطبيعية. صار بالإمكان فرض الرقابة على الاستشراق المعاصر الذي لا يفتأ يُطوّر أدواته وأساليبه في سياق التخادم بينه وبين الحكومات، تماماً كما كانت العلاقة بين الكونت لندبرج والملك أوسكار الثاني أو بين وزارة المستعمرات البريطانية وعالمة الآثار جيرترود بيل... وكم لدينا من أمثلة كاشفة في هذا السياق.

 والحال هكذا، هل يمكن القول إن هناك أمل في بزوغ جيل جديد من المستشرقين يرفضون أسس الاستشراق السائدة منذ سلفيستر دوساسي إلى الآن، وينفتحون على رؤى المخالفين لهم من العلماء والباحثين والمثقفين المنتمين إلى البلدان التي ينقبون فيها ويدرسونها؟

من حيث الأمل، تخبرنا بعض الوقائع بأن ذلك ممكن. ففي مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2022، قابلتُ في القاهرة باحثتين فرنسيتين كانتا في مهمة إقامة معرض صور أرشيفية لأطفال اليمن يمتد تاريخها منذ سنة 1950 إلى الوقت الحاضر. اتفقت "فانيسا غينو" و"جولييت هونفو"، وكلاهما تعملان في "معهد البحوث والدراسات حول العالمين العربي والإسلامي" (IREMAM) في فرنسا، على مقترح إقامة هذا المعرض بينما كانتا في فترة الحجر المنزلي أثناء جائحة كورونا مطلع العام 2020. قالت فانيسا إنها ورفيقتها بحثتا لاحقاً في آلاف الصور في أرشيف المعهد وأرشيف "الدار المتوسطية للعلوم الإنسانية" (MMSH) التابعة لجامعة إيكس مرسيليا. 

"أكثر من عشرين ألف صورة جميعها لأطفال"، قالت فانيسا وهي تحكي قصة نشوء وتسلسل فكرة المعرض. وهذا الأرشيف هو إجمالي جهد باحثتين وباحث فرنسيين زاروا اليمن خلال النصف الثاني من القرن العشرين وهم: "سولانج أوري"، "كلودي فايان" و"مارسو غاست"، إضافة لـ"أرشيف ضخم" أودعته عائلة السياسي اليمني المعروف أحمد محمد نعمان في الدار المتوسطية، وأرشيف الباحثة اليمنية فاطمة البيضاني الزاوية التي أودعته في الدار أيضاً سنة 2015 بسبب عدم وجود مكان آمن له بعد اندلاع الحرب. أما لماذا هذا المعرض، فتتفق الباحثتان وجميع المشاركين في إقامته على أنهم استدعوا صور الأطفال ونظرات المصورين الخمسة "باعتبارها تميمة من أهوال الحرب الحالية وويلاتها".

اتفقت باحثتان فرنسيتان على إقامة معرض صور أرشيفية لأطفال اليمن يمتد تاريخها من سنة 1950 إلى الوقت الحاضر، ويقول القائمون عليه أنهم استدعوا صور الأطفال ونظرات المصورين الخمسة "باعتبارها تميمة من أهوال الحرب الحالية وويلاتها". وهذا اهتمام مختلف عن اهتمام قدامى المستشرقين باليمن، اهتمام ينطلق من أمنيات صادقة بانتهاء الحرب وتخفيف آثارها الكارثية عن الصغار والكبار.

  هي الحرب إذاً، من جعلت هاتين الباحثتين - ولا بد أن هناك غيرهما - تبديان اهتماماً مختلفاً عن اهتمام قدامى المستشرقين باليمن، اهتمام ينطلق من أمنيات صادقة بانتهاء الحرب وتخفيف آثارها الكارثية عن الصغار والكبار. 

______________________

1- د. محمد عيسى صالحية، "تغريب التراث العربي بين الدبلوماسية والتجارة- الحقبة اليمانية"- دار الحداثة 1985.
2- وضع بافقيه لكتابه عنوان "المستشرقون وآثار اليمن- قصة المستشرق السويدي الكونت كارلو دي لندبرج من خلال مراسلاته مع اليمنيين"، وأصدره مركز الدراسات والبحوث اليمني في مجلدين ضخمين سنة 1988.

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه