"بط هوين": هل أصاب عمر سليمان وأخطأنا حين سخرنا منه؟

لم يمر الشعب المصري بمجتمعاته المتنوعة بتجربة اجتماعية اقتصادية سياسية كان لها دور مباشر في تسطيح العلاقات الهرمية وتسويتها أفقياً.
2023-02-23

إسماعيل الإسكندراني

باحث في علم الاجتماع السياسي ــ من مصر


شارك
خريطة مصر

(كتبتْ مسودة هذا المقال في سجن مزرعة طرة في أيلول/ سبتمبر 2016، أي الشهر العاشر من سجن الكاتب الذي امتد إلى 84 شهراً، أو سبع سنوات).

يجلس اللواء عمر سليمان، نائب الرئيس حسني مبارك في أيامه الأخيرة، أمام الإعلامية الأمريكية الشهيرة كريستيان أمانبور، فتسأله عما إذا كان لا يرى أن الشعب المصري يستحق الديمقراطية. يجيب بالنفي، موضحاً أن الأمر يتعلق بالتوقيت. أُجري الحوار بالإنجليزية من دون مترجم أو وسيط، فكانت إجابته بلكنته المصرية الثقيلة "ولكن متى؟!" ناطقاً إياها "بط هوين" لقول "But when؟". تلقى جمهور الثورة هذه الإجابة بالسخرية، لا من فكرة تأجيل الاستحقاق الديمقراطي، وإنما من لكنته غير الطليقة في صوتيات اللغة الإنجليزية!

حسناً.. بعدها بأشهر قليلة مات عمر سليمان، أو قُتل بحسب بعض النظريات التآمرية، ثم تعثرتْ الثورة التي أطاحت به وبرئيسه، وتقدمت الثورة المضادة مدعومة جماهيرياً دعماً قوياً، لا يغيّر من حقيقة حجمه وجود انقسام شعبي أو تأييد جماهيري واسع نسبياً للإسلاميين، الذين صاروا العدو الرئيس للمؤسسة العسكرية والأمنية منذ 30 حزيران/يونيو 2013. مرت خمس سنوات (وقت كتابة مسودة المقال) على مقولة "بط هوين"، وآن لنا أن نعيد التفكير في مضمونها وفحواها بعيداً عن تفاهة السخرية من لكنة قائلها التي لم تستفز الأمريكان، ولكنها استنفرت المصريين الحريصين على إظهار إتقانهم للفرق بين B وP.

قبل إعادة النظر في مضمون الفكرة، من أن الشعب المصري "غير مستعد" للديمقراطية (وهي فكرة معدلة قليلاً عن سابقتها، التي عبّر عنها أحمد نظيف، آخر رئيس وزراء قبل ثورة يناير، وهي أنه "غير مؤهل" لها)، يجب أن نحدد الموقع الذي نقف فيه. هل نحن في موقع سلطة استبدادية قمعية ذات ميول شمولية تستخدم هذه الفكرة لتسويغ سلطويتها واستبدادها وإحكام قبضتها على مقاليد الأمور بالترويج لتلك الفكرة؟ أم أننا في موقف الباحثين والمثقفين (وأدعياء الثقافة) الذين يستكثرون على الشعب المصري، وغيره من شعوب المنطقة العربية والعالم الإسلامي، ما حققته مجتمعات أخرى من تقدم نحو الحريات والحقوق والحكم الديمقراطي الرشيد. فهم بين متّهِم للشعب في ثقافته وتراثه، واصفاً إياه بأوصاف جوهرانية متجاوزة للزمن والتغيرات التاريخية، وما بين ذوي مصلحة مع دوائر النفوذ الأجنبي العسكري، والاقتصادي العابر للقارات، فلا يجدون رزقهم ودوائر تحققهم المهني إلا باحتقار شعوب المنطقة؟!

أم أننا في موقف المدافع عن السلطات الاجتماعية والمعرفية المحافِظة، ومنها السلطة الدينية، التي تتخذ موقفاً معادياً لما يتوافق عليه البشر في أنحاء الكوكب على ضوء تجاربهم المؤلمة منذ الحربين العالميتين، فتجدها دائماً رافضة أو متحفظة على الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان، على سبيل المثال المتكرر، تحت دعوى "الخصوصية الثقافية"؟

في الحقيقة، ينبغي لنا أن نحدد الموقع الذي ننطلق منه لمراجعة فكرة عمر سليمان، لأن أي التباس في تحديد موقعنا بوضوح سيزجّ بنا في غياهب تلقّي الاتهامات ونفيها، والجدال حول تبرئة أنفسنا، بدل النقاش في صلب الفكرة. ومن هنا أجدني مضطراً إلى هذه المقدمة التبيّينية التي أجادل فيها بأهمية مناقشة مضمون مقولة سليمان، لا من موقف المرحب بها (سواءً لأسباب سلطوية استبدادية، أم لأسباب ثقافوية، أم لأسباب اجتماعية ودينية محافِظة)، وكذلك ليس من موقف الرافض لها، سواء رفضاً لشخص قائلها أو ما يمثله، أم رفضاً للسياق الذي قيلتْ فيه (محاولة تمديد حكم مبارك). يمكننا البدء بنزع الشخصنة عن تلك المقولة بنسيان قائلها وإعادة صوغها في هيئة تساؤل: "هل الشعب المصري جاهز للممارسة الديمقراطية، في أيٍ من أشكالها المتعددة؟"، ثم نحاول الاشتباك مع هذا التساؤل على أرضية سوسيولوجية وأنثربولوجية أكثر قرباً إلى واقع المجتمعات المصرية المتنوعة، بعيداً عن مداخل علم النُظم السياسية والمقاربات القانونية النصوصية، التي غالباً ما يُعطَّل تنفيذها إذا تعارضت مع مجريات تفاعل القوى الاجتماعية في الواقع..

هل المجتمع المصري مجتمع شرف أم مجتمع كرامة؟

حين نتناول قضية الحكم الديمقراطي والتحول إلى الديمقراطية في عام 2016، فلا يمكن أن ينصب نقاشنا على الجذور الأولى للديمقراطية في الفلسفة اليونانية قبل ميلاد المسيح، بل صار لدينا الآن تجارب إنسانية عملية متراكمة ومتنوعة، وتراث فكري وسياسي زاخر لا يمكن تجاهله. ومن أهم محطات هذا التراث كان الإنتاج الأوروبي المصاحب للثورة الصناعية والممهّد للثورة الفرنسية، ذلك لأنه، على الأقل، شاهد على التحولات الكبرى في المجتمعات الأوروبية: من عصر الملكية المطلقة والإنتاج الزراعي المرتبط بالإقطاع والتقسيم الهرمي لطبقات المجتمع إلى عصر الجمهورية، أو الملكيات الدستورية، والإنتاج الصناعي المرتبط بانخراط ملايين الأفراد في طبقة عمالية جديدة والتطلع إلى المساواة بين جميع أفراد المجتمع. فإن لم يكن لهذا التراث دورٌ في تغيير المجتمعات الأوروبية وقتذاك، فهو على الأقل شاهدٌ عليه.

يجب أن نحدد الموقع الذي نقف فيه. هل نحن في موقع سلطة استبدادية قمعية تستخدم هذه الفكرة لتسويغ سلطويتها واستبدادها وإحكام قبضتها على مقاليد الأمور؟ أم أننا في موقف الباحثين والمثقفين (وأدعياء الثقافة) الذين يستكثرون على الشعب المصري، وغيره من شعوب المنطقة العربية والعالم الإسلامي، ما حققته مجتمعات أخرى من تقدم نحو الحريات والحقوق والحكم الديمقراطي؟

ومن أهم الإسهامات الفكرية التي ظهرت في القرن الثامن عشر، كانت نظرية "العقد الاجتماعي" التي قدّمها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو وارتبط اسمه بها. لكن الخطوط العريضة لنظرية العقد الاجتماعي قد اشتهرت بشدة، أو أريد لها أن تشتهر، لتؤكد فكرة قديمة في ثوب جديد، وهي حاجة الناس إلى دولة قوية ومركزية. على العكس من ذلك، لم تشتهر تفرقة روسو بين مجتمع "الشرف" ومجتمع "الكرامة"، وهو بيت القصيد من هذا المقال لمعرفة موقع الشعب المصري حالياً كما هو فعلاً، لا كما نريده أن يكون.

يقول روسّو إن المجتمعات التي تُقسم بشكل هيراركي (هرمي) تسوده فكرة "الشرف"، الذي هو بطبيعته لا يمكن أن يكون متاحاً لكل الناس، بل تحصل عليه أقلية قليلة يمتازون به عن سائر الناس. وبغض النظر عن المقارنة التفصيلية بين الأحوال التاريخية والاجتماعية في البلدان المختلفة في أزمنة متباينة، إلا أن بعض التعميم من كلام روسّو لم يجانبه الصواب إذا استحضرناه ونحن نتأمل أحوال المجتمعات المصرية (أكرر الحديث عن الشعب المصري بصيغة المجتمعات، لا المجتمع الواحد، وبيان ذلك يأتي في السطور التالية).

فمن التعميمات الصالحة من كلام روسّو أن الشرف الاجتماعي، الذي هو مزيّة حصرية لأقليّة عددية من أفراد المجتمع، غالباً ما يرتبط بالميلاد في أسرة تنتمي إلى نسل شريف أو إلى طبقة حاكمة أو مالكة. وقد ينضم إلى نخبة الشرف آحادٌ من الأفراد ممن لا ينتمون إلى الطبقة النبيلة أو الدوائر الشريفة بالولادة والنسب، ولكنه يظل الاستثناء الخارق الذي تروى حوله القصص الملهمة وتنسج عنه الأساطير. أما المجتمع المنشود عند جان جاك روسّو فهو الذي استبدل بالشرف الاجتماعي الكرامة الإنسانية، التي يجب أن تصان لكل فرد من أفراد المجتمع، أياً كانت خلفيته الطبقية، أو ديانته، أو أصله العرقي، أو أي وجه من أوجه الاختلاف عن غيره.

بالاستزادة والتعمق في المقارنة بين معياريْ "الشرف" و"الكرامة الإنسانية" تتضح شيئاً فشيئاً البيئة الاجتماعية والثقافية الحاضنة للحكم الديمقراطي. فلا يمكن أن يكون للنص القانوني أو الدستوري الملزِم بالمساواة بين المواطنين مدلول تطبيقي حقيقي إلا إذا تمكنت فكرة المساواة من ضمائر القائمين على سلطات الدولة الثلاث، القضائية والتشريعية والتنفيذية. وما يتناساه علماء السياسة دوماً هو أن هؤلاء القائمين على أمر السلطات في الدولة، خاصة في الحالة المصرية، هم أبناء عائلاتهم الممتدة وقبائلهم، ونتاج لتراثهم الاجتماعي وأعرافهم وتقاليدهم، قبل أن تكون لهم صفة وظيفية رسمية، وبعد أن يتقاعدوا.

فهل يؤمن القضاة والدبلوماسيون ورجال الأمن وكبار البيروقراطيين حقاً أنهم متساوون في الكرامة مع الحرفيين والمهنيين والعمال والمزارعين وصغار التجار؟ أم أن القيمة السائدة الحاكمة للتصورات والنفوس هي فكرة الشرف والنسب، أو الانتساب اللاحق على الولادة؟

هل المجتمعات المصرية أفقية أم هرمية؟

ينبغي هنا أن نترك القاهرة قليلاً، حيث يسهل ملاحظة التفاوت الطبقي ومفارقات الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية على أي زائر ولو للسياحة الترفيهية. فإذا اتجهنا جنوباً نحو شمال الصعيد أو جنوبه (الصعيد الجواني)، أو أقصى جنوب الوادي في النوبة، فلن يختلف الأمر كثيراً عما إذا اتجهنا شرقاً أو غرباً نحو المساحات الصحراوية والمجتمعات البدوية، كما لن يكون هناك اختلاف جوهري في ريف الدلتا. كلما حاول الباحث سبر الأغوار السوسيولوجية والأنثربولوجية في أنحاء مصر المختلفة، لن يجد إلا مجتمعات هرمية تتوارث الشرف والمكانة الاجتماعية عبر الانتماءات البيولوجية أو الدينية أو الطبقية، مع غياب كبير لفرص الصعود الاجتماعي المرتبط بالمساواة في الكرامة الإنسانية مقابل الشرف الاجتماعي الموروث.

الشرف الاجتماعي، الذي هو مزيّة حصرية لأقليّة عددية من أفراد المجتمع، غالباً ما يرتبط بالميلاد في أسرة تنتمي إلى نسل شريف أو إلى طبقة حاكمة أو مالكة. وقد ينضم إلى نخبة الشرف آحادٌ من الأفراد ممن لا ينتمون إلى الطبقة النبيلة أو الدوائر الشريفة بالولادة والنسب، ولكنه يظل الاستثناء الخارق الذي تروى حوله القصص الملهمة وتنسج عنه الأساطير.

في أسوان، يبدأ وادي النيل المصري بمجتمع شديد القبلية، قد يتصالح فيه العربي مع النوبي، لكنهما أبداً لن يقبلا بالمساواة مع من يطلقون عليهم "الجمسة". ومن دراو، شمال مدينة أسوان، تبدأ الهرمية الاجتماعية تأخذ بعداً دينياً بخلاف البعد العرقي، فتختفي قبائل النوبيين مقابل العرب والأسوانلية، لتظهر المفاضلة بين السادة الجعافرة والأشراف الأدارسة من نسل النبي محمد ﷺ في قمة الهرم، وبين سائر القبائل العربية وغيرهم من صعايدة. ثم تمتد "هيراركية" الطرق الصوفية حتى شمال الصعيد مدعومة ومتقاطعة مع النسب "الشريف"، أو حتى ادّعائه أو المماحكة فيه، ويظل "الجمسة" و"الحلب" (الغجر) في أسفل السلم الاجتماعي لا ينحط عنهم إلا نسل العبيد، الذين كتب عنهم حسام تمَّام مقالاً بحثياً وافياً ذكر فيه أن نسل السادة طَردوا أحد أئمة المساجد من نسل العبيد من قريتهم في سوهاج لأنه تجرأ وخطب الجمعة عن المساواة بين البشر مذكِّراً بآية سورة الحجرات "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ".

فإذا وصلنا محافظة المنيا، غاصت أرجلنا في أوحال الطائفية والكراهية الدينية منقطعة النظير في أية محافظة مصرية. وهي طائفية ممزوجة بالذكوريّة التي تعتبر تغيير الفتاة لدينها لدوافع عاطفية بمثابة عدوان على شرف العائلة، إذ تكون العائلة قد خسرت إحدى فتياتها لصالح الفريق الآخر! وإن كان المثير للمفارقة في المنيا أن توزيع أوزان القوى محلياً غير محسوم للأغلبية المسلمة في كل الأحوال.

____________
من دفاتر السفير العربي
في سبر اغوار سيناء
____________

وهكذا تظل الحال كما هي، مغرقة في هرميتها، سواء لتغلغل الثقافة البيروقراطية بمدلولها السيء، وارتباطها بتوريث الوظائف وتقنين هذا التوريث بما يسمى "حصة أبناء العاملين"، أم بتغلغل الطرق الصوفية. يضاف إلى ذينك العاملَين بعدٌ آخر، وهو قوة التنظيمات الإسلامية، وهي هرمية جداً، في شمال الصعيد وفي محافظات الدلتا. أما في المجتمعات الصحراوية وشبه الصحراوية، فحدِّث ولا حرج، على سبيل المثال عن الهرمية داخل المجتمع العرايشي الحضري في شمال سيناء، ومثيلتها في المجتمع القبْلي في بادية سيناء، شمالاً ووسطاً وجنوباً، وعن التناحر بين العرايشية والبدو من ناحية، وبينهما وبين الوافدين من وادي النيل من ناحية ثانية، وبين استعلاء سائر البدو على إحدى القبائل التي يطلقون عليها وصف "الهتيم" من ناحية ثالثة.

سبر الأغوار السوسيولوجية والأنثربولوجية في أنحاء مصر المختلفة، لن يجد إلا مجتمعات هرمية تتوارث الشرف والمكانة الاجتماعية عبر الانتماءات البيولوجية أو الدينية أو الطبقية، مع غياب كبير لفرص الصعود الاجتماعي المرتبط بالمساواة في الكرامة الإنسانية مقابل الشرف الاجتماعي الموروث.

لا يمكن أن يكون للنص القانوني أو الدستوري الملزِم بالمساواة بين المواطنين مدلول تطبيقي حقيقي إلا إذا تمكنت فكرة المساواة من ضمائر القائمين على سلطات الدولة الثلاث. فهل يؤمن القضاة والدبلوماسيون ورجال الأمن وكبار البيروقراطيين عندنا أنهم متساوون في الكرامة مع الحرفيين والمهنيين والعمال والمزارعين وصغار التجار؟ أم أن القيمة السائدة الحاكمة للتصورات هي فكرة الشرف والنسب؟

أما في المدن الكبرى، كالإسكندرية والعاصمة، فإن الهرمية تتخذ أشكالاً أخرى، لكنها لا تكون أبداً أقل شراسة عن نظيرتها في أقاصي الأطراف أو في أغوار الصعيد. فالهرميّة في القاهرة والإسكندرية تأخذ – أول ما تأخذ – مواقع جغرافية وعمرانية وعقارية ينقسم فيها الناس إلى سادة وعبيد، بحيث لا يمكن أن يجتمع الخادم مع مخدومه خارج سياق العمل المعيشي في بيت الأخير أو سيارته، في أي مجال مدني، أو تعليمي، أو ثقافي، أو غيره. ثم تقع أحياء الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، والأحياء المختلطة أو الشعبية، وأخيراً المناطق عشوائية التخطيط.

والحديث هنا عن الهرمية أوسع من مجرد الإشارة إلى احتكار أقلية للثروة والسلطة والمكانة "الشريفة"، بل يمتد إلى رصد سلوك طبقي منهجي يهدف إلى الانعزال عن "العامة"، فيزيائياً وشعورياً، والحماية من زحفهم بالأسوار والحراسة ووسائل المراقبة الحديثة وشركات التأمين والخدمات الأمنية. والأهم من ذلك هو نزعة التوريث المهيمنة على قمة الهرم الاجتماعي وعشائره.

فهل بعد ذلك كله مجال لنسأل فيه عما إذا كان الشعب المصري بمجتمعاته المتنوعة، شعباً يُعلي قيمة الكرامة الإنسانية فوق الشرف الاجتماعي؟ وأكرر أننا في حاجة إلى إجابة واقعية لا إلى إجابة نموذجية أو أمل منشود.

لكنهم تغيروا فلماذا لا نتغير نحن؟

يضعنا هذا السؤال على مفترق طرق، لأن الإجابة عليه كاشفة للمواقع المتباينة التي يقف على أرضيّاتها المتّفقون على أن أحوال الشعب المصري الحالية بعيدة عن احتضان حكم ديمقراطي قائم على أساس المساواة، فضلاً عن الذود عنه وعن قيمه ومعاييره. فأصحاب النزعة الثقافوية ممن يتهمون الشعب بوصْمات جوهرانية تصفه بأنه "بطبعه" كذا وكذا من أوصاف معادية للديمقراطية والتقدم، سينبرون للإجابة على هذا السؤال من منطلق إرجاع السبب إلى ثقافة الشعب وتراثه الفرعوني والقبطي والإسلامي، وما شابه. أما العلمانيون الكلاسيكيون فسيختزلون المقارنة بين الشعب المصري والشعوب الأوروبية خصوصاً، والبلدان الغربية عموماً، في تأخر الثورة على المؤسسات الدينية وعدم الفصل بين الدين والسياسة (ومن الشائع لدى العلمانيين الكلاسيكيين عدم التفرقة بين فصل الدين عن "الدولة"، وهو الممكن، وبين فصل الدين عن "السياسة"، وهو المستحيل!).

في المدن الكبرى، كالإسكندرية والعاصمة، تتخذ الهرمية أشكالاً أخرى، لكنها لا تكون أقل شراسة عن نظيرتها في أقاصي الأطراف أو في أغوار الصعيد. فالهرميّة في القاهرة والإسكندرية تأخذ مواقع جغرافية وعمرانية وعقارية ينقسم فيها الناس إلى سادة وعبيد، بحيث لا يمكن أن يجتمع الخادم مع مخدومه خارج سياق العمل المعيشي، في أي مجال مدني، أو تعليمي، أو ثقافي، أو غيره. 

قد يتطرف بعض المحافظين، أو بالأدق الرجعيين، ويدافع عن هرمية المجتمع المصري، مسوّغاً ذلك بأنه هكذا ينبغي أن تكون الأمور وأن الخلل عند أولئك الأوروبيين الذين "انتكست فطرتهم" وخالفوا "السنن الإلهية". وهو خطاب كان شائعاً في البلدان ذات الأغلبية المسلمة والحكم الوراثي إبان بزوغ الثورة الفرنسية، ثم توارى مع مرور الزمن، ولم تبقَ إلا أصداء له متناثرة هنا أو هناك، لكنها موجودة ويجري إحياؤها كتوابع للزلزال الداعشي.

وهنا تمتاز الأرضية التي يقف عليها هذا المقال وينطلق منها بحثاً عن أسباب سوسيولوجية وتاريخية مقنعة، بعيداً عن التعسف والاختزال. فالتحول الكبير الذي شهدته أوروبا، ولم تشهده مصر ولا أي من دول المنطقة وبلدانها، هو تحول جذري في نمط الحياة الاقتصادية، ومن ثم الاجتماعية، حيث هاجر الملايين من الريف إلى الحضر الذي تضاعفت رقعته، وتحللت الروابط العائلية التقليدية مقابل صعود النزعة الفردية، وأعيد النظر جذرياً في احتقار الحشود والجموع، التي لم يكن يراها المجتمع الزراعي إلا تجمعات للرعاع والغوغاء.

نعم! إنها، ببساطة في التحليل الثورة الصناعية. لكن الأمر في واقع التجربة التاريخية لم يكن بالبساطة نفسها التي نوجز الإشارة إليها هنا في سطرين أو ثلاثة. فالحياة قد اختلفت رأساً على عقب، وتغير شكل الاجتماع البشري والعمران، وانفكت عرى علاقات قديمة وتقليدية، وبزغت علاقات جديدة وروابط وليدة وتنظيمات حديثة. تقدم العلم وتقهقرت الخرافة، وإن لم تختفِ تماماً. تراكم الإنتاج، ونشطت النقابات، وتنافست الأحزاب. تعاظم دور الفنون والآداب، وأُنتجت الأفكار بعد ما فاض إنتاج الأشياء. وأعاد الناس، أو بالأحرى الإنسان الفرد، اكتشاف جسده وذاته ومحيطه، وأدرك أن له حقوقاً كما أن عليه واجبات، وزاد الإيمان بالعلم التجريبي مع تراجع الثقة في الكنيسة. وكان رجال الدين ورجال السلطات المحافظة على قدر كاف من الرجعية والتشدد والجمود، كان له دور كبير في تسريع وتيرة التحولات "الحداثية" التالية على التحول الصناعي الثوري. وباختصار، لقد ولدت الجمهورية الأوروبية (الدولة القومية) من رحم المصنع. والثورة الفرنسية هي ربيبة الثورة الصناعية وابنتها الشرعية.

في المقابل فإن التجربة المصرية لم تشهد تحولاً مماثلاً ولا قريباً. ولا أقصد هنا المقارنة بين الحداثة الأوروبية والتحديث القسري الذي قاده محمد علي باشا، ولا مقارنة ولادة الجمهورية الفرنسية من رحم المصنع الأوروبي في مقابل ميلاد الجمهورية المصرية من فوهة دبابة التحرر الوطني. فعلاً، لا أقصد أن يسير التحليل الحالي في أيٍ من تلك المسارات التاريخية، بل أحرص أن يظل في سياقه السوسيولوجي، الذي يتلمّس أسباب غياب التحول من المجتمع الهرمي إلى مجتمع أفقي في الحالة المصرية.

____________
من دفاتر السفير العربي
كيف تشتغل الدولة المصرية؟
____________

إذا كان البحث سوسيولوجياً، فلسنا في حاجة إلى التأكيد أنه ما من تفسير أحادي البعد صالح لشرح الظواهر الاجتماعية، التي لا تتكون إلا بتضافر عدة عوامل متفاعلة ومتداخلة. وعلى الرغم من التسليم بهذه البديهية، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود عامل رئيسي قائد لبعض التغيرات الاجتماعية، أو أن غيابه هو السبب الرئيس في غياب التحول محل الدراسة. وللعودة إلى محاولة الإجابة على سؤال "لكنهم تغيروا فلماذا لا نتغير نحن؟" أقول إنه ليس لدينا ما يمنعنا من التغيّر أو التطور، فليس من "طبعنا" صفات تحول بيننا وبين التغير المأمول، هذا إن صح الحديث عن صفات جوهرانية طبائعية من الأساس. لكن السبب في مجادلتي، هو أن الشعب المصري بمجتمعاته المتنوعة لم يمر – حتى الآن – بتجربة اجتماعية اقتصادية سياسية كان لها دور مباشر في تسطيح العلاقات الهرمية وتسويتها أفقياً. ولن أكون متشائماً إذا تشككت في قيام ثورة يناير بهذا الدور، لا باعتبارها حدثاً سياسياً تداركته الثورة المضادة سريعاً، وإنما باعتباره بداية تغيير اجتماعي سياسي ثقافي عميق الأثر وبعيد المدى، ربما لا نجني ثماره قبل جيل كامل. فعلى الرغم من تفاؤلي بالآثار الممتدة والعميقة التي أحدثتها ثورة يناير كثورة اجتماعية سياسية، إلا أنني، بشيء من الواقعية، أجادل أنها لم تُنشئ واقعاً اقتصادياً اجتماعياً جديداً يمكنه أن يغير من طبيعة العلاقات الهرمية في المجتمعات المصرية.

التحول الكبير الذي شهدته أوروبا، ولم تشهده مصر ولا أي من دول المنطقة وبلدانها، هو تحول جذري في نمط الحياة الاقتصادية، ومن ثم الاجتماعية، حيث هاجر الملايين من الريف إلى الحضر الذي تضاعفت رقعته، وتحللت الروابط العائلية التقليدية مقابل صعود النزعة الفردية، وأعيد النظر جذرياً في احتقار الحشود والجموع، التي لم يكن يراها المجتمع الزراعي إلا تجمعات للرعاع والغوغاء. 

ليس شرطاً أن تتطابق مسارات التجارب الاجتماعية مع فوارق القرون زماناً والقارات مكاناً، لكن الهرمية الشديدة التي كان يتسم بها مجتمع النبلاء والإقطاعيين ورجال الدين في أوروبا لا تقل بأية حال عن هرمية المجتمعات المصرية التي تعيش في دولة يحكمها منطق القبيلة ذات البطون والعشائر، فهم متناصِرون على من عاداهم، موحَّدون على من عداهم، متناحِرون فيما بينهم، متصارِعون على النفوذ والصلاحيات والامتيازات. وفي صراع عشائر الحكم داخل الدولة-القبيلة، تُستدعى الجذور الاجتماعية لكل ما هو هرمي، من أزهر وكنيسة، وطرق صوفية وإسلاميين موالين للحكم، وقبائل عربية وأشراف وعائلات ممتدة في أدغال الريف، ودوائر المصالح والزبائنية، التي تجمعها الأنساب والمصاهرة في القمم والقيعان على حد السواء.

وعلى ضوء من رؤية تركيبة الواقع المصري بمثل هذا الوضوح، يمكن الزعم بأن الزمن لن يكون وحده هو العلاج. فالأمر متجاوز الأزمة الجيلية أو انتشار الأميّة حالياً، بل عميق الجذور التي لن يقتلعها إلا تغيير جذري عميق في العلاقات والقيم الاجتماعية والإنسانية الحاكمة للضمائر والسلوك. 

مقالات من مصر

للكاتب نفسه