الأجهزة الامنية في مصر: من مسؤول عن الأمن السياسي؟

ظل "جهاز الأمن الوطني" هو المسؤول عن حفظ الأمن داخلياً، أو بالأحرى حفظ أمن السلطة الحاكمة. هو أقدم الأجهزة الأمنية من نوعها، ليس في مصر فحسب وإنما في المنطقة العربية بكاملها، أما الجهازان الآخران الأكثر بروزاً، فهما المخابرات العامة والمخابرات الحربية، وقد أُنْشِئا في مرحلة لاحقة مع بداية الجمهورية المصرية، ولم يلغِ أي منهما دور أو أهمية جهاز الأمن الوطني.
2023-02-20

مصطفى الأعصر

كلتب وصحافي من مصر


شارك
سيروان باران - العراق

أمرٌ مستهجن تسمية المقر المركزي لجهاز أمني حسّاس، على اسم مجرم وجزّار تاريخي ومهندس للقمع السياسي الممنهج الحديث. جهاز استخباراتي مسؤول عن جمع معلومات الداخل، وأرشفة المواطنين، وتحليل البيانات وتقييم المخاطر وتقديم التقارير الدورية للسلطات الأعلى من أجل صياغة القرار السياسي للحفاظ على الاستقرار وحفظ الأمن وحماية البلاد من الجريمة المنظمة والجرائم المحتملة، يطلقون عليه: لاظوغلي!

ظل اسم "لاظوغلي" لسنواتٍ مرتبطاً في عقول المصريين بالرعب وجلسات التعذيب والإخفاء القسري والذهاب خلف الشمس. الغالبية لا يعرفون مصدر الاسم الذي يطلقونه على أحد أهم ميادين العاصمة، ويُلقَّب به المقر الرئيسي لمبنى الأمن الوطني (أمن الدولة سابقاً). محمد لاظ أوغلي، مسؤول الأمن السياسي في حكومة محمد علي باشا، خبير التجسس على المواطنين وزرع المخبرين في وسط التجمعات، صانع الخوف والشك في قلوب المصريين والحذر تجاه بعضهم البعض، ومهندس مذبحة القلعة التي راح ضحيتها أكثر من 400 مملوك، ازداد عددهم إلى أكثر من ألف مملوك نتيجة الفوضى وعمليات السرقة والنهب التي تلت المذبحة - حسب الجبرتي - وتراكمت وتعالت الجثث فوق بعضها، وسالت دماؤهم من القلعة أنهاراً، صانعة درباً أحمر، سُميت على اسمه منطقة "الدرب الأحمر" بالقاهرة. درب الدماء التي أراقها لاظ أوغلي، تُدرّس في مناهج التاريخ المصرية على أنها من منجزات محمد علي، كما سيدرسون ضمن منجزات عبد الفتاح السيسي مذبحة فض اعتصام "رابعة العدوية" التي راح ضحيتها أيضاً أكثر من ألف ضحية، فضلاً عن المصابين.

لاظوغلي

تولّدت أزمة سياسية عقب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين والانفراد بالسلطة من قبل الطاقم الحاكم الحالي، وقد خلّفت الكثير من التحديات الداخلية لأجهزة الأمن المصرية، على رأسها السيطرة الأمنية على الشارع، فكان الحل الأسهل هو اللجوء إلى التنكيل بكل صوت معارض والتضييق على أي مساحة عامة وقمع أصحاب الرأي ومنع أي ممارسة سياسية. كانت النتيجة الحتمية لهذا المشهد تداخل صلاحيات الأجهزة الأمنية، وأصبح السؤال المُلح: من يتحكم في مجريات الأمور داخلياً؟ من هي الجهة المسؤولة عن ملف الأمن السياسي؟

تاريخياً، ظل "جهاز الأمن الوطني" هو المسؤول عن حفظ الأمن داخلياً، أو بالأحرى حفظ أمن السلطة الحاكمة. هو أقدم الأجهزة الأمنية من نوعها، ليس في مصر فحسب وإنما في المنطقة العربية بكاملها، أما الجهازان الآخران الأكثر بروزاً، فهما المخابرات العامة والمخابرات الحربية، وقد أُنْشِئا في مرحلة لاحقة مع بداية الجمهورية المصرية، ولم يلغِ أي منهما دور أو أهمية جهاز الأمن الوطني.

 اسم "لاظوغلي" ارتبط في عقول المصريين لسنواتٍ بالرعب وجلسات التعذيب والإخفاء القسري والذهاب خلف الشمس. الغالبية لا يعرفون مصدر الاسم الذي يطلقونه على أحد أهم ميادين العاصمة، ويُلقَّب به المقر الرئيسي لمبنى الأمن الوطني (أمن الدولة سابقاً).

مع قيام انتفاضة 2011، أتلف ضباط أمن الدولة الملفات التي تدينهم، وتفضح الممارسات غير القانونية للجهاز، وهي تلك الملفات التي عكفوا على إعدادها لعشرات السنين، وقام الثوار بحرق البقية بعد اقتحام المقار. وهكذا عندما عاد الجهاز إلى مهامه تحت مسمّى "الأمن الوطني"، كان خالي الوفاض لا يملك ملفات أمنية يمكن الاستناد عليها، كما لم يملك حرية التصرف دون خشية المساءلة، وكانت البلاد لا تزال في خضم الحالة الثورية، ولم يكن الناس قد نسوا جرائم الجهاز... ظل الأمن الوطني مكتوف الأيدي حتى وصول السيسي إلى السلطة وقد أخذ صلاحياته من رأس الدولة مباشرة: صلاحية ممارسة مهامه دون خوف أو مساءلة.

تفرغ الجهاز في أول عامين من حكم السيسي لتصفية تيار الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، تنظيماً وانتماءً ومحبين ومتضامنين، وما إن انتهى من أمر الإسلام السياسي حتى أدار دفة البطش صوب البقية، بدأها بتصفية الحسابات مع رموز الثورة وشبابها من الحركات والأحزاب السياسية أو من المستقلين والصحافيين والنشطاء وأصحاب الرأي، وكل من آمن أو شارك في "ثورة يناير"، ثم ازداد في طيشه ليتّبع سياسة توسيع دوائر الاشتباه، وترتفع وتيرة القبض العشوائي على المواطنين من الشوارع والمنازل، وتزداد أيضاً الإجراءات العقابية من تفتيش المارة وانتهاك خصوصيتهم وتفتيش هواتفهم المحمولة. قُبض على الآلاف بسبب تعليقات ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي أو لمجرد إعادة نشر مادة أو صورة ما، أو التفاعل معها بأي شكل. وتزداد وتيرة القبض والتشديد الأمني في الشوارع والميادين مع كل تاريخ مرتبط بثورة يناير أو كلما ظهرت دعوات للتظاهر احتجاجاً على سوء الأوضاع.

خلال هذه المرحلة، كان جهاز الأمن الوطني يقوم بأخطر مهمة، وهي "أرشفة الشعب". البدء من جديد لخلق قاعدة بيانات عن الشعب المصري. وهو بالتأكيد ليس لديه لا الوقت ولا المقدرة على أرشفة أكثر من 100 مليون مواطن، ولكنه من وراء سياسة توسيع دوائر الاشتباه والقبض العشوائي وانتزاع الاعترافات بالعنف، أصبحت لديه قاعدة يمكن التحرك من خلالها. كل مواطن مرّ على أحد مقار الأمن الوطني، ولو على سبيل الزيارة، أصبح بذاته ملفاً في الأرشيف، له تصنيف سياسي ما. كان الأمر أشبه برد الاعتبار لهيبة الجهاز وبتأديبٍ للشعب أو بعقابٍ جماعيّ لما اقترفه المواطنون من إثم الاحتجاج.

تولّدت أزمة سياسية عقب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين والانفراد بالسلطة من قبل الطاقم الحاكم الحالي، وقد خلّفت الكثير من التحديات الداخلية لأجهزة الأمن المصرية، على رأسها السيطرة الأمنية على الشارع، فكان الحل الأسهل هو اللجوء إلى التنكيل بكل صوت معارض والتضييق على أي مساحة عامة وقمع أصحاب الرأي ومنع أي ممارسة سياسية.

أوكِل للجهاز إدارة جميع الملفات الحسّاسة داخلياً حسب ما يتراءى له، بشرط أن يحافظ على استقرار البلاد وأن يئد أي محاولة للاحتجاج قبل بدئها. وكنتيجة لهذه السياسات، دفع عشرات الآلاف من المصريين أعمارهم داخل السجون ومقار الإخفاء القسري، بينما كثيرون لم تكن لهم صلة مباشرة بالصراع السياسي القائم وكانوا غير مهتمين بالمجال العام أو فاعلين فيه.

ولم تكن خطوات الجهاز عشوائية، بل محسوبة وتسعى للعقاب والترهيب، ولأن تجعل في كل فئة وفي كل شارع عبرة ونموذجاً يُحكى عنه بخوف وذعر، وقد نجح في ذلك. بالمقابل فشلت السلطة في تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين في ظل إهدار الأموال في مشاريع ضخمة بلا جدوى وسياسات اقتصادية ترتكز على الاستدانة والحل المؤقت، فتنامى الغضب في النفوس وازداد الحنق على السلطة. وظهر أنه لا بد من تدخّل الأجهزة الأمنية الأخرى لمساعدة الأمن الوطني في مهامه، من خلال دعمه في بعض الملفات أو محاولة إيقاف قاطرة البطش، بما يتوافق مع ما يُرفع إلى تلك الأجهزة من تقارير عن حالة الغضب في الشارع المصري، ناهيك عمَّا سُرّب من معلومات حول خلافات في طريقة إدارة بعض الملفات الحسّاسة، مثل ملف "تيران وصنافير"، وملف تظاهرات أيلول/ سبتمبر 2019، إلى جانب الملف الأكثر إلحاحاً ودواماً، وهو ملف السجناء السياسيين أو التسمية التي لا يحبها الأمن: المعتقلون.

المخابرات العسكرية

يتخصص جهاز المخابرات الحربية – وفق ما يشير إليه اسمه - في القضايا العسكرية، سواء بهدف الحفاظ على تماسك القوات المسلحة داخلياً وتأمينها من الاختراق، أو خارجياً بالحفاظ على أمن البلاد من الأعداء، ولا يتدخل عادةً في الشأن الداخلي السياسي إلا لماماً، إذا ما استثنينا الفترة الانتقالية بعد "ثورة يناير" عندما تولت القوات المسلحة الحكم، في ظل انهيار منظومة الداخلية المصرية وجهازها الأمني، وشرعت في المحاكمات العسكرية للمدنيين بعد فض اعتصام ميدان التحرير 9 آذار/ مارس 2011، وتشكلت إثر ذلك حركة "لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين". بعد أحداث 30 يونيو 2013 وسيطرة القوات المسلحة وإشرافها على جميع القطاعات، العقارية والتجارية والصناعية والفنية، توسعت أيضاً مهام المخابرات العسكرية لتتداخل مع مهام الأمن الوطني، فلم تعد مقتصرة على ملاحقة العدو الخارجي والتصدي له أو كشف المؤامرات داخل المنظومة العسكرية، بل أصبح من مهامها أيضاً فرض الحصار على الأصوات المعارضة لسلطة الجيش أو المسيئة لقياداته أو المنتقدة لأفعاله.

وتمثل ذلك بكل وضوح في بعض الإجراءات الانتقامية، كالقبض على الفريق سامي عنان، بعد إعلان نيته الترشح للانتخابات الرئاسية 2018، وكذلك القبض على المستشار هشام جنينة، الرئيس الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات، وإصدار حكم عليه بالسجن خمس سنوات من محكمة عسكرية، باتهامات متعلقة بنشر أخبار كاذبة وتكدير السلم العام. لم يقتصر الأمر على التنكيل بقادة سابقين في الجيش أو مسؤولين في الدولة، بل شمل أيضاً الصحافيين والأدباء ورجال الأعمال، فصدر حكمٌ بالسجن لعشر سنوات (خُفف فيما بعد لسبع سنوات) من محكمة عسكرية على الصحافي إسماعيل الإسكندراني، باتهامات إفشاء أسرار عسكرية، كذلك القبض على رجل الأعمال صفوان ثابت ونجله سيف ثابت (مالكي "شركة جهينة للصناعات الغذائية") وإحالتهما لنيابة أمن الدولة العليا لعدم وجود ذريعة قانونية لمحاكمتهما عسكرياً، على الرغم من المعرفة العامة بالأزمة الناشئة بينهما وبين قيادات من القوات المسلحة بسبب دخول الجيش إلى ميدان الصناعات الغذائية ورغبته في تحييد المنافسين. قضى آل ثابت أكثر من عامين قيد الحبس الاحتياطي حتى صدر قرار بالإفراج عنهما بداية العام الجاري. أما النموذج الأخير، والذي يظل قيد الحبس الاحتياطي حتى اليوم، فهو الشاعر جلال البحيري، وهو أفضل مثال على تداخل الصلاحيات بين الأجهزة الأمنية، أو وجود أكثر من جهة تدير الملف ذاته. قُبض على البحيري في 3 آذار/ مارس 2018، بسبب كتابته للأغنية الساخرة "بلحة" التي غنّاها المطرب رامي عصام. وعلى إثر ذلك، أُحيل إلى نيابة أمن الدولة العليا بتهمة نشر أخبار كاذبة، وفي الوقت نفسه أُحيل على ذمة قضية أخرى إلى محكمة عسكرية، قضت فيما بعد بسجنه ثلاث سنوات، باتهامات إهانة المؤسسة العسكرية وازدراء الأديان، بسبب كتابته لديوان شعر بعنوان "خير نسوان الأرض" الذي تضمن نقداً للمؤسسة العسكرية ورأس الدولة. لم يكن سجن البحيري 3 سنوات عسكرياً كافياً بالنسبة للأمن الوطني، ففور إنتهاء مدة عقوبته في تموز/ يوليو 2021 تم إخفاؤه قسرياً في أحد مقار الأمن الوطني حتى ظهر في نيابة أمن الدولة في 5 أيلول/ سبتمبر 2021، وتم تدويره على ذمة قضية جديدة بالاتهامات المنسوخة نفسها.

مع قيام انتفاضة 2011، أتلف ضباط أمن الدولة الملفات التي تدينهم، وتفضح الممارسات غير القانونية للجهاز، وهي تلك الملفات التي عكفوا على إعدادها لعشرات السنين، وقام الثوار بحرق البقية بعد اقتحام المقار. وهكذا عندما عاد الجهاز إلى مهامه تحت مسمّى "الأمن الوطني"، كان خالي الوفاض لا يملك ملفات أمنية يمكن الاستناد عليها، فكان عليه أن يتصدى لمهمة "أرشفة الشعب"!

يختص جهاز المخابرات الحربية – وفق ما يشير إليه اسمه - في القضايا العسكرية، سواء بهدف الحفاظ على تماسك القوات المسلحة داخلياً وتأمينها من الاختراق، أو خارجياً بالحفاظ على أمن البلاد من الأعداء، ولا يتدخل عادةً في الشأن الداخلي السياسي إلا لماماً، إذا ما استثنينا الفترة الانتقالية بعد "ثورة يناير" عندما تولت القوات المسلحة الحكم، في ظل انهيار منظومة الداخلية المصرية وجهازها الأمني. 

وحالة البحيري ليست استثنائية، كضحية لممارسة التدوير، فقد تمكن "مركز شفافية للأبحاث والتوثيق وإدارة البيانات"، من رصد 2914 ضحية، بإجمالي 4746 واقعة تدوير في الفترة من كانون الثاني / يناير 2016 حتى كانون الثاني/ يناير 2023، وهي الممارسة التي توسّع فيها الأمن الوطني، خاصة بعد تظاهرات أيلول/سبتمبر 2019.

المخابرات العامة

بدورها، لم تبتعد المخابرات العامة عن الانغماس في الشأن السياسي الداخلي بعد أن كانت مسؤولياتها مقتصرة على قضايا الأمن الوطني الأكثر أهمية، ولطالما رسخ في الوعي الجمعي من خلال السينما والدراما، الارتباط بين جهاز المخابرات العامة والقضايا الكبرى وكشف الجواسيس وزرع آخرين أو اختراق الأجهزة الأمنية لإسرائيل وتجنيد عملائهم. كان جهاز المخابرات العامة نموذجاً للترفع عن صغائر الأمور وتركها لأمن الدولة، لكن على ما يبدو، توسعت المهام هنا أيضاً. قابلتُ في أروقة نيابة أمن الدولة، أستاذاً جامعياً متخصصاً في هندسة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، حكى لي عن احتجازه انفرادياً لمدة 3 سنوات في أحد مقار المخابرات العامة، حيث ظل حبيس زنزانة ضيقة مضاءة 24 ساعة، ومراقبة بكاميرا من أعلى. طوال هذه الفترة لم يتم التحقيق معه ولو مرة واحدة، ولم يعرف سبب احتجازه إلا بعد ظهوره في نيابة أمن الدولة العليا متهَماً بالتخابر وتمويل الإرهاب، فالمسكين كان قد عمل على تطوير إحدى تطبيقات الهواتف المحمولة وباعه لشركة مملوكة لجماعة الإخوان المسلمين. وتلك كانت جريمته التي دفعت المخابرات العامة للقبض عليه وإخفائه قسرياً لمدة ثلاث سنوات قبل إحالة ملفه للأمن الوطني.

الحبس الاحتياطي: عقدة بلا حل

يقولون في المثل الشعبي أن من قام بربط العقدة هو الوحيد الذي يستطيع حلها. لا ينطبق هذا الأمر على جهاز الأمن الوطني، الذي من البديهي أن يكون المسؤول المباشِر عن إدارة ملف الأمن السياسي بتفرعاته كافة، يقوم الضباط بعمل تحريات عن المرشحين لمناصب قيادية داخل المحافظات وعن وكلاء النيابة والقضاة أو عن مرشحي انتخابات مجلس النواب. وهناك ضباط الاتصال المسؤولون عن متابعة الإعلام والصحافة، والسماح بما يُنشر وما لا ينشر، وضباطٌ مسؤولون عن إدارة كل ملف أو تصنيف: الإسلاميون، اليسار، الأحزاب المدنية والحركات السياسية، الأولتراس، الصحافيون، المجتمع المدني، وغيرها من ملفات الشعب المقسّم تبعاً لممارساته.

كانت مسئوليات المخابرات العامة مقتصرة على قضايا الأمن الوطني الأكثر أهمية، ولطالما رسخ في الوعي الجمعي من خلال السينما والدراما، الارتباط بين جهاز المخابرات العامة والقضايا الكبرى وكشف الجواسيس وزرع آخرين أو اختراق الأجهزة الأمنية لإسرائيل وتجنيد عملائهم.

وكما يقولون إن السلطة المطلقة مَفسدة مطلقة، استمر جهاز الأمن الوطني في نهج القبض والإخفاء والاعتقال والتدوير، حتى صار ملف الحبس الاحتياطي وسجناء الرأي عقدة أصعب من أن تُحل بقرار سياسي. يقول السجناء فيما بينهم إن ضباط الأمن أشبه بمن ارتكب جريمة قتل ثم احتار في كيفية إخفاء الجثة وطمس الجريمة، وهذا تماماً ما حدث. فبعد سنوات من إنكار وجود معتقلين في السجون المصرية، ومن عدم مصارحة الرأي العام المحلي والدولي بشفافية حول أعداد المحبوسين، بات من الضروري تفكيك الملف وحلحلته، للتخفيف من الغضب الشعبي، وللحدّ من الضغوط الخارجية، أو على الأقل هكذا يتراءى لجهاز المخابرات العامة. وهو أمرٌ لا يلقى قبولًا لدى جهاز الأمن الوطني، إذ يعتبرونه تعدياً على صلاحياتهم، وإفساداً لما قاموا به من عملٍ طوال السنوات العشر الماضية للحفاظ على أمن الحاكم والسيطرة على الشارع المصري، ولن يقبلوا بسهولة أن تُنزع منهم صلاحياتهم هكذا.

حتى المبادرات الأخيرة للإفراج عن أعداد محدودة من المحبوسين احتياطياً، ضمن أعمال لجنة العفو السياسي التي أعلن عنها السيسي في حفل إفطار الأسرة المصرية في نيسان/ أبريل 2022، تظل محدودة التأثير وأشبه بمكياج سيء لوجه قبيح. فالممارسات الأمنية لم تتبدل، وكان عدد المقبوض عليهم منذ حفل الإفطار أكثر من ضعف المفرج عنهم في الفترة الزمنية نفسها.

وهذه المناورة لم تكن الأولى من نوعها، فمنذ عام 2017 والأمن الوطني يماطل في تعديل قانون الإجراءات الجنائية، من أجل تخفيض المدة القصوى للحبس الاحتياطي من عامين إلى 6 أشهر، وكلما ضاق الخناق على السلطة، لوّح بورقة تعديل القانون مسوّقاً لها عبر قنواته الإعلامية. ومن المرجح أن جهاز المخابرات يدعم خطوة التعديل في حين يرفضها الأمن الوطني بشكل قاطع.

كذلك تعالت الأصوات المنادية بالمصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين، ومع شباب الجماعة في السجون المصرية ممن فاض بهم الكيل وكفروا بأفكار الجماعة، وهو أمر أشبه بالمراجعات الفكرية التي عقدها نظام مبارك مع أفراد الجماعة الإسلامية مقابل الإفراج عنهم. والغريب أن تلك الدعوات لم يكن مصدرها السجناء، بل الأمن نفسه: هو صاحب الفكرة والمشرف عليها على الرغم من إنكاره وعلى الرغم من مرور أكثر من 6 سنوات على وجودها في الأدراج، مثلها مثل قانون الإجراءات الجنائية.

بعد سنوات من إنكار وجود معتقلين في السجون المصرية، ومن عدم مصارحة الرأي العام المحلي والدولي بشفافية حول أعداد المحبوسين، بات من الضروري تفكيك الملف وحلحلته، للتخفيف من الغضب الشعبي وللحدّ من الضغوط الخارجية، كما يتراءى لجهاز المخابرات العامة. وهو أمرٌ لا يلقى قبولاً لدى جهاز الأمن الوطني.

ولم يستفد أحد من خطوة المصالحة سوى ضباط الأمن المسؤولين عن السجون، حيث تُسهّل عليهم خطوة تصنيف السجناء كمنتمين للجماعة أو غير منتمين، حسب قبولهم أو رفضهم، من حيث المبدأ، للتوقيع على بنود المصالحة، والتي من بينها الاعتراف بعدم الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، والتبرؤ من أي أعمال عنف. وفي الربع الأخير من عام 2021، لاحت ورقة المصالحة مرة أخرى بدعايات صحافية وإعلامية عن مطالبات شباب الجماعة داخل السجون، بوساطة من شيخ الأزهر أحمد الطيب. وسرعان ما اختفت تلك المبادرة أيضاً. وهكذا يتلاعب ضباط الأمن الوطني بآمال السجناء وأسرهم دون صلاحيات تمكّنهم من قرارات نافذة، ويبقى السؤال بالمحصلة: من مسؤول الأمن السياسي في مصر اليوم؟ 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.