الحبوبي النجفي ابن الناصرية!

لا يخفى عن أعين العابر في مدينة الناصرية العراقية، تمثال الشاعر النجفي الشهير "الحبوبي". يتوسط بهيبة شارعاً يكنّى باسمه. فالمدينة التي تشبه ديواناً محتشداً بالقصائد، يُعرَف عنها أنها متعصبة لشعرائها، كما أنّ شعراءها متعصبون لناصريتهم. أما "الحبوبي" فهو حكاية أخرى، خطفته الناصرية من نجفه، كأنها تريد أن تقول إنه ابنها الذي لم تلده.
2016-06-15

عاصم ترحيني

كاتب ومهندس من لبنان مقيم في ألمانيا


شارك
تمثال الشاعر "الحبوبي" النجفي في الناصرية

لا يخفى عن أعين العابر في مدينة الناصرية العراقية، تمثال الشاعر النجفي الشهير "الحبوبي". يتوسط بهيبة شارعاً يكنّى باسمه. فالمدينة التي تشبه ديواناً محتشداً بالقصائد، يُعرَف عنها أنها متعصبة لشعرائها، كما أنّ شعراءها متعصبون لناصريتهم. أما "الحبوبي" فهو حكاية أخرى، خطفته الناصرية من نجفه، كأنها تريد أن تقول إنه ابنها الذي لم تلده.
والناصرية، كما العراق بأغلبه، تشتهر باحتفائها وفخرها واحترامها للشعر والشاعر. الشعر انعكاس لمزاج العراقي في المرآة، هو الذي ينْظم إيقاع جلساته حين يحتد ويغضب، ثم يتحسّر على الماضي فيبكي ويلطم، ثم يفيض حباً وأملاً بالمستقبل. وكما العراقي لا تكتمل عراقيته إلا بقرض الشعر، هكذا هو الناصري، لا تلتئم في مدينته الأماسي وحلقات النقاش والسمر وحتى الاحتفالات بلا شعر وغزل وقفز بين القوافي والبحور.
وللشخصية الناصرية خاصية تميزها، هي هويتها الثقافية التي تشكلت عبر تاريخ طويل من الحضارات التي بنت البشر قبل الحجر. فالناصرية كانت شاهدة على بناء "أريدو" أولى مدن التاريخ، التي نشأت فيها الحضارة السومرية، فعرفت الحضرية والمدنية وكتبت الملاحم والقصص والشعر والقوانين.
وفي التاريخ الحديث، شهدت الناصرية تحالف "المنتفگ" الذي دافع عن هوية جنوب العراق المتنوعة والغنية ضد غزوات العثمانيين والفرس وممالك عربستان وآل الرشيد في نجد. كما عرفت ناحية "سوق الشيوخ" مهرجاناً شعريّاً دائماً، هو النّسخة العراقية عن سوق عكاظ، حيث كان وما زال يتنافس الشعراء في نظم الشعر الشعبي العراقي بألوانه المختلفة. والناصرية فوق هذا كله ثائرة، كانت منطلقا لثورة العشرين ضد المستعمر الإنكليزي والانتفاضة الشعبانية على النظام البعثي في أهوارها في 1991.
ولهذا فالناصرية قاموس محيط لمعاني الشخصية العراقية، المثقفة، الحضرية، المنفتحة، الفخورة بهويتها الوطنية، والثائرة الغيورة التي ترفض الذلّ والهوان. وهي تختصر كل هذه الصفات في القصيدة. لذا لن تجد أحداً من أبنائها لا يقرض الشعر أو يقترضه أحيانا، رحْمها مصنع شعراء، وكأن الشعر يومئ لناظميه صوب الناصرية: اذهبوا إلى هناك، أو حتى كونوا من هناك لأعترف بكم.
العلّامة السيد محمد سعيد الحبوبي، شاعر نجفي، ولد وعاش في النجف، ولم يذهب إلى الناصرية بل هي التي أتت إليه. لم تستطع أن تتعامى عن موهبته وشخصيته الاستثنائية، فأخذته إليها.
كسر الحبوبي بيت القصيدة الناصرية، فكان استثناءها. فاخرت به كأحد أعلامها، منذ جاء إليها في العام 1914 لتحشيد العشائر، بعد صدور فتوى الجهاد في النّجف ضد القوات الإنكليزية التي عسكرت في الفاو في جنوب البصرة، فقاتل والعشائر وقتها إلى جانب القوات العثمانية.
لم يكن الحبوبي شاعراً وثائراً فقط، وهذا ما أغرى الناصرية في خطفه إليها. كان فقيهاً غير تقليدي، من أسرة دينية نجفية معروفة، وزميلا للمفكّر الإسلامي المتنور السيد جمال الدين الأفغاني. كان خلطة زكية وذكيّة من مجموعة مكونات هي غير متجانسة في العادة، لكنّ روحه التّوّاقة الواسعة، وسَعَتْ لها كلها، وقولبتها في شخصية فريدة جاذبة. فإضافة إلى شهرته كفقيه وعلامة، لم يتوانَ عن مخالطة العوام والإصغاء إلى شكواهم وهمومهم. لكن رجالات الحوزة التقليديين لم يتقبلوا جموحه وتحرره المحرج، لذلك ترتاح الحوزة حين يعرّف عنه بالشعر لا بالفقه. أمّا هو، فكان مربط خيله الشعر ومن الشعر ذهب إلى الثورة. الشعر علمه الثورة، الثورة على التقليد أوّلا ثمّ الثّورة على المستعمر لاحقا.
والفقيه النجفي نظم قصائد كثيرة في الغزل والخمريات والحب، وصار صديقا لكل شعراء عصره. ولأنّ شعره كان رشيقا سلسا رقيقا، استهوى ملحنين كثرا، فتحولت قصائده إلى أغانٍ أدّاها أشهر مغنّي تلك الحقبة، منها "يا غزال الكرخ":
 

يا غزال الكرخ واوجدي عليك                    كاد سري فيك أن يُنتَهكا
هذه الصهباء والكأسُ لديك                        وغرامي في هواك إحتَنكا
فاسقني كأساً وخُذْ كأساً إليك                    فلذيذ ُ العيش أن نشتركا
 

بعدما ضاقت به الحوزة الدّينية، وبعدما نفد صبرها منه، قرر هجرها وقررت هجره. وبينما فضلت هي الاستغراق في تفصيل أحكام الطّهارة والنجاسة، حلّق هو ومشايخ العشائر العراقية في فضاء تطهير البلاد من رجس المحتل، ملبياً دعوة الجهاد لتحرير العراق، قائدا المتطوعين من النجف والحلّة والكوفة والرميثة والناصرية والشعيبة.
ليس غريبا ألّا يحتفى بالحبوبي في نجفه أو يُذْكر، ربّما كان صفحة من تاريخها لا فائدة من قراءتها، أمّا الناصرية، فحساباتها مختلفة تماما، ولا علاقة لها بالفقه ورضا المرجعية أو غضبها، ولا بالثورة وهزيمتها. حساباتها تتعلق بالقصيدة. كل بيت نظمه الحبوبي هو بالنسبة للناصرية وما تمثله، عمارة من الشغف والرقة والحساسية التي يحتاجها العراق اليوم ليتغلب على القسوة المحيطة به..
سيرة حياة السيد الحبوبي نموذجاً للمثقف العضوي (حسب غرامشي!)، الذي عاش حياته شاعراً وعاشقاً وثائراً وجزءا لا يتجزأ من هموم الشعب وأحلامه، وأخرج الشخصية النجفية النخبوية من انغلاقها إلى المشهد الشعبي، المطلبي والوطني.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

مراثي المدن

أترى ما زالت ورود شرفتنا خضراء؟ هل نجت مكتبتنا وصورنا ومقتنياتنا الخاصة العزيزة وذكرياتنا، من حقد الغارات التي استهدفت الحي من كل الجهات؟ يخصني "رائف" بعناق طويل. حمل "رائف" غيتاره...

عمارة كروغسون... فلينسبرغ

أكمل كل منّا ذكرياته، متنقلين ما بين مساقط رؤوسنا وأفئدتنا، شمال الجليل وجنوبه. هو يحدثني عن شاطئ حيفا وحي الألمانية، والمعارك اليومية ضد الاحتلال والماشتاب والمستعربين والمتعبرنين والتهويد والعنصرية، وأنا...

يسقط كل شيء

يوماً ما كتبتْ كفرنبل السورية "يسقط كل شيء". واليوم من بغداد إلى بيروت، تهتف حناجر الشرق الجديد الذي سنعبر إليه: يا حراس الهيكل وديكتاتوريات العصور الوسطى، يا حكم الأوليغارشية والتبعية...