شهدت مدينة حلب، عقب هزيمة حزيران/يونيو، ظاهرة مسرحية متميزة عُرفت باسم "مسرح الشعب"، أسسته بلدية حلب عام 1968 بجهود مشتركة من أدباء وفناني المدينة، وبقرار جريء من محافظها، تجاوز فيه مركزية العاصمة، وبيروقراطية وزارة الثقافة، وعدم رغبتها في تقديم أيّ دعم أو تشجيع لفناني حلب، ولاسيما أنّ القرار الذي أصدرته عام 1967 في إنشاء مسرح للتمثيل يدعى "مسرح حلب القومي يرتبط بالمركز الثقافي العربي في المدينة، ويكون تابعاً لمسارح الوزارة وفرقها الفنية".. بقي حبراً على ورق. جاء نشوء مسرح الشعب كرد فعل على مأساة الهزيمة، فالوطن الكبير فقد في ستة أيام سيناء وقطاع غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية والجولان. وجاء أيضاً تلبية لاستمرارية المدينة في تطوير حركتها المسرحية، والبحث عن أسئلتها المصيرية في واقع سياسي مأزوم.
أحد عروض مسرح الشعب بحلب (من صفحة عبد الوهاب جراح على فايسبوك)
قدّم "مسرح الشعب" أغلب عروضه على مسرح " الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية" في حيّ العزيزية الشهير، الذي يحتوي على العديد من الكنائس والأديرة.. كنيسة اللاتين، كنيسة الملاك ميخائيل، دير الآباء اليسوعيين..، كما على العديد من المدارس الرهبانية التي تركت تأثيراتها التعليمية على أجيال كثيرة قبل أن تستولي عليها الدولة عام 1967، بحجة تأميم التعليم، ومن أبرزها مدرسة القديسة كاترينا (ثانوية القدس حالياً)، ومدرسة جان دارك لراهبات القديس يوسف (ثانوية المحبة حالياً). يتميز هذا الحيّ بأبنيته وقصوره الأثرية التي هُدم بعضها، وما يزال بعضها الأخر يقاوم انفلات تجّار البناء وصفقاتهم المشبوهة مع مسئولي المدينة. كان الحلبيون من سكان الحيّ ومن القادمين لحضور العروض من أحياء المدينة (الجميلية، السبيل، سيف الدولة، السليمانية.." يطلقون تسميات عديدة على موقع المسرح: طلعة جبل النهر، حارة الدرجات، شارع المشفى الإيطالي... في عام 1973، ولأسباب مالية انتقل ليقدم عروضه على مسرح صغير في "المركز الثقافي العربي" بحيّ العزيزية أيضأ.
استمرت ظاهرة مسرح الشعب ثماني سنوات (1976-1968). فبدايته جاءت بعد قرابة عام ونصف من هزيمة حزيران، ونهايته وقعت قبل سنوات قليلة من اندلاع ما عرف بأحداث الإخوان المسلمين بحلب. خلال تلك السنوات، قدّم ما يقارب ست عشرة مسرحية لكتّاب أجانب (بريخت، دورينمات، تشيخوف...) وعرب (ألفريد فرج، علي سالم، أحمد الطيب العلج، معين بسيسو، وليد إخلاصي...) ، بما يقارب مسرحيتين كل عام. لكنها كلها ليست مصوّرة، فلم يبق منها إلا ألق نصوصها، وتلك الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، وتلك الأيام المسكونة في ذاكرة عائلات وشباب وصبايا (وقتها!)، شاهدوا العروض وتفاعلوا معها وصفقوا كثيراً.
حلب تبحث عن مسرحها
تابع الحلبيون عروض مسرح الشعب بحماس واهتمام. فأغلب النصوص المتنوعة التي قدّمها (هبط الملاك في بابل، السيد بونتيلا وتابعه ماتي، كيف تصعد دون أن تقع..)، استطاعت أن تستقطب شرائح اجتماعية كثيرة، ولاسيما طلبة جامعة حلب من أبناء المدينة ومن الوافدين إليها من المحافظات السورية، كما استطاعت أن تطرح العديد من القضايا التي أثارتها هزيمة حزيران، من نواحي علاقة الشعب بالسلطة وعلاقته بالأرض ورغبته بالتغيير، ودور الشعب ومسؤولياته.. ولكن دون بكائيات أو أدلجة. كما أنّ أغلبها كسرت الجدار الوهمي بين الممثلين والجمهور، فتفاعل معها لعلّه يكتشف طريقاً جديداً. وكأنّ خشبة ذلك المسرح المهجور الآن، في حيّ العزيزية حاولت أن تعثر على الأجوبة التي تجاوزت تبريرات حكومتي القاهرة ودمشق للهزيمة. ولعله لو استمر في محنة أحداث الإخوان المسلمين (1982-1979)، لساعد ربما في محاولة الخروج من أزمات البلاد السياسية وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية، والبحث عن الصيغ المشتركة بين مختلف مكوناتها التي تتصارع الآن. ألم يتذكر اليوم جمهور واسع من الحلبيين عروض مسرحية "مأساة جيفارا"، في سبعينيات القرن الماضي للكاتب الفلسطيني معين بسيسو، والتي تحولت إلى أيقونة مقدسة في ذاكرتهم تمجد قيم الثورة والحرية ضد الظلم والاستبداد، وإن باعدت المسافات بين بوليفيا وسوريا؟ ألم يتذكروا عروض مسرحية "سمك عسير الهضم " للكاتب الغواتيمالي مانويل جاليتش، وهم يحلمون اليوم بمجتمع سوري إنساني تسوده مبادئ المساواة والسلام؟
أحد عروض مسرح الشعب بحلب (من صفحة عبد الوهاب جراح على فايسبوك)
لا ترفع الستارة
ما تزال أسباب التوقف المفاجئ لهذه الظاهرة المسرحية في عام 1976 غير واضحة، والتفسيرات غير مقنعة. فالرأي السائد أنّ وزارة الثقافة بدمشق أرادت أن تحتوي هذه الظاهرة الناجحة عبر ضم بعض كوادرها الفنية إلى المسرح القومي بحلب الذي قررت تأسيسه، وبمعنى آخر أرادت توقيفها، خاصة أنّ تلك الظاهرة بدأت تنتشر في بعض المدن السورية، كمدينة حمص مثلاً. أما نشاط مسرح "الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية"، فاقتصر على تقديم العروض المسرحية والأمسيات الموسيقية والغنائية لبعض الفرق الأرمنية المحلية كما اقتصر على إقامة المحاضرات والندوات التي تتناول الحياة الفنية والأدبية في المدينة.
تراجعت الحركة المسرحية بعد توقف مسرح الشعب كما تراجع دور بلدية حلب في دعم الحركة الثقافية والفنية. ويشعر اليوم من عاصر مسرح الشعب وصخب عروضه ونجاحات مخرجيه (حسين إدلبي، بشار القاضي، كريكور كلش، فواز الساجر، محمود خضور)، وجلجلة أصوات ممثليه (أديب قدورة، عبد الوهاب جرّاح، هدى ركبي، رضوان عقيلي، سعاد عمر، أحمد حداد، فاتن شاهين، نديم شراباتي...)، أن يتساءل بمرارة عمن أسدل الستارة وشرّد الشعب وأغلق مسرحه؟