بعد واحد وعشرين عاماً من استلامها طلبَ الحكومة اليمنية، أقرّت منظمة "اليونسكو" للتربية والعلم والثقافة ـ في دورتها الـ 18 الاستثنائية، المنعقدة في 25 كانون الثاني/ يناير 2023ـ إدراجَ "آثار مملكة سبأ"، في قائمة التراث العالمي.
إقليم سبأ: جوهرة بيد فحّام
30-07-2014
المصادر التاريخية تشير إلى أن انهيار مملكة "مَعين" اليمنية القديمة أعقبَه قيام مملكة "سبأ" (850 ــ 115 ق.م)، التي سميت باسم مؤسسها الأول "عبد شمس سبأ بن يشجب بن يعرب". كانت عاصمتها مدينة "مأرب"، التي تبعد 192 كيلو متر عن صنعاء شرقاً. حيث بُنِيَت هذه المدينة ـ في العصر القديم ـ وفقاً لمعطيات تؤهّلها لأن تكون نقطة ارتكاز تجارية، ومحطة استراحة لقوافل التجارة اليمنية التي كان على متْنِها يتم تصدير المنتجات اليمنية الزراعية والصناعية، وبذلك كانت "مأرب" مركزاً ثقافياً وحضارياً، احتفظ التاريخ بآثارٍ منها في أبنية المعابد والسدود والمقابر الأثرية التي ما زالت شاهدة على ازدهارها إلى اليوم.
معبد "برآن"
يقع معبد "برآن"، على مسافة 2 كيلومتر إلى الجنوب الشرقي من مدينة "مأرب"، ويعود تاريخ بنائه إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام تقريباً. يضم ستة أعمدة حجرية متجانسة، يتجاوز طول كل واحد منها 8 أمتار، خمسة منها لم يصبْها أذى، وعمود واحد مكسور. وفي داخل المعبد كثيرٌ من النقوش اليمنية القديمة، المنقوشة على أحجار ضخمة.
معبد "أُوَام"
على بعد نحو 3 كيلومتر من معبد "برآن"، يقع معبد "أوام"، الذي كان يُعدّ أكبر معبد يمني، يحجُّ الناس إليه في مواقيت معينة من السنة. وعلى جهة الحدس والتكَهّن، يذهب كثير من المؤرخين والمستشرقين إلى أن تاريخ بنائه يرجع إلى ما بين القرن الثالث والخامس قبل الميلاد. أما الباحث "ويندل فيليبس"، فيرى أن بناءه يعود إلى القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد. ويبلغ قُطْر المعبد حوالي ألف قدم، أما طوله فيبلغ من إحدى جهاته 375 قدماً، ومن الجهة الأخرى 250 قدماً، وتبلغ مساحة قاعدته 57×52 قدماً مربعاً.
يشتمل المعبد "على عدة مربعات أقيم بينها 32 عموداً (دعامة) يبلغ طول الواحد منها 27 قدماً في عرض 82 ستم وسمك 60 ستم". ولا تزال ثمانية أعمدة منها قائمة حتى اليوم. وهو المعبد الذي كان البروفيسور الكندي "بيل جلانزمان" قد وصفَهُ بأنه مؤهل لأن يصبح أعجوبة الدنيا الثامنة لثرائه بالنقوش اليمنية القديمة، ولما فيه من هندسة معمارية بديعة.
معبد مدينة "صِرواح"
تقع مدينة "صرواح" الأثرية على بعد 142 كيلومتر شرقي صنعاء، وعلى مسافة 50 كيلومتر إلى الشمال الغربي من مدينة "مأرب". ويرجع تاريخ بناء معبدها ـ المُسمى باسمها ـ إلى القرن العاشر قبل الميلاد، تشتمل قاعدته على 10 أو 12 عموداً، لا شيء منها ـ حالياً ـ سوى بقاياها، أغلبها منقوشٌ بالخط المسند، الذي نُقشت به جوانبُ صخرة مستطيلة من "البلق" الناصع، وسط هذا المعبد. وأهمُّ مَن عني بتحقيق آثار معبد مدينة "صرواح" هو الرحالة "جلازر"، الذي قال عنه بأنه مُشيّد بالمرمر الأبيض المنحوت نحتاً جميلاً، وأنه محاطٌ بسور خارجي من المرمر أيضاً، يبلغ سمكه مترين ونصف، لا يزيد الباقي منه على مِتر ونصف المتر، أما أجزاء الحائط فقد انهارت.
"سَدّ مأرب"
يعود تاريخ بناء "سد مأرب"، إلى القرن الثامن قبل الميلاد. وقد بُني بطريقة هندسية نادرة، ذات تقسيماتٍ فنية ومهارة فائقة. كانت الغاية الرئيسة من بنائه هي تلبية الاحتياجات المائية للمنطقة. كما كان تشييده بأحجار "البلق" ذات القطع الهائل والنحت الفني الدقيق.
وتعرض السّد للتصدع ثلاث مرات في تاريخه، كان يعاد إصلاحه في كل واحدة منها، وانهار بشكل نهائي غير قابلٍ للإصلاح في القرن السادس الميلادي، بعدما اجتاحه سيل "العرم"، الذي وردت الإشارات إليه في التدوينات التاريخية والدينية.
التراث المُهدّد بالخطر
موقع "آثار مملكة سبأ" هو الموقع اليمني الخامس في قائمة التراث العالمي، حيث سبق وأن أدرجت منظمة "اليونسكو":مدينة "شبام" القديمة وسورها عام 1982، ومدينة "صنعاء" القديمة عام 1986، ثم حاضرة "زبيد" التاريخية عام 1993، و"أرخبيل سقطرى" عام 2008. كما تضمنت قائمتها الإرشادية تراثاً يمنياً غير مادي، ومثله مواقع تاريخية قيْدَ استكمال اشتراطات الإدراج، من مثل مدينة "جبلة"، ومدينة "ثلاء التاريخية"، والمدرسة "العامرية" في رداع.
وبالتزامن مع إدراج موقع "آثار مملكة سبأ"، في قائمة التراث العالمي، اتخذت المنظمة إجراءً طارئاً وضعَه في "قائمة التراث المهدد بالخطر"، مع التوصية بسرعة إرسال لجنة إلى "مأرب" لدراسة الوضع وما يمكن تقديمه من دعم وحماية. ولم يُتخذْ هذا الإجراء بالتزامن مع إعلان المنظمة إدراج المواقع اليمنية السابقة وإنما في وقت متأخر، بعد المرور بمرحلة التحذير والإنذار والتهديد بالإسقاط من القائمة، حيث سبق أن وجّهتْ "لجنة التراث العالمي" في منظمة "اليونسكو" إنذاراً بشأن مدينة "زبيد"، في مؤتمرها الذي انعقد في مدينة "سانت بطرسبورغ"، حزيران/يونيو 2012. وفي العام التالي 2013، وجّهت المنظمة تقريراً مطولاً إلى وزارة الثقافة اليمنية، رصدت فيه ما تتعرض له مدينتا "زبيد" و"صنعاء" من أعمال هدم وتشويه ومخالفات تمس طابعهما المعماري، حدّ التهديد بخروجهما من قائمة التراث العالمي.
وللحيلولة دون تنفيذ ذاك التهديد؛ بُذلتْ جهودٌ وتدابير رسمية وشعبية، بما في ذلك تدابير تشريعية، إذ صدر القانون اليمني رقم (16) لسنة 2013 بشأن المحافظة على المدن والمناطق والمعالم التاريخية وتراثها الثقافي العمراني، ومن نصوصه التأكيد على إيقاف الأعمال المخالفة لمخططات الحفاظ وتراخيص واشتراطات البناء في المواقع المسجلة بشكل فوري ومباشر، وهدم وإزالة الأعمال المخالفة بالطرق الإدارية.
العبث والحرب
ما وصلت إليه المواقع اليمنية من حالٍ حرجة هو الفاعل الرئيس في إدراجها ضمن "قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر"، حيث ترتب على غياب الوعي الاجتماعي بأهمية التراث إهمالٌ للمدن التاريخية وعبثٌ بمبانيها، كالهدم والخراب والتشويه بإدخال موادِ بناءٍ جديدة غير متسقة مع مواصفات المباني التاريخية. وبحسب الدراسة العلمية التي أعدّها الباحث اليمني ـ المتخصص في "إدارة الاستشعار عن بُعد"، المهندس سامي محب الدين ـ فإن مدينة "صنعاء" القديمة فيها حوالي 238 منزلاً بحاجة إلى تدعيم عاجل، و166 منزلاً بحاجة إلى تسقيف، و12 منزلاً بحاجة إلى إعادة بناء، و456 منزلاً بحاجة إلى ترميم، و1032 منزلاً بحاجة إلى صيانة.
ومع اندلاع الحرب في أذار/مارس 2015، تفاقمت مشكلة المدن التاريخية، وبسبب انعدام الموارد الاقتصادية واستشراء الفقر، باع بعضُ الملّاك منازلهم للتجار الذين حوّلوها إلى محال تجارية، أو قاموا بهدمها، أو تحديثها بطريقة مخالفة لنسق العمارة التاريخية. كما تعرضت مدينة "صنعاء" القديمة لأضرار جسيمة جراء النزاع المسلح، كالخراب الكبير الذي لحق بحي "القاسمي"، والأضرار التي تعرض لها جامع "المهدي"، ومثله عددٌ من المنازل المجاورة له.
وأشارت لجنة التراث العالمي لـ "اليونسكو" إلى أن مدينة "شبام" تتعرض لأخطار محدقة بسبب النزاع الدائر في اليمن، والذي يزيد من صعوبة المشاكل التي تواجهها قضايا الصون في هذه المدينة. هذه الصور من العبث بالمدن التاريخية اليمنية ـ بما فيها تلك العائدة إلى ما قبل الحرب ـ كانت كافيةً لأن تصبح المواقع اليمنية الخمسة ضمْن "قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر". ولا يعني ذلك إسقاطها الحتمي من القائمة العالمية، بقدر ما يُسَلّط الضوء عليها من أجل العمل على حمايتها وإنقاذها، حسب ما أشار إليه السفير اليمني لدى منظمة "اليونسكو" وهو ما تقوم عليه رؤية المنظمة. فمواقع الآثار المشمولة بالحماية الدولية، توفّر لها "قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر" إمكانيةَ الوصول إلى المساعدة الدولية المعزّزة، الفنية والمالية على حد سواء، كما تساعد على حشد المجتمع الدولي لحمايتها والمحافظة عليها.