مقابلة لإذاعة الوضع مع سلمى سمر الدملوجي، المعمارية العراقية المقيمة في لبنان والأستاذة في الجامعة الأميركية ببيروت.
* أين عملتِ قبل الوصول إلى الجامعة الأميركية ببيروت؟
- كنت مقيمة في بريطانيا لمدة أربعين عاماً، تركتُ العراق في عمر 17 سنة وذهبت لدراسة الهندسة المعمارية في AA (Architectural Association School of Architecture) تخرجت وأتيت إلى لبنان عام 1977 لكي أعمل، وكنت صغيرة ولديّ طموحات. وكنا محاطين بأشخاص ملتزمين وأناس يعملون وناشطين في جميع المستويات التي ممكن التغيير فيها، أو الحلم أن نكون جزءاً من تغيير المجتمع، وتغيير المدن والقرى والريف.. وكافة الحركات على جميع الأصعدة الاجتماعية والسياسية.
المؤسسة التي تخرّجت منها في العمارة ببريطانيا كان تعليمها ثورياً، ولحدّ الآن، رغم تغير النمط فيها نحو النيوليبرالية، لكنها بقيت يُعرّف عنها بأنها تنتج أفكاراً مرادفة وأفكاراً بديلة، وهي مدرسة بديلة للعمارة. لهذه الأسباب شعرت وقتها أن عودتي إلى لبنان كانت مناسبة رغم أن أهلي كانوا معارضين لهذا القرار، وخاصة والدي، بسبب الحرب. وكان البلد في فترة ما بعد تل الزعتر ومقتل كمال جنبلاط. كانت فترة صعبة جداً، لكن في الوقت نفسه كان الشباب لديه أمل كبير في التغير والثورة بجميع أشكالها، إن كانت لبنانية أو فلسطينية أو عربية. كان لبنان مركزاً مهماً جداً في تلك الفترة لجميع الوافدين من العالم، ممن يعانون الغربة القسرية والطوعية، وكان هناك عرب وأجانب وعراقيون وسوريون، بالإضافة إلى مصريين وتونسيين.. فكان لبنان محطة للتبادل والتفاعل، والجو كان مغرياً جداً، وكان هناك إمكانية للعمل. اشتغلت فترة قصيرة في دار الهندسة وشعرت بملل شديد، وراجعت نفسي وقلت إنني تعلمت 5 سنوات ليس لكي أجلس خلف مكتب أصمم برادات مثلجة، فتركت دار الهندسة من غير أن أخبرهم السبب.
أحببت أن أدخل التعليم، وعلّمت في الجامعة الأميركية اللبنانية وعلّمت في الجامعة اللبنانية في قسم الآثار مادتين: واحدة عن الخط العربي الإسلامي ــ وكان لدي شغف كبير بالعمارة والفنون الإسلامية كجزء حي، نحييه ونعيد صياغته في تفهمنا مبدأ العمارة العربية والإسلامية بشكل عام، ليس من منطلق متحفي ولكن من منطلق حي معاصر ومستقبلي. ومادة أخرى في الهندسة الإسلامية وطريقة تطبيقها. وكان ذلك غريباً نوعاً ما للطلاب، ولكن ليس غريباً بالنسبة لي لأنني تمرّست فيه ودرسته مع بروفسور كيث كريتشلو في AA، وهو مؤلف لكتب عدة عن الموضوع، والآن أفكر فيه وأعتبره نابغة. كان شيئاً جيداً بالنسبة لي أن درست معه كما تابعت معه الدكتوراه أيضاً.
عملت في لبنان لمدة وسكنت فيه، كما ذهبت إلى مصر لأنني كنت أعمل مع حسن فتحي وهو مهندس معماري عملت معه لفترة سنة كتدريب بين المرحلة الأولى والثانية في العمارة. ولكن بسبب حماس رئيس الجامعة والأساتذة فقرروا احتسابها كسنة إضافية وكأنني درست أربع سنوات. تخيلي أن في عام 1977 في بريطانيا يعرفون حسن فتحي ويقدرون أهميته في العمارة الطينية والعمارة الإسلامية، بينما ما زلنا هنا لا نعرف حتى الآن مَن هو.. رجعت إلى لبنان درست في الجامعة اللبنانية ومعهد "الفنون الجميلة" والجامعة الأميركية اللبنانية لمدة سنة أو سنتين، وفي الوقت نفسه تسلمت عملاً في مؤسسة كنت جزءاً من تأسيسها، وهي لترجمة كتب أو ما يكتب عن العمارة الإسلامية والعربية من الأجنبية إلى اللغة العربية، وشكلنا "دار المثلث" وكنت مسؤولة عن التصميم. لذا أعتقد أن دراستي المعمارية كانت شاملة ومكنتني من العمل كمصممة غرافيك، وكنت أعمل تصاميم لكتب من غير أن أعرف أن اسم هذا العمل هو "graphic design".
وكان ضمن مسؤولياتي العمارة العربية والإسلامية. عملت كتاب تلوين للأطفال عن الخط العربي، وقمت بكتاب عن الزخارف الهندسية، وحصلت على جائزة عنهما في معرض الكتاب في بيروت سنة 1981. وكنت أتباحث مع عصام السعيد بخصوص ترجمة كتابه Geometric Concepts in Islamic Art and Architecture وهو كتاب مهم جداً عن المبادئ الهندسية بالتصميم المعماري والتصميم الفني الإسلامي.
* كيف رجعتِ إلى لندن؟
- عندما حصل الاجتياح الإسرائيلي 1982، كنتُ متزوجة ولديّ ولد، وكان زوجي مضطراً لترك لبنان، فعشنا في مصر لمدة سنة. لكن قبل أن أترك لبنان، شعرتُ أنني أريد أن أتخطى نقطة محددة قد وصلتها في ذلك الحين، فذهبت الى اليمن، لكن قبل ذلك، أتاني عرض للعمل في الإسكوا (اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا، الامم المتحدة). استغرب مصطفى الجاف وقتها (رئيس قسم المستوطنات البشرية) لماذا أتقدم الى هذه الوظيفة التي تتطلّب الذهاب الى اليمن. قلت له إنني منذ سنة 1974 أنوي الذهاب إلى اليمن لأنني مهتمة بالعمارة الطينية نتيجة عملي مع حسن فتحي وأهتم للـ Earth architecture. وظّفت وذهبت إلى اليمن وأحسست أنني أريد أن أكمل الطريق الذي بدأته في العمارة.
عندما ذهب زوجي الى مصر قررت الالتحاق به، وكانت مناسبة جيدة للعمل مع حسن فتحي من جديد. وكان حسن فتحي شخصاً عزيزاً جداً عليّ وقريباً جداً مني مهنياً وتأثرت به وبعمله كثيراً. إلى اليوم، الأعمال التي أقوم بها أعتبر أنه هو وآخرون لهم أثر كبير في تكوين تفكيري وفي تشجيعي، وهو مَن شجّعني للذهاب إلى اليمن، وكنت أعمل في اليمن الجنوبي. كان العمل صعباً، واليمن الجنوبي وقتها كان اسمه كوبا، بما معناه أن اليمن شيوعي أو اشتراكي. كنت مهتمة بشكل المدن الموجودة في حضرموت.
قررت أن أقوم بدراسة الدكتوراه. فرجعت إلى بريطانيا ودرست الدكتوراه في Royal College of Arts .
ذهبت في 1984 إلى بريطانيا بعد تجميع مواد من خلال العمل في اليمن ومن خلال البحث والتصوير، ومن هذا الزخم تكونت مادة الدكتوراه بعنوان
The Architecture and Town Planning of Two Cities in Hadramout: Chibam and Terim
* ما هي مقاربتك الخاصة بالعمارة؟ تحبين الفن وتقولين إن الفن الإسلامي هو فنّ حيّ وليس للمتاحف فقط، هل تتبنين مفهوماً محدداً للعمارة؟
- الموضوع سهل جداً بالنسبة لمفهومي في العمارة. أنهيت دراستي في AA، عدت إلى بيروت بعد أول سنة، وكان لديّ همّ إخبار والدي (الذي كنت على علاقة وطيدة به وعلاقة فكرية أيضاً) أنني غير مهتمة بدراسة العمارة، وأعتقد أنني أريد أن أدرس شيئاً آخر، لكنني لا أعرف ما هو. ولم أفتح الموضوع مع والدي لأنني كنت في حيرةٍ من أمري. عندها، وبالصدفة تعرفت إلى صديقة في وقتها أي عام 1971 في بيروت، وعندما عرفت أنني أدرس العمارة قررت إعطائي كتاباً لأقرأه لأنه قد يهمني. كنا كمعماريين مهتمين بالرسم والموسيقى أكثر من القراءة، لكنها أعطتني كتاباً اسمه "العمارة للفقراء" (Architecture for the Poor)، كان الكاتب هو حسن فتحي، ولم أكن قد سمعت به من قبل. وأخبرتني أنها تسكن في مصر وأن هذا الكتاب لديها وستعيرني إياه وأنها تحب أن اقرأه وتحب أن أزورها في مصر. أخذت الكتاب وبدأت بقراءته ليلاً وعندما أنهيت المقدمة فهمت أنني أحب العمارة، لكن الآن فهمت أي نوع عمارة أريد أن أدرس. وانتهى الموضوع وقررت ماذا أريد وإلى أين سأذهب.
* ماذا فعلتِ في اليمن؟
- اليمن قصة طويلة. سنة 1974، شاهدت فيلم بازوليني "ألف ليلة وليلة"، وكنت أشاهد كل أفلامه وأتابع الإيطاليين والفرنسيين.. وتفاجأت في وقتها. أذكر جيداً إحساسي وأنا أجلس في قاعة السينما وأين كان المكان والتاريخ. عندما رأيت مشاهد اليمن التى مرت في الفيلم أمامي أحسست أنني أمام رهبة عظيمة من الجمال والكمال والقوة في التعبير المعماري لكونها عمارة طينية في زبيد وصنعاء.. الآن نرى الفيلم بطيئاً.. لكن من وقتها رسخ في رأسي أنني أريد أن أذهب للعمل في هذه البلاد. كنت وقتها في السنة الثانية او الثالثة من دراسة العمارة وكنت قد تعرفت إلى حسن فتحي ومن بعد ما قرأت كتابه التقيت به في مقهى الإكسبريس... اليمن قديمة في حياتي وعندما ذهب إليه في 81 ــ 82 شعرت أنّ هذا الشيء جزءٌ مني. آخر مرة ذهبتُ إلى اليمن كانت في شباط/ فبراير 2013.
* اشتغلتِ كثيراً في اليمن وحصلت على جائزة عالمية على عملك فيه وعلى الكتابة حوله، كيف ترين علاقتك الحالية باليمن؟
- لأن لأبي تاريخه الماضي المتعلق بالحكم البائد في العراق (نوري السعيد)، كان يمنع أي أحد في البيت أن يكون له علاقة أو شغف بالعمل السياسي، في وقت كان هو من علّمنا السياسة! لكني تعلّمت ولفترة طويلة في بريطانيا أن تكون كل الأعمال التي أقوم بها أرفع من السياسة، ولهذا السبب كل أصدقائي كانوا بأحزاب ومنظمات ومقاومة لكن أنا شخصياً ما كنت منتمية لإحداها. ولكن أي تخريب سياسي مثل هذا الحاصل اليوم للأسف في اليمن أو العراق لا يمكنه أن يقطع صلة إنسان ببلد أو مجتمع أو بعمارة أو مدن عشقها وعاش فيها. أنا إذا قالوا لي غداً أنهم ينتظرونني في اليمن، فبالتأكيد أذهب إلى هناك. حتى أنني أذهب من تلقاء نفسي دون دعوة من أحد. أما الآن فلا أريد أن أذهب إلا للقيام بشيءٍ محدد، وكنّا لحد الآن في حضرموت محميين، ولا قصف هناك، لكن للأسف وصلني أن هناك قصف في شيبام وتضررت مبانٍ فيها. شيبام هي أقدم مدينة لناطحات السحاب بالعالم، وهي مبنية في وادي حضرموت. البيوت فيها من 7 أو 8 طوابق مبنية من الطوب النيئ غير المحروق. وبغضّ النظر عن التخريب، من المهمّ أن نعرف أين توجد الحاجة لوجودنا. وأنا أعتبر أن من أهم المنظمات التي تتمتع بالنبل في الوقت الحاضر هي منظمة "أطباء بلا حدود" مثلاً، ولو كنتُ طبيبة لكنت التحقت بهم بالتأكيد. بينما أنا معمارية، وأتمنى أن أستطيع أن أقدم ولو شيئاً من خلال التعليم لجيل من الممكن من بعدي أن يقدر على تقديم أي شيء لم أستطع فعله. بالمقابل أنا في اليمن أو في أي بلد أذهب إليه أذهب لسبب واحد وهو إمكانية أن أساعد وأسأل نفسي بماذا يمكن أن أساعد، إن كان بصنعاء أو حضرموت أو غيرهما لا يهمّ، إن كان في الإعمار أو في إعادة الإعمار.
* ما هي ملاحظاتك حول تعليم العمارة في لبنان كونك أستاذة في الجامعة الأميركية ببيروت؟ وهذا أمر مهم في ظل الحديث عن الاستمرارية والنقل بين الأجيال.
- وقت مقابلة العمل في الجامعة الأميركية، سألتني اللجنة أنني، وقد درّست في العالم ولدي كتب ألّفتها وخبرة، فما الهدف من المجيء للتعليم في الجامعة الأميركية ببيروت؟ كان سؤالاً غريباً، حتى عندما التقيت بالأساتذة، هناك من كان لديهم تساؤل حول أنني قد درّست في بلاد وجامعات مشهورة والآن أتيت إلى هنا وإلى هذه الجامعة. قلت وقتها أنني أتذكر شيئاً قاله لي حسن فتحي عندما أتى إليه السّادات لكي يبني بيتاً في أسوان على أساس أنه يعتبر نفسه الفلاح المصري الأول. قلتُ له "كيف ستبني للسادات ونحن نعمل للفقراء والمجتمعات المعدومة؟". أجابني "عندما يأتي الأمير حتى أبني له بيتاً أصبح أنا الأمير وعندما أصمم للفلاح أصبح أنا الفلاح الذي يصمم للفلاح". هذا هو مبدأنا كمعماريين. في النهاية أنا قلت لهم هذا الشيء في المقابلة ولا أعرف ما فهموا من هذا الكلام، لكن أعرف أنه صحيح جداً. عملت سنين كثيرة في الغرب لكنني وصلت لقناعة: في الذي اسمه "الغرب"، كنت أعلّم الحضارة الطينية والمهتمون بها أكثر من بلادنا، وأعلّمهم عن حسن فتحي، وأعلمهم عن العمارة الإسلامية، وأعلّمهم عن التصميم الهندسي geometric formation and configuration، أي ما يسمّونه في العربية "الزخارف" ــ وهي تسمية متخلفة لأن هذا نظام هندسي ــ وهو علم له علاقة بالشعر واللغة والمقرنص والتعقيد والفلسفة، ومن بدأ بوضع أسسه الإغريق كما الكندي والفارابي وإخوان الصفا.
أتيتُ للتعليم هنا وأنا فرحة جداً بذلك، وبأن لدي كل هذه الخبرة ونشرت 12 كتاباً عن العمارة في المنطقة، فمن المفترض أن يكون لي تلامذة في المنطقة، وفي مدرسة مثل الجامعة الأميركية، وأن تكون بأفضل موقع حتى أقدر أن أعطي وأتخلى عن كم هائل من البحوث والمعلومات التي كنت لفترة طويلة أتابعها (ربما لمدة 40 عاماً). وكان هناك نقطة أنني في بريطانيا درَّست في الدراسات العليا وأغلب تلامذتي هم في هذه المرحلة (ماجستير أو دكتوراه). لكن الفرق أنه جامعة Architecture Association بلندن، كانت المحاضرات والمادة مفتوحة لكل الجامعة والتلاميذ من كافة أنحاء الجامعة يأتون لحضور المحاضرات حول العمارة العربية.
أعتقد أنه من الممكن الاستفادة من هذا هنا، وقد بدأت بإعداد مقدمات وبرنامج للدكتوراه في قسم العمارة، والآن نعمل على برنامج للماجستير المعمارية حول عمارة المنطقة، وبالتأكيد بالإضافة إليّ هناك زملاء متخصصون ومشاركون في هذا البرنامج وفي "العمارة المحترمة للبيئة" Sustainable Architecture التي أعمل عليها كثيراً، وأخذت فيها جائزة Global. إذاً فما أقوم به في العمارة الطينية أقوم به في العمارة المستدامة، وأدخلنا تخصصاً في العمارة المستدامة والبيئة كذلك تخصصاً في التكنولوجيا والتصميم. أشعر بالغبطة أنني استطعت أن أقدّم شيئاً ما في هذه الفترة القصيرة بالطبع. البرنامج يحتاج إلى وقت للحصول على الموافقات والعمل به، لكن على الأقل استطعنا أن ندخل برنامجاً جديداً في العمارة. الأهم من ذلك أنني أقوم بإعطاء مادة في العمارة والثقافة، أي ليس في التاريخ، والتلامذة يعتقدون أن التاريخ شيء مملّ ويدرسونه فقط لأنهم مرغمون على دراسته في السنين الأولى. لذا أستعمل كلمة ثقافة وأدخل مفهوماً، وأقدّم مادة حول الهندسة الإسلامية ضمن مفهوم الثقافة. وفي هذه المادة أذهب بهم إلى مدينة فاس مثلاً، فيبقون هناك لمدة أسبوع، ونقوم بمشاريع مع مؤسسة إعادة التأهيل في فاس والتي اسمها أدار Adare.. وأنا فخورة جداً بتلامذتي من هذه الناحية.
* هل يشعرك هذا أو يشعر تلامذتك بالتناقض بين ما يدرسون وبين المدينة التي يعيشون فيها؟
- عندما كنا في فاس دخلنا إلى مدرسة البوعنانية، وكنا نزور المدارس في الطريق، ولأنّ المشاريع هي في فاس القديمة، فقالت إحدى طالباتي: "لماذا يدرسونا عن le Corbusier وما بدرسونا عن هذا الشيء؟". هذا السؤال هو بداية لشيء..