إعداد وتحرير: صباح جلّول
الفكرة بغاية البساطة: الإيمان بوجود طاقةٍ إبداعية كامِنة داخل الإنسان، كلّ إنسان. هوَ المنطلَق الذي بدأ منه المهندس المعماري المصري رمسيس ويصا واصف مشروعه المثير للإعجاب عام 1952 في قرية تُدعى الحرّانية في محافظة الجيزة بمصر. آمن بـ"فطرية" الإبداع كطاقة غالباً ما تبقى غير مستكشَفة بشكلٍ وافٍ في أعماق كل منا، وتظلّ بالتالي غير مترجَمة على الأرض. كانت "نظريّته" تستوجب التجربة والبرهان، فاشترى أرضاً خالية اختارها عن قصدٍ في قرية زراعية بالكامل، هي الحرّانية، لم تنخرط بالأشغال الحرفية واليدوية ولا لها تاريخ في صناعة النسيج، وأسس فيها "مركز الفنون المحلية" أو "مركز رمسيس ويصا واصف لصناعة النسيج والسجاد اليدوي". وقد شغل واصف منصب رئيس قسم العمارة في كلية الفنون الجميلة في جامعة القاهرة إلى حين وفاته عام 1974.
تقول القصة الملهمة أنه بدأ باستقبال 14 طفلاً أمّياً من القرية، تجمعهم الرغبة بالتعلّم، فأبدوا فضولاً كبيراً عندما اقترح عليهم التعرف إلى فن النسيج، وصاروا يتعلّمون دون تلويح بالعقاب أو بالعلامات الراسبة، دون امتحانات تثير الفزع في النفوس الطريّة ولا إشارة إلى الأخطاء كأنها "جرائم خطيرة". يتعلّمون بالتجربة، بأيديهم، فيصنعون مشاهد غالباً ما تعكس الحياة في الريف والمناظر الطبيعية المحلّية وعلاقة المزارعين بالأرض والمواشي أو تنسج زهوراً ونباتات تزيينية.
"الكليم اليدوي".. صناعة تنهار في مصر
08-04-2022
كبرت رحلتهم من مدرسة بسيطة لتعلم الحرفة إلى أن يصيروا فنانين محترِفين لصنعتهم يجوبون بأعمالهم الفريدة دول العالم، ويورِّثون الصنعة لأبنائهم، ويحيون متحفاً دائم التجدد في قريتهم، تعمل فيه النساء بشكل خاص، ويعتنين بكل تفصيلاته من استخراج الألوان من نباتات خاصة تُزرع في القرية، إلى صبغ الخيطان والنسج على النول وتصميم لوحات النسيج. وكانت أعمال "الرعيل الأول" من الفنانين النسّاجين على قدر من الأهمية والاحترافية حفّز متاحف ومعارض فنية حول العالم لعرضها واقتناء بعضها لمجموعاتها الدائمة أيضاً.
ورمسيس ويصا واصف هو من الداعين إلى فلسفةٍ معمارية تُعامل العلاقة بين الإنسان والطبيعة وعوامل المناخ والأرض بكثير من الجدية، وتوليها اعتباراً خاصاً كمنظّم للأطر الفنية والمعمارية التي يعمل في مساحتها، لأن تلك العلاقة تحدد جودة حياة الإنسان ضمنها وترتبط باستدامة الحياة نفسها. وكانت صداقته الوثيقة بالمعماري المصري الشهير حسن فتحي مبنية على أسس اشتراكهما في تلك المبادئ والتأثر بها، حتى أن ويصا واصف استعان ببنّائين رشحهم له حسن فتحي لتعمير مركزه في الحرانية وتصميم بيوت في القرية للأهالي الراغبين بالبناء على أراضيهم، وتلك تميزت باستخدام الطين المجفف ومواد الأرض نفسها، وبعناصر معمارية كالقبب والأقبية والمشربيّات والقناطر، مستلهماً العمارة الفرعونية إلى القبطية والإسلامية بأساليب معاصرة.
ولعلّ الخطيئة الأكبر بالنسبة لواصف وفتحي كانت الاستسلام للمكننة على مستوى الفن والهندسة وسائر مجالات الحياة، بما فيها من استسهال، مع إغفال تلك الطاقة الإبداعية الفطرية التي سعى جاهداً إلى إثبات وجودها وقدرتها في أكثر الأماكن فقراً أو طرَفيّة، وحتى حيث لا تتوفر إمكانات علمية وافية.
تبدو صور مركز النسيج على النول مبهجة تعكس افتخار النساء والرجال بعملهم المتقن، في معرفتهم بأن عملهم فريد، يزهون بكونه لا يكرر اللوحة المنسوجة نفسها مرتين، فكلّ من المنسوجات تحفة مميزة لا "نسخة طبق الأصل" عنها. عشرات منهم يبقون الحرفة حيّة اليوم، بمواد طبيعية يحضّرونها بأنفسهم من الألف إلى الياء. لا شيء مستورَد أو جاهز أو ممكنن أو مصنوع للتلف السريع، فالاستدامة لم تعد مجرد مفهومٍ يتم التنظير له، لكنها دخلت في منطق الحياة فصارت ممارسة تلقائية لدى النسّاجات والنسَّاجين.