فتنة الجغرافيا لا تفارق باب المندب

مضيق باب المندب من أهم الممرات الملاحيّة على مستوى العالم، تتشارك فيه قارتا أفريقيا وآسيا، ويربط بين البحر الأحمر والمحيط الهنديّ والخليج العربيّ والقرن الأفريقيّ، وتمر عبره ناقلات بترول تمثل 40 في المئة من التجارة العالميّة في النفط. وهذا بذاته مؤشر على خطورته الجيوسياسية.
2023-03-02

صفاء عاشور

باحثة وصحافية من مصر


شارك
مضيق باب المندب

"موافقة مصر على الخطة الأمريكية التي طرحها كسنجر لا تعني تعهدها بفتح باب المندب للملاحة"، عبارة جاءت ضمن الأوراق السرية لوكالة الاستخبارات الأمريكية بتاريخ 3 تشرين الثاني / نوفمبر لعام 1973، وهي توثِّق غلق مصر باب المندب أمام ملاحة السفن المتجهة من وإلى إسرائيل - بمباركة الدول العربية، وذلك منذ الثانية ظهراً من بداية حرب التحرير في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973. وتلك كانت واحدة من أوراق الضغط القوية، التي شملت منع ناقلات البترول الآتية من إيران من الوصول إلى الدولة المحتلة.

يقول "مردخاي أبير" في ورقة (1) بحثية بعنوان "التوازن الاستراتيجي في شرم الشيخ وباب المندب" أنه "لم يكن من السهل على إسرائيل ترك شرم الشيخ، فاحتلالها يضمن توقف مضايقات القوات المصرية لملاحة السفن الإسرائيلية عبر مضيق جزيرة تيران وصولاً لميناء إيلات"، لكنّ غلق باب المندب كان بمثابة صدمة كبيرة أدت إلى إعادة إسرائيل لحساباتها، علماً بأن ميناء إيلات المذكور هو في الأساس أراضٍ مصرية - أم الرشراش - احتلتها إسرائيل لأهمية وجود ميناء لها على البحر الأحمر، ولم تتنازل عنها خلال سنوات التفاوض.

قصة غلق باب المندب إبّان حرب 1973 حكاها اللواء سمير فرج أيضاً (2)، مؤكداً أنّ أساس الفكرة كان إعاقة الملاحة الإسرائيلية بعيداً عن مدى الدفاع الجوي لدولة الاحتلال، لذلك استبعدت القيادة المصرية مضيق "تيران"، واختير باب المندب، وتمركزت القوات هناك مستهدِفة منع الملاحة الإسرائيلية فقط دون غيرها، بعد تأسيس شركة مدنية قبل بداية الحرب ببضعة أشهر باليمن. ونقل اللواء فرج عن الفريق عبد الغني الجمسي حديثه مع المشير أحمد إسماعيل على خلفية مفاوضات الكيلو 101: "يا فندم ده موضوع قفل باب المندب وجعهم قوي... طوال المناقشات كل شوية افتحوا باب المندب ... افتحوا باب المندب".

ومنذ ذلك التاريخ وإسرائيل تبذل جهودها لتحسين العلاقات مع الدول الأفريقية المطلة جغرافياً على باب المندب، حتى تضمن حضوراً قويّاً لها هناك. تشهد على ذلك قواعدها العسكرية في إريتريا، إحدى الدول المطلة على المضيق، وبالطبع تستمر في دفع الصراعات في اتجاه المضيق، حتى لا تعود السيطرة العربية إلى توافقها القديم.

لعنة الجغرافيا

ما سبق يكشف أهمية مضيق باب المندب الجيوسياسية الذي يعد واحداً من أهم الممرات الملاحية على مستوى العالم، تتشارك فيه قارتا أفريقيا وآسيا، ويربط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي والخليج العربي والقرن الأفريقي، وتمر عبره ناقلات بترول تمثل 40 في المئة من التجارة العالمية في النفط.

يتسع المضيق بمساحة 30 كيلومتراً، وتفصل جزيرة بريم - التابعة سيادياً لليمن - المضيق إلى قناتين، قناة صغيرة تعرف بباب الاسكندر، وأخرى متسعة تعرف بدقة المايون، وتتيح القناتان عبور السفن الضخمة وناقلات البترول في الاتجاهين. زادت أهمية المضيق بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط والمحيط الأطلسي، فأصبح الطريق الرئيسي لمرور التجارة بين أوروبا وجنوب شرق آسيا، بديلاً عن طريق رأس الرجاء الصالح.

المضيق ملعب مخابراتيّ وعسكريّ لدول عدة. نجد مثلاً أنّ دولة جيبوتي تتيح تأجير أراضيها للقواعد العسكريّة الأجنبيّة، التي بلغت ست قواعد، من بينها قاعدة للصين، وهي الوحيدة خارج الأراضي الصينيّة، وأقيمت في العام 2017، أي بعد أربع سنوات من إعلان الرئيس الصيني عن مبادرة "حزام واحد طريق واحد"، التي تعرف بطريق الحرير الجديد. بالطبع يمر طريق الحرير الجديد بباب المندب.

ويعتبر المضيق مياها إقليمية بالكامل لكلٍ من اليمن وإريتريا وجيبوتي، والدول الثلاث لم توقِّع اتفاقيات لترسيم الحدود فيما بينها، لذلك فالمضيق يخضع لاتفاقية الأمم المتحدة لترسيم البحار لعام 1982 والقوانين الدولية الأخرى. وأشار دكتور أيمن سلامة (3) أن اليمن لها السيادة بطول 12 ميلاً بحرياً، وهي بذلك تسيطر على "باب الاسكندر" وجزيرة "بريم"، وتشترك في إدارة المضيق إقليمياً في قناة دقة المايون.

مقالات ذات صلة

إن كانت اليمن هي الجهة الأساسية في حقوق الملاحة بالمضيق، إلا أن حالة عدم الاستقرار السياسي فيها تعطل هذه الصفة. يمكن تقسيم الأطراف المتصارعة على سيادة باب المندب إلى الكتلة الخليجية، ممثلة بالإمارات والسعودية وقطر وأطراف الصراع السياسي في اليمن، ثم مصر، التي تأتي بعد التكتل الخليجي لأهمية المضيق بالنسبة للملاحة في قناة السويس، إضافة إلى الصين، ثم روسيا وتركيا، وطبعاً دولة إيران، ثم أمريكا، وإسرائيل، بالإضافة إلى لاعبين آخرين أقل وهجاً كتركيا.

حرب بالوكالة

تسارعت وتيرة الصراع لبسط النفوذ على دولة اليمن، ومن ثم مضيق باب المندب، منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء نهاية عام 2014. بعد شهر من صدور قرار مجلس الأمن رقم 2201 لعام 2015 بتاريخ 15 شباط/ فبراير، أطلقت "قوات التحالف العربي" (4) الذي قادته السعودية عملية عسكرية واسعة في اليمن، عرفت بـ "عاصفة الحزم". هنا، ينبغي الإشارة إلى التاريخ الممتد لتدخلات السعودية في اليمن، منذ سقوط النظام الملكي - الدولة المتوكلية - وقيام الجمهورية عام 1962، مروراً بالحروب الأهلية والاقتتال الداخلي أعوام 1972، 1979، 1994.

قيادة السعودية للتحالف تمنحها دوراً رائداً في المنطقة، إضافة إلى تأمين حدودها الجنوبية مع اليمن، وكذلك تأمين شاحنات النفط العابرة من مضيق باب المندب، والتي سبق أن أوقفتها خلال عام 2018 بسبب التهديدات الحوثية.

منذ حرب 1973 وإسرائيل تبذل جهودها لتحسين العلاقات مع الدول الأفريقية المطلة جغرافياً على باب المندب، حتى تضمن حضوراً قوياً لها هناك. تشهد على ذلك قواعدها العسكرية في إريتريا، إحدى الدول المطلة على المضيق، وبالطبع تستمر في دفع الصراعات في اتجاه المضيق، حتى لا تعود السيطرة العربية إلى توافقها القديم.

الأطراف المتصارعة على سيادة باب المندب هي الكتلة الخليجية، ممثلةً بالسعودية والإمارات وقطر وأطراف الصراع في اليمن، ثم مصر التي تأتي بعد التكتل الخليجي لأهمية المضيق بالنسبة للملاحة في قناة السويس. وغلق باب المندب في 1973 دفع إسرائيل إلى إعادة حساباتها، علماً بأن ميناء إيلات هو في الأساس أراضٍ مصرية احتلتها إسرائيل لتأمين ميناء لها على البحر الأحمر. 

وتتفاعل الصراعات داخل اليمن مع تلك القائمة بين السعودية وإيران، فالأولى دعمت شرعية عبد ربه منصور هادي، والثانية دعمت الحوثيين، واستشعرت دول مجلس التعاون الخليجي الخطر خوفاً من بسط إيران نفوذها على مضيق باب المندب، ثاني ممر رئيسي لنقل النفط الخليجي، بعد بسط إيران نفوذها على الممر الأول: مضيق هرمز.

بنظرة سريعة على خريطة شبه الجزيرة العربية نجد أن الدول النفطية تمتلك ثلاث إطلالات ساحلية رئيسية، في الشمال الشرقي: الخليج العربي، وعند مدخله الجنوبي مضيق هرمز، فاصلاً بينه وبين خليج عُمان، وفي الغرب: البحر الأحمر، وفي نهايته باب المندب، أما في الجنوب فنجد المحيط الهندي، وهي حدود تعود بالكامل لدولة اليمن وسلطنة عُمان، ما يعني أن إبحار حاملات البترول الآتية من دول مثل الإمارات، قطر، البحرين، السعودية، مرهون بحرية الملاحة في مضيقي هرمز والمندب.

مصر تبدو مدفوعة للمشاركة في "التحالف العربي" بحكم الطبيعة الجغرافية التي تجعل من سلامة باب المندب عمقاً استراتيجياً لسلامة الملاحة في قناة السويس. وبين قناة السويس وباب المندب، تقع جزيرتا تيران وصنافير، اللتان شهدتا تنازل مصر عن سيادتها عليهما بعد ما يقرب العام من توجيه التحالف العربي ضربته لليمن. بدا هذا التنازل كصفقة لصالح السعودية وإطلالتها على البحر الأحمر، خاصة أن الجزيرتين تهمان الأمن البحري المصري، وكانتا من أوراق الضغط خلال الصراع المصري الإسرائيلي.

خلال كانون الأول/ ديسمبر 2022، أصدرت القوات المسلحة المصرية بياناً (5) تشير فيه إلى قيادة "قوة المهام المشتركة (153)" والمعنية بمكافحة أعمال التهريب والتصدي للأنشطة غير المشروعة، خاصة الأنشطة الإرهابية في مناطق البحر الأحمر - باب المندب - خليج عدن. و"القوة 153" تضم السعودية ومصر والإمارات والأردن والولايات المتحدة الأمريكية.

طريق الحرير الجديد

من ناحية الدول الأفريقية المطلة على باب المندب، نجد أن المضيق قد أصبح ملعباً مخابراتياً وعسكرياً لدول عدة. على سبيل المثال تتيح دولة جيبوتي تأجير أراضيها للقواعد العسكرية الأجنبية، والتي بلغت ستّ قواعد، من بينها قاعدة للصين، وهي القاعدة الوحيدة خارج الأراضي الصينية، ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 2017، أي بعد أربع سنوات من إعلان الرئيس الصيني عن مبادرة "حزام واحد طريق واحد"، التي باتت تعرف بطريق الحرير الجديد.

وتهدف المبادرة إلى الربط بين الصين وأوروبا ووسط آسيا والشرق الأوسط عبر أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، يشمل بناء طرقات وسكك حديدية ومناطق صناعية. على الرغم من أن المبادرة تبدو تنموية واقتصادية في المقام الأول، إلا أن الدراسات تتفق على أن الهدف الرئيسي منها هو زيادة نفوذ الصين الجيوسياسي، على مستوى الجغرافيا وعلى مستوى توزيع القوة والثروة أيضاً.

تهدف مبادرة "حزام واحد طريق واحد" إلى الربط بين الصين وأوروبا ووسط آسيا والشرق الأوسط عبر أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، يشمل بناء طرقات وسكك حديدية ومناطق صناعية. وتتفق الدراسات على أنّ الهدف الرئيسي من المبادرة هو زيادة نفوذ الصين الجيوسياسي، على مستوى الجغرافيا وعلى مستوى توزيع القوة والثروة أيضاً. 

بالطبع يمر طريق الحرير الجديد بباب المندب، وسبق أن وقّعت الصين مع حكومة الحوثيين اتفاقية عام 2019، لكن تفعيلها ليس بالأمر اليسير، وهو رهن باستعادة السيطرة على المضيق، الأمر المستبعد حالياً.

تبدو الصين كأخف الطامحين في باب المندب تضرراً. في المقابل كشفت التقارير والأحداث عن طموح غير محدود لدولة الإمارات المتحدة في السيطرة على المضيق، مشيعة فرضية محاولتها تعويض الجزر الثلاث التي احتلتها إيران عام 1971، وهي طنب الكبرى، طنب الصغرى، وأبو موسى، ما أدى إلى تقليص إطلالتها الساحلية على الخليج العربي، وضعف تحكمها بمضيق هرمز. وقد فشلت كافة التدخلات الدبلوماسية لاستعادتها، علماً بأن وجود الإمارات كقوة مسيطرة على باب المندب يطمئن إسرائيل، حليفها الذي تتنوع أوجه التعاون معه بمباركة واشنطن.

وعلى الرغم من إعلان الإمارات خفض عدد قواتها المتواجدة في اليمن عام 2019، إلا أن وكالة الأسوشيتد بريس نشرت تقريراً عام 2021 نقلته عنها صحف كالغارديان البريطانية (6) يشير إلى أنها حصلت على صور بالأقمار الصناعية يظهر فيها مدرج بطول 1.85 كيلومتر في جزيرة بيرم، إلى جانب ثلاث حظائر للطائرات. ونقلت الوكالة على لسان مسؤولين يمنيين أن تلك القاعدة ربما تكون لدولة الإمارات، فيما رفضت الأخيرة الرد.

لكن التحالف بقيادة السعودية أعلن في بيان له (7) أن تلك القاعدة تعود له، وجاء نصاً "ما يوجد من تجهيزات في جزيرة ميون – بيرم - هو تحت سيطرة قيادة التحالف ويخدم تمكين قوات الشرعية وقوات التحالف من التصدي لمليشيات الحوثي وتأمين الملاحة البحرية وإسناد قوات الساحل الغربي".

بالتوازي، تداولت وسائل الإعلام المحلية اليمنية خططاً لتهجير أهالي بريم لتحويلها بالكامل لقاعدة عسكرية لـ "التحالف العربي"، لكن دون رد من جانب التحالف أو توثيق من قبل الجانب اليمني، وهي السمة الغالبة على الاتهامات والشائعات المتبادَلة بين الطرفين.

مصر تبدو مدفوعة للمشاركة في "التحالف العربي" بحكم الطبيعة الجغرافية التي تجعل من سلامة باب المندب عمقاً استراتيجياً لسلامة الملاحة في قناة السويس. وبين قناة السويس وباب المندب تقع جزيرتا تيران وصنافير، وشهدتا تنازل مصر عن سيادتها عليهما بعد ما يقرب العام من توجيه التحالف العربي ضربته لليمن.

إيران على الجانب الآخر تأمل في بسط نفوذها على باب المندب عن طريق دعمها للحوثيين، الأمر الذي يضعها موضع الاتهام بنقل صراعاتها مع دول الخليج إلى مضيق باب المندب بعد الهيمنة على مضيق هرمز. ونقلت وسائل الإعلام تصريحات عام 2018 على لسان السفير الإيراني السابق لدى الأمم المتحدة صادق خرازي، تفيد بأن إيران توسّع من تواجد قواتها الأمنية في البحر الأبيض المتوسط وباب المندب.

بالطبع يبدو الأمر معقداً جداً، فالعوامل الجيوسياسية تتضافر لتجعل من استقرار اليمن أمراً يهدد مصالح الأطراف المتصارعة. لكن هناك دائماً حتمية تاريخية في التعاون العربي، كما قال الجغرافي المصري الراحل جمال حمدان: "إن القومية ليست أيديولوجية، ولكنها عنصر طبيعي كالتضاريس والجبال والأجناس، ومن معطيات الطبيعة وتحديداً الجغرافيا، وإن أبدت بعداً تاريخياً فهو بالضرورة جغرافي أصلاً" . 

______________________

1 - Sharm al-Sheikh - Bab al-Mandeb: The Strategic Balance and Israel's Southern Approaches
Citation, Abir M. Sharm, Jerusalem Papers on Peace Problems, 1974.
https://cutt.us/4jjVm
2 - 10 رمضان وقصة إغلاق مضيق باب المندب، اللواء سمير فرج، جريدة الأهرام، العدد 49430، عام 2022 https://cutt.us/pDTCW
3 - قواعد القانون الدولي الحاكمة للملاحة في المضايق، دكتور أيمن سلامة أستاذ القانون العام بأكاديمية ناصر العسكرية، مجلة أراء، العدد127 ،
https://cutt.us/w2X1g
4 - وتضم دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى مصر والأردن والسودان والمغرب.
5 - بيان نشر على موقع القوات المسلحة، كانون الاول/ ديسمبر2022
https://2u.pw/2ZcjXw
6 - مقال نشر بالغارديان البريطانية نقلاً عن الأسوشيتد برس
https://cutt.us/jfAEi
7 - نشر بوكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس)، أيار/ مايو 2022
https://cutt.us/lwJE7

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه