المديونية التونسيّة: القفز إلى الهاوية

كشفت ميزانية العام 2016 أن حجم ديون تونس قد ناهز 20 مليار دولار. هذا الرقم الذّي أثار استهجان الخبراء الاقتصاديّين وعدداً من منظّمات المجتمع المدني، لم يكن له التأثير نفسه على الحكومة التونسية الحالية، التي مضت قدما في سياسة التداين للتنفيس عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد منذ أكثر من خمس سنوات.
2016-06-09

محمد سميح

باحث من تونس


شارك
كريم ريسان - العراق

كشفت ميزانية العام 2016 أن حجم ديون تونس قد ناهز 20 مليار دولار. هذا الرقم الذّي أثار استهجان الخبراء الاقتصاديّين وعدداً من منظّمات المجتمع المدني، لم يكن له التأثير نفسه على الحكومة التونسية الحالية، التي مضت قدما في سياسة التداين للتنفيس عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد منذ أكثر من خمس سنوات.
منتصف شهر نيسان/ أبريل الماضي، أعلن صندوق النقد الدولي عن موافقته تقديم قرض جديد بقيمة 2.8 مليار دولار ضمن اتفاقية شاملة لإعادة هيكلة الاقتصاد التونسي. مبلغ قد ينقذ الحكومة لحين، في ظل احتقان شعبي متزايد نتيجة استمرار الأزمة الاقتصادية التي مسّت جميع فئات المجتمع. ولكن من جهة أخرى، فإن هذا الدين الجديد لن يكون سوى خطوة جديدة في سياسة الهروب إلى الأمام التي انتهجتها جميع الحكومات المتعاقبة.

الإنقاذ المشروط

في شهر أيّار/ مايو 2014، أعلن صندوق النقد الدولي إيقاف جميع القروض والمساعدات المبرمجة لتونس إلى حين استكمال حزمة الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة. الإنذار المبطّن للحكومة التونسية حينها جاء ردّاً على تلكؤ هذه الأخيرة في تنفيذ "نصائح" هيئات النقد الدولية بخصوص هيكلة الاقتصاد المحلي ومعالجة وضعية المؤسسات المالية العمومية. إنذار تزامن مع اشتداد الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدّلات التضخم إلى مستويات قياسيّة بلغت حينها 6.2 في المئة. لكن، وبالمقابل، لم تقْدِم مختلف الحكومات التي سيّرت البلاد خلال المرحلة الانتقالية بين 2011 و2014، على تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، وذلك لاعتبارات سياسية وانتخابية عدّة، واكتفت بتقديم الوعود والتعهّدات، حيث تميّزت تلك الفترة باضطرابات سياسية وأمنية أطاحت خمس حكومات وبقي ذلك إلى حدود الانتخابات التشريعية والرئاسية والمصادقة على الدستور التونسي الجديد في شباط/ فبراير 2016.

وتتلخّص حزمة الإصلاحات المطلوبة حسب المراسلات التّي تم الكشف عنها بين وزارة المالية التونسية والبنك المركزي التونسي من جهة، وصندوق النقد الدولي من جهة أخرى، في رسملة البنوك العمومية وتدعيم استقلالية البنك المركزي والمضي قدما في تدعيم الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص. إضافة إلى مراجعة منظومة الدعم والتحكم في كتلة الأجور ونفقات التسيير والتصرّف العموميّة، وأخيرا المصادقة على مشروع مجلّة الاستثمار الجديدة وقانون إصلاح القطاع البنكي والمؤسسات المالية، وأخيرا مشروع الإصلاح الجِبائي.

"شرعية" المضي نحو الهاوية

بداية 2015 كانت الانطلاقة الجديّة لسلسلة من الإجراءات الحكومية الرامية لتنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي. فالحكومة الجديدة ورثت تركة اقتصادية ثقيلة، بعجز في الموازنات العموميّة تجاوز 6 في المئة سنة 2015، وتراجع المؤشر الصناعي بـ0.9 في المئة، وتراجع معدّل الاستثمارات في مختلف القطاعات خلال الشهرين الأول من 2015 بـ25.3 في المئة، إضافة إلى أكثر من 600 ألف عاطل عن العمل متحفّزين إزاء سيل الوعود التي أغدقت على مسامعهم طوال الحملات الانتخابيّة.
وأمام تعاظم الضغط المطلبي، وتفجّر المواجهات في أكثر من محافظة، خصوصا في الحوض المنجمي والجنوب الشرقي للبلاد، واعتراف الحكومة باستحالة توفير اعتمادات جديدة للتنمية والتشغيل، عاد الحديث مجدّدا حول قرض صندوق النقد الدوليّ.
بين تاريخ اجتماع مجلس إدارة صندوق النقد الدولي في 13 أيّار/ مايو الفائت، وتولّي حكومة الحبيب الصيد زمام الأمور في أوائل 2015، بدت خطوات الحكومة التونسيّة متسارعة لتنفيذ حزمة الشروط المطلوبة لضخّ مليارين و800 مليون دولار في خزينة الدولة التونسيّة التي لمّح القائمون عليها في أكثر من مناسبة إلى اقتراب شبح الإفلاس منها والعجز المرتقب عن صرف الأجور. واستطاعت الحكومة التونسيّة فرض إجراءاتها "الشرعيّة"، مستفيدة من أغلبيتها النيابيّة، وتحالفها مع الإسلاميين.
البداية كانت بالمصادقة تباعا على رسملة البنوك العمومية في 6 آب / أغسطس 2015، وتمرير قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاصّ في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015. واصلت الحكومة المضي قدما في تقليص الدعم، خصوصا على المحروقات، وتجميد الانتدابات في القطاع العمومي للضغط على حجم الأجور في كانون الأوّل/ ديسمبر 2015.
مطلع 2016، أدى ضغط الشارع المستنزَف من البطالة وتراجع المقدرة الشرائية وارتفاع نسب الفقر (التي فاقت ثلث السكان في الشريط الغربي من البلاد)، إلى انفجار موجة من الاحتجاجات، طالت معظم المحافظات للمطالبة بالتشغيل والتنمية، وهددت بشكل جديّ استمرار الحكومة الحاليّة. فكانت ردّة الفعل الرسمية هي إطلاق المزيد من الوعود والتسريع أكثر في تنفيذ "الإصلاحات الهيكليّة"، لتتمّ المصادقة في 11 نيسان/ أبريل 2016 على مشروع القانون المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، وبعد ذلك بشهر، تمرير القانون المتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية.
في نهاية المطاف، نالت الحكومة التونسيّة جائزتها بالموافقة النهائيّة للبنك الدولي على إسناد القرض المرتقب. لكن وضعيّة الاقتصاد التونسيّ وعمق الأزمة التي تراكمت مسبّباتها طوال العقود الثلاثة الماضية، ستبتلع القرض الجديد ليعود الجميع إلى المربّع الأوّل.

الثقب الأسود

قد تتحوّل القروض إلى حلّ مقبول لدفع العجلة الاقتصاديّة وإعادة النشاط لمختلف القطاعات عندما تشحّ موارد الدولة وتغيب إمكانيات التمويل الذاتي نتيجة ظرف اقتصاديّ صعب، لتكون النتيجة استعادة عافية الاقتصاد المحلي واستئناف الإنتاج وخلق القيمة المضافة المرجوّة لتسديد القروض.
لكنّ الفرق بالنسبة للاقتصاد التونسي، يتمثّل في إنهاكه بالقروض السابقة، وتعطّل الإنتاج في مختلف القطاعات خلال الأشهر التي تلت "يناير"2011، حيث تراجعت مختلف المؤشرات الاقتصاديّة في ظلّ انكماش الدورة الاقتصاديّة وتراجع الاستثمارات المحلية والأجنبية نظراً لاضطراب الوضع الأمني والسياسي. هذا الوضع الجديد عمّق عجز الموازنات العموميّة، خصوصا مع ارتفاع ديون البلاد التي صارت تستنزف سنويا 53 في المئة من الناتج المحليّ الخام على حساب التنمية والاستثمار العموميّ. بل اعترف رئيس الحكومة نفسه، أنّ عجز الموازنات الماليّة يعود بالأساس إلى تفاقم الاستهلاك وغياب رؤية واضحة لمخطّط تنمويّ شامل. إذاً فإنّ الاستدانة ستكون من أجل تغطية المصاريف الاستهلاكيّة، وهنا يكمن ضرر هذه القروض.
فنجاح خيار التداين الخارجي مرتبط برؤية اقتصاديّة واضحة تقوم على تمويل مشاريع ذات مردودية اجتماعية واقتصادية عالية لتسهم في خفض نسب البطالة وخلق أرباح تمكّن من تغطية قيمة الديون وضمان استمرارية المشاريع الاستثمارية المنجزة. لكنّ السياسة التونسيّة القائمة على التداين من أجل تغطية نفقات الاستهلاك التي تبتلع 70 في المئة من موازنات تونس، وإن حقّقت انفراجا "وهميّا" على المدى القريب، فإنّها لن تلبث أن تعود بالبلاد إلى المربّع الأوّل من العجز والاختلال في الموازنات المالية ليرتهن الاقتصاد للمديونية. هذه المرحلة الأشبه بعمليّة التنفسّ الاصطناعيّ للاقتصاد الوطنيّ، حيث يصبح هذا الأخير عاجزا عن الصمود من دون تدفّق الأموال من الخارج: لتسديد الديون القديمة من جهة وتوفير السيولة لنفقات التصرّف من جهة أخرى.
الاستجابة "للإصلاحات الهيكليّة" للاقتصاد التونسي لم تكن تجربة جديدة، حيث شهدت البلاد في عهد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة انتفاضة شعبية عُرفت بثورة الخبز سنة 1984، وكانت ردّ فعل عنيف على قرار الحكومة آنذاك رفع الدعم عن الخبز في سياق تعديل منظومة الدعم الغذائيّ. ولم تتوقّف منذ ذلك التاريخ هذه السياسة القائمة على فرض الإصلاحات المسقطة من هيئات النقد الدوليّة بهدف "تحرير" الاقتصاد التونسيّ بالكامل وإخراج الدولة من الدورة الاقتصادية، وإن بنسق أقل سرعة وبمرونة أكبر. لكن ّالهزّة السياسيّة التي عرفتها البلاد سنة 2011، وارتداداتها القاسية على الوضع الاقتصادّي، مثّلا فرصة ذهبيّة للضغط بشكل أكبر على الدولة التونسية وإجبارها على الانصياع وتنفيذ الرؤية الاقتصادية الخاصّة بصندوق النقد الدوليّ مقابل مساعدات جديدة، وهو ما تمضي إليه الحكومة صاغرة.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تحالف "الشيخين": لكلّ مقام مقال!

محمد سميح 2016-07-28

الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة في سنة 2014، أعادت خلط الأوراق لتفرز خريطة سياسية بقطب واحد انصهر فيه الإسلاميون والليبراليون في ائتلاف هجين تشدّ مكوّناته الرغبة في الحكم والخوف من المواجهة.