"ماتت أمي ومات معها كل شيء". ست كلمات فقط كتبها أسامة أحمد حماد، 11 عاماً وتلميذ بالصف الخامس الإبتدائي بقرية صغيرة في بلدة الشيخ زويد شمال سيناء، فأصبحت خبراً رئيسياً وهاماً في وسائل الإعلام المكتوبة والإلكترونية وعلى الفضائيات.. أي تحوّلت إلى قضية رأي عام..
بدأت القصة بصورة لورقة إجابة أسامة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي لم يكتب فيها غير هذه الكلمات الست، كإجابة على سؤال التعبير فى مادة اللغة العربية لامتحانات آخر العام. وكان المطلوب كتابة موضوع إنشاء لا تقل أسطره عن عشرة سطور عن دور الأم وأهميته، ولكن هذه الكلمات الست وضعت مدرّسي المدرسة في حيرة كبيرة حول ماذا يفعلون مع الطالب، وقرروا بدورهم إشراك الرأي العام معهم، فتحولت كلمات أسامة من مجرّد التعاطف الإنساني معه لوفاة والدته في حادث إرهابي (في منطقة شمال سيناء)، إلى قضية تعليمية فى المقام الأوّل واجتماعية واقتصادية بعد ذلك.
تسريب الإجابة من قبل المدرسين لم يكن القصد منه فضح الطالب أو إلقاء الضوء على أوضاع أسامة وأسرته، وإنما كان القصد التساؤل حول كيفية التعامل التعليمي معه وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب وأدواته (الدرجات)، لأنه طبقاً لكتاب التعليمات الذي تصدره وزارة التعليم ونموذج الإجابة الموحد (وهو المؤشر العلمي للمصححين)، فإن من لم يكتب الحد الأدنى لعدد السطور المطلوبة فى موضوعات التعبير والإنشاء لا يحصل على الدرجة ولو حتى في حدّها الأدنى، ويحصل على صفر أو أعلى قليلاً. وبمقتضاه، سيحصل التلميذ أسامة على صفر. ولكن، من ناحية أخرى وبعيداً عن العوامل الإنسانية والتعاطف مع التلميذ، فالست كلمات للطالب تعكس (بجانب النضج المبكر) إجابة واضحة وشاملة وتامة على السؤال المطلوب الكتابة عنه، كما أنها تعكس قدرات ومواهب الطالب في التعبير والتلخيص الصحيح في أقل عدد ممكن من الكلمات، وبدون أخطاء إملائية أو نحوية، مما يشير إلى الذكاء والفهم العميق من التلميذ، ومهارات لديه في التوظيف الصحيح للغة في الإجابة عن السؤال والتعبير بوضوح شديد، حتى لو كان ذلك لن يمكنه من الحصول على الدرجات النهائية فى الإمتحان.
نموذج الإجابة الموحّد
بعد نشر ورقة إجابة الطالب، تحولت وسائل الإعلام إلى منتدى تعليمي وتربوي، وأشار خبراء التربية إلى أن نظامنا التعليمي واعتماده على مبدأ الحفظ والتلقين ثم وضع الدرجات وفق نموذج "الإجابة النموذجية" المعتمد من المسؤولين، أدى إلى تنميط الطلاب فى شكل وطريقة واحدة فقط، كما أدى أيضاً إلى ارتفاع غير مبرر وغير مسبوق في مجموع درجات الطلاب، تعكسه علاماتهم في شهادة الثانوية العامة (البكالوريا) حيث حصل الأوائل على الدرجات النهائية بما فيهم الدرجة الكاملة في اللغة العربية التي تتضمن أسئلة للتعبير والإنشاء. ولذلك اقترح الخبراء مع وصول موعد امتحانات شهادة البكالوريا، ضرورة تغيير قواعد التصحيح والكتاب الدوري الذي ينظم أعماله، بحيث يتم إلغاء نموذج الإجابة الموحد خاصة فى المواد الدراسية التى تتطلب رأياً وفهماً وإبداعاً، وعلى رأسها مادة التعبير والإنشاء والفلسفة وعلم النفس.. وعلى أن تترك كما هي مؤقتاً في المواد العلمية مثل الرياضيات والفيزياء واللغة العربية في الجزء الخاص بالنحو والقواعد وإعراب الكلمات.. إذ لا يمكن تطبيق نموذج الإجابة الموحّد على الأسئلة التي تحتمل الرأي أو تكشف عن قدر من الموهبة والإبتكار.
ولأن القضية أصبحت قضية رأي عام، دخلت وزارة التعليم على الخط وقررت مديرية التربية والتعليم فى سيناء منح الطالب أسامه 11 درجة من 14 لسؤال التعبير والإنشاء، وكسرت القواعد المقرّرة وتمّ وصف الكلمات الستّ بالبلاغة الشديدة، وقررت تكريمه.
الظروف القاهرة
ولكن المفاجأة كانت أن التلميذ أسامة حماد لم يذهب لمقابلة كبار المسؤولين (وعلى رأسهم محافظ شمال سيناء) في الموعد المحدد لتكريمه، وغاب تماماً. وبالسؤال عنه تكشفت أسباب أخرى جعلت قصته تستمر على مائدة الحوار والنقاش. اكتشفت وزارة التعليم أن التلميذ يعمل باليومية كعامل زراعي ويتقاضى أجر أقل من دولارين يومياً. وبسبب حرصه على أجر اليومية، فضّلها عن التكريم والتقاط الصور الاحتفالية. وكشف مدرّسوه عن التزام الطالب بالحضور إلى المدرسة يومياً وشهدوا بذكائه رغم أنه كان يعمل بالزراعة عقب المدرسة وانتهائه من عمل واجباته بالمدرسة، وأن لديه 8 أخوة، ووالده مريض، ويعيش في منزل مبنى أجزاء منه من الصفيح.. ورغم ذلك قالوا "أن طموحه أن يتمكن من مواصلة تعليمه حتى يتخرج".
والسؤال المتداول والمطروح: إذا كانت المجانية قد سمحت حتى الآن لأسامة بالإلتحاق بالمدرسة وإثبات نبوغه فى اللغة مبكراً رغم عمله بالحقول، فهل ستتوفر المدرسة الثانوية العامة المجانية القريبة من قريتة الحدودية ليستطيع مواصلة مشوار التعلم حتى الجامعة؟ لا سيّما وأن لغة الأرقام التي يعكسها التقرير الرسمي الأخير لجهاز الإحصاء المصري توضح بأن 18.5 في المئة فقط من القرى المصرية بها مدارس عامة ثانوية، في حين تصل النسبة للمدارس الحكومية الابتدائية إلى حوالي 94 في المئة، وهو ما يمثّل عائقاً كبيراً أمام أسامة وأمثاله من التلاميذ للالتحاق بالثانويات فالجامعات. كما يوضح التقرير أن أكثر من 60 في المئة من التلاميذ في مصر يلتحقون بالمدارس الثانوية الفنية التي لا تؤهل إلا نسبة أقل من 10 في المئة منهم للالتحاق ببعض الكليات والتخصصات، حيث يعتبر التعليم الثانوي العام مكلفاً في مصر نظراً لارتفاع فاتورة الدروس الخصوصية ومحدودية الأماكن بالجامعات، وهو ما يجعل فقراء مصر يُلحِقون أولادهم بالتعليم الفني الأرخص تكلفة، وهو بالفعل الذي التحق به الشقيق الأكبر لأسامة.
هنا تطرح نادية جمال، الأستاذ بمعهد البحوث التربوية سؤالاً عمّا يمكن للتلميذ أسامة ــ في ظلّ الأوضاع التعليمية الحالية والهجوم المستمر على المجانية ومحاولة تقليصها كما في مشاريع الحكومة الحالية ــ أن يفعل ليصل إلى التعليم الثانوي والجامعي ليكون مثل نموذج صادق خان الذى فاز مؤخراً بمنصب العمدة المنتخب لمدينة لندن الانجليزية، وكانت ظروفه الاجتماعية مشابهة، فكلاهما من أسرة فقيرة كبيرة العدد ويعمل منذ الصغر لمعاونتها.. فهل النظام التعليمي لدينا يمكن أن يساعد أسامة ليكون مفكراً أو صحافياً أو أديباً.. بدلالة موهبته الفطرية.