في جميع أنحاء العالم يؤمن الناس بالحب، ويحلمون بالحب، ويتوقون إلى الحب، ويعيشون من أجل الحب، بل ويموتون وقد يقتلون من أجل الحب، لذلك يعتبر الحب أحد أقوى الأنظمة التي طورتها البشرية على مر الزمان، حتى صار له عيد يُحتفل به سنوياً. إلا أننا هنا لن نناقش فكرة العيد، بل سنستغل الفرصة لمناقشة فكرة الحب نفسها من خلال الدراسات الأنثروبولوجية بشقيها البيولوجي والثقافي.
بيولوجيا الحب
بينت الدراسات العصبية المتقدمة أن للحب أساسا بيولوجيا، لكن هذا لا يعني إغفال الثقافة، فالبيولوجيا والثقافة تشكلان معاً الحب بالطريقة التي نعرفها. أن نقع في الحب وأن نغرق في الرومنسية، وأن نشعر أننا نطير أو نمشي فوق السحب هي أمور بيولوجية، نشعر بها نتيجة لتدفقات هرمونية معينة في الدماغ. أما من نحب؟ وأين نحب؟ وكيف نعبر عن الحب؟ فهي أمور ثقافية طورتها مجتمعاتنا عبر الأجيال لتحقيق استمراريتها والسعي للحصول على أفضل شريك ممكن لضمان النسل الجيد.
من منطلق بيولوجي، بينت دراسات علمية أجرتها الباحثة الأنثروبولوجية "هيلين فيشر" (1)، استُخدم فيها تصوير الرنين المغناطيسي على أكثر من مئة شخص، أن الواقعين في الحب لديهم نشاط دماغي قوي في قاعدة الدماغ المسؤولة عن إفراز هرمون ال"دوبامين" الذي يمنحنا الطاقة والتركيز والشغف. وبالتالي يمكن اعتبار الحب نوعاً من الأنواع الأساسية لعمل الدماغ مثل الفرح والغضب والخوف وغيرها. بالإضافة إلى ذلك نجد أن المنطقة المسؤولة عن الحب في الدماغ تقع بالقرب من المنطقة المسؤولة عن الجوع والعطش، مما يوحي بأن أهمية الحصول على الحب للاستمرار في الحياة هي بنفس أهمية الحصول على الأكل والماء.
الحب عاطفة أما الزواج فهو عقد اجتماعي، وعبر التاريخ امتزج الاثنان معاً، لكن ظل التساؤل الصعب: أيهما يكون أولاً؟ الحب أم الزواج؟
طور الإنسان ثلاثة أنظمة دماغية للتكاثر وحفظ النوع، وتعمل الهرمونات مثل المحرك الذي يدفع للوصول للهدف خلال هذه المراحل الثلاث. المرحلة الأولى هي مرحلة الجاذبية الجنسية، تأتي بعدها مرحلة الحب الرومنسي الذي يقرر من خلاله الرجل والمرأة الارتباط ببعض، وأخيراً مرحلة مشاعر الارتباط طويل المدى التي تسمح للطرفين بالاستمرار بعد زوال مرحلة الانجذاب الجسدي. وهذه المراحل تتكاثف لتحقيق الارتباط القوي بين الرجل والمرأة بما يضمن تأبيد المجتمع واستمراريته.
الحب عند الشعوب البدائية
ثقافياً، يذهب الاعتقاد الشائع إلى أن الحب الرومنسي هو نتاج الثقافة الأورو- أمريكية. لكن هذا الأمر مجانب للصواب، فقد أثبتت الدراسات الأدبية أن حكايات الحب الرومنسي والقلوب المكسورة موجودة في الأدب الصيني منذ ألفي سنة، وأظهرت دراسة أخرى أجراها الباحث في الأنثروبولوجيا "ويليام جانكوياك" (2) مع زملائه عام 1992، أن الحب الرومنسي موجود في 91 في المئة من الثقافات العالمية التي تمت دراستها.
ظاهرة "أصقر" في المغرب العميق
26-03-2017
موسم الزواج الجماعي بالمغرب
06-07-2016
وثّق علماء الأنثروبولوجيا الغربيون في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين دهشتهم من الطرق المختلفة للتعامل مع "الحب" من طرف الشعوب "البدائية"، ومن ذلك توصيف بعض الشعوب بأنها متساهلة بشكل ملحوظ في العلاقات الرومنسية بين المراهقين، بينما البعض الآخر معارض لأي تعبير حر عن الحب. وعلى سبيل المثال لاحظ "برونيسلاو مالينوفسكي" (3) الذي درس جزر "التروبرياند" جنوب شرق أستراليا أن التروبريانديين يطورون علاقات عميقة من "الحب الرومنسي". ويصف كمية من "سحر الحب" المستخدم لإغواء الحبيب.
أما الأنثروبولوجية الأمريكية الشهيرة، "مارغريت ميد" (4) التي درست مجتمع "الأرابيش" في "بابوا"، غينيا الجديدة، فقد ذكرت أن الآباء هم الذين يختارون زوجات أبنائهم بناء على اعتبارات أسرية، وأن الفتاة تنتقل للعيش في عائلة زوجها الذي يكبرها بعدة سنوات عندما تبلغ من العمر ثمان سنوات فقط، وتبني مع العائلة الجديدة علاقة من الارتباط الخاص تدريجياً مما يؤدي إلى زواج متناغم في معظم الأحيان. وهنا يتحول الحب، الذي يعتبر شعوراً فردياً، إلى مصلحة اجتماعية، وتتحول الأنثروبولوجيا بشكل أساسي إلى فهم الآليات الجماعية التي تحكم الزيجات، تاركة جانباً المشاعر والدوافع الشخصية.
بَيّنت الأنثروبولوجية الفرنسية "جرمين تيّون" أن مجتمعات شمال إفريقيا تبنت نظاماً للزواج يجبر المرأة على الزواج بابن عمها حتى تبقى الأرض ضمن ملكية العائلة ولا تسمح لرجل غريب أن يكون شريكاً فيها، لهذا يكون الزواج في كثير من الحالات مرتباً منذ الولادة.
يعتبر الحب الرومنسي في العديد من الثقافات والحكايات الشعبية والقصص شيئاً خطيراً يجب الحذر منه. ففي دراسة أجراها "ويليام جانكوياك" وجد أن 94 في المئة من القصص الشعبية تحذّر الرجال من مخاطر التورط مع امرأة جميلة. فمثلا لدى "الإنويت" في آلاسكا حكاية شعبية يرى فيها صياد امرأة جميلة ويقوم بمطاردتها عبر النهر لمسافات طويلة ليموت أخيراً من الإرهاق، بعدها تتحول المرأة إلى غراب وتطير بعيداً. وتحذر القصة الشعبية الصينية من "جنية الثعلب" أو الروح التي تأخذ شكل امرأة جميلة من أجل إغواء عشيقها ثم قتله، وتقدم العديد من تلك الحكايات نصائح وإرشادات حول كيفية تجنب التعرض للإغواء أو التلاعب من قبل امرأة جميلة لكن سيئة السريرة.
هذه النظرة السلبية للحب الرومنسي كعاطفة خطيرة من الأفضل تجاهلها أو حتى إنكارها، هي نوع من الحماية الاجتماعية من خيبة الأمل المحطِّمة للقلوب في حال فشل العلاقة المبنية على الحب وحده، كما تعتبر طريقة ناجعة لتطويع الشباب المقبل على الزواج لتبني الاستراتيجيات الزواجية للمجموعة الاجتماعية التي ينتمون إليها، لذلك تنتشر هذه النظرة السلبية للحب الرومنسي في المجتمعات ذات الزيجات المدبرة خاصة في آسيا مثل الهند وأفغانستان والكثير من الدول الإسلامية التي يقوم فيها الآباء باختيار الزيجات لأبنائهم دون أن يكون لهم حق الرفض.
ومع ذلك، فإن فكرة الحب المتبادَل بين شخصين لا تزال قائمة في جميع أنحاء العالم، لكن يتم التعامل معها ثقافياً بطرق مختلفة، وإن كانت كل الثقافات تعمل على جعل الزواج هو النهاية الحتمية والسعيدة للحب، وحتى إن ذهبت بعض التوجهات التحررية إلى اعتبار الزواج مقبرة الحب، إلا أن الدراسات بينت أن الكثير من الأشخاص في عمر الخمسين والستين لا يزالون مخلصين لشركائهم ويظهرون العلامات البيولوجية للحب الرومنسي بعد عقود من أول لقاء، وهو ما يطلق عليه اسم "الحب البطيء"، المرتبط بالتعاطف والتحكم في العواطف والضغوط.
الحب قبل الزواج أم بعده؟
الحب عاطفة أما الزواج فهو عقد اجتماعي، وعبر التاريخ امتزج الاثنان معاً، لكن ظل التساؤل الصعب: أيهما يكون أولاً؟ الحب أم الزواج؟
تحولات الحب والسياسة
05-03-2014
أشارت الدراسات الاثنوغرافية لبعض المجتمعات القبلية إلى أن الأزواج كانوا في بعض المراحل من التاريخ يعتبرون غرباء أو حتى أعداء، إلا أنهم يتحالفون لغرض رئيسي هو الإنجاب. في هذه المجموعات، بدا أن الحفاظ على المجموعة عبر الانجاب هو الأكثر أهمية، في حين كان نادراً ما يتم الاعتراف بمشاعر الحب الرومنسي، بل قد يكون ذلك من المحرّمات، إلا في الأشكال المجازية التي تسمح بها الممارسات الثقافية مثل الشعر أو الأغنية أو الرقص.
في غينيا الجديدة وبحسب "مرغريت ميد"، يختار الآباء زوجات أبنائهم بناء على اعتبارات أسرية، وتنتقل الفتاة للعيش في عائلة زوجها عندما تبلغ ثماني سنوات، وتبني مع العائلة الجديدة علاقة من الارتباط الخاص. وهنا يتحول الحب، الذي يعتبر شعوراً فردياً، إلى مصلحة اجتماعية، وتتحول الأنثروبولوجيا بشكل أساسي إلى فهم الآليات الجماعية التي تحكم الزيجات، تاركة جانباً المشاعر والدوافع الشخصية.
ولهذا كانت الزيجات المدبَّرة في هذه الأحوال هي القاعدة، حيث كان أفراد الأسرة يساهمون في ترتيب من عليه أن يتزوج وممن سيتزوج، مع التركيز على عوامل مثل الوضع الاجتماعي والغنى والنفوذ والسلطة وغيرها من الاعتبارات. وعلى سبيل المثال بينت الأنثروبولوجية الفرنسية "جرمان تيّون" (5) أن مجتمعات شمال إفريقيا تبنت نظاماً للزواج يجبر المرأة على الزواج بابن عمها حتى تبقى الأرض ضمن ملكية العائلة ولا تسمح لرجل غريب أن يكون شريكاً فيها، لهذا يكون الزواج في كثير من الحالات مرتباً منذ الولادة.
ومع ذلك فإن الزيجات المدبرة ليست زيجات جامدة وفاشلة كما يبدو، فقد درست عالمة الأنثروبولوجيا "مارسيا إنهورن" (6) الزيجات المدبرة في مصر ولبنان ووجدت أن العديد من الأزواج طوروا حباً متبادلاً قوياً بعد الزواج، كما لوحظ نمط مشابه بين بعض الشباب في نيودلهي حيث وقع الأزواج الذين تمت دراستهم في الحب بعد الموافقة على زواج مرتب/ ويبدو أن الطرفين خضعا لتحول مفاجئ تجلى في المبادلات العاطفية والأفراح والأوهام المشتركة حول حياتهم المستقبلية مع بعضهم البعض، كما قد تعزز الحياة المشتركة، ذات الخلفية أو الاهتمامات المتشابهة، مشاعر الحب والمودة.
يُعتبر الحب الرومنسي في العديد من الثقافات والحكايات الشعبية والقصص شيئاً خطيراً يجب الحذر منه. وهذه النظرة السلبية هي نوع من الحماية الاجتماعية من خيبة الأمل المحطِّمة للقلوب في حال فشل العلاقة المبنية على الحب وحده، كما تُعتبر طريقة ناجعة لتطويع الشباب المقبل على الزواج لتبني الاستراتيجيات الزواجية للمجموعة الاجتماعية التي ينتمون إليها.
درس الباحث "فيكتور دي مونك" (7) مجتمع "درافيديان" المسلم في سريلانكا حيث يتم ترتيب الزيجات منذ عهد قديم، ووجد أنه يمكن للشباب الذين لديهم مكانة اجتماعية مماثلة وعلاقة قرابة مناسبة أن يلتقوا بانتظام، مما يوفر الفرصة لتطوير مشاعر الحب المتبادل، وقال أكثر من ثلاثة أرباع المتزوجين حديثاً الذين قابلهم في أواخر السبعينات من القرن الفائت أحبوا زوجاتهم قبل أن يتم ترتيب زواجهم رسمياً.
ووجدت دراسة مقارنة أجرتها الباحثة الأمريكية "باميلا ريغان" (8) وزملاؤها حول نتائج العلاقة في الزيجات الأمريكية الهندية القائمة على الحب، وتلك القائمة على الزواج المرتب اختلافاً بسيطاً بين الاثنين من حيث مشاعر الحب والرضا الزوجي على المدى الطويل.
ومع ظهور الانترنت والتكنولوجيات الحديثة، شهد الحب الرومنسي آفاقاً جديدة مع توفر خيارات لا حدود لها من الشركاء المحتملين، وصار العثور على شريك مناسب أمراً أكثر صعوبة، لكن هذا موضوع آخر...
1- Helen Elizabeth Fisher باحثة أمريكية معاصرة مختصة بالانتروبولوجيا البيولوجية استاذة في جامعة "روتجرز"، ولاية نيوجرسي.
2- William Jankowiak باحث أمريكي معاصر، استاذ في جامعة نيفادا، لاس فيغاس.
3- Bronisław Malinowski عالم بولندي من الرواد في علم الإنسان التطبيقي، توفي في العام 1942 في الولايات المتحدة الامريكية حيث كان يدرِّس.
4- Margaret Mead عالمة انتروبولوجيا ثقافيه أمريكية شهيرة توفيت في العام 1978. وهي صاحبة تلك الملاحظة التأسيسية: "إن أول علامة على الحضارة في الثقافة القديمة هي الدليل الذي وجدناه، وهو عبارة عن عظام لشخص اصيب بكسر في عظم الفخذ وشفي منه واستمر في الحياة. في مملكة الحيوان عموماً، إذا كسرت رجلك، سوف تموت لا مفر من ذلك، حيث انك لن تتمكن من الهروب من الخطر المحدق بك من كل جانب أو الذهاب إلى النهر لشرب الماء أو البحث عن الطعام مثلاً، زيادة على ذلك ستصبح فريسة سهلة للحيوانات المفترسة، في الغاب لا ينجو أي حيوان كُسرت ساقه، لعدم توفر الوقت لغاية شفاء العظم. إن عظم الفخذ المكسور والذي تمت معالجته الذي وجدناه، دليل على أن شخصاً ما آخر استغرق وقتاً للبقاء مع المصاب وحمايته والاعتناء به لغاية ان يتعافى. أن مساعدة شخص ما على تجاوز مصاعب الحياة هي نقطة البداية للحضارة. ان الحضارة مساعَدة مجتمعية".
5- Germaine Tillon انثروبولوجية فرنسية ، عملت في الخمسينات من القرن الفائت في الجزائر وتوفيت في العام 2008 عن عمر ناهز المئة عام.
6- Marcia Claire Inhorn متخصصة أمريكية معاصرة بالأنثروبولوجيا الطبية.
7- Victor De Munck استاذ مساعد في الانتروبولوجيا بجامعة نيويورك.
8- Pamela Regan عالمة نفس اجتماعي أمريكية معاصرة.