في الثاني من نيسان/أبريل 2011، انطلقت أولى فعاليات "الفن ميدان"، التظاهرة الثقافية المستقلة الأولى - والأخيرة - المتولدة من حراك "ثورة يناير"، متخِذة من ساحة قصر عابدين مقراً لها، إلى أن قررت السلطات حظر نشاطها، بينما استمر وجود الساحة كفسحة عامة، لتكون المتنفّس الأقرب والمجاني لقاطني حي عابدين الشعبي بالقاهرة، حيث يجلسون في مساحات خضراء مفتوحة.
استمر بعد ذلك وجود الساحة حتّى نيسان/أبريل 2021، حين ظهر للعلن مشروع لتطوير حديقة القصر، أثمر عن "أكشاك لمطاعم ومقاهي محاطة بأسياج حديدية". ليست تلك الساحة ومصيرها استثناء بالطبع، لكنه المثال الأكثر فجاجة لما حمله المكان من رمزية تاريخية وسياسية وثورية، وتمثلاته في الذاكرة الاجتماعية/ المكانية لسكان المدينة.
السطوة على الفسحة العامة بعد 2013
صرح الرئيس عبد الفتاح السيسي في خطاب له عام 2018 أنّ ما حدث في مصر قبل سبع سنوات لن يحدث مرّة ثانية، في إشارة واضحة لثورة يناير دائمة الحضور في خطابات الرئيس، الذي يعتبر أنّ ثورة يناير تسببت في فوضى نتيجة فتح المجال العام. ليس وكأنّ الفوضى السياسية السابقة على الثورة هي ما أدت إلى الانفجار. لذلك كان الحل المثالي الذي طبقته السلطة هو الإغلاق التام والسريع لكل شيء.
بدأت السلطة الجديدة في اتخاذ خطواتها للهيمنة بعد 3 تموز/يوليو 2013، بادئة بشنّ حملات اعتقال واسعة، وإغلاق بعض المحطات الفضائية، وصولاً إلى سن قانون التظاهر الجديد بناءً على الإعلان الدستوري الصادر في الثامن من تموز/ يوليو 2013. وصدر القانون في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه.
أسدل قانون التظاهر الستار على أي محاولة للتجمهر من قبل الناس، ولم يلاقِ احتجاجات واسعة بعد الاعتقالات الاستباقية لمئات من رموز المعارضة أشهرهم علاء عبد الفتاح، بينما امتلأت الميادين بتظاهرات سُمح بها من قبل النظام، بناءً على طلب وزير الدفاع آنذاك والذي منحه الرئيس الحالي تفويضاً شعبياً لمحاربة العنف والإرهاب المحتمل.
تعدّى في بعض الأماكن - مثل ميدان التحرير – مجرد استلاب الحيز العام من عموم المواطنين كإثبات للهيمنة. فقد غيّرت السلطة معالم الميدان وحولته إلى مكان آخر لا يعرفه الناس، أشبه بمتحف مفتوح وتوظيف شركة أمن مهمتها حماية الميدان من وجود الناس فيه على مدار الساعة، فضلاً عن عربات الشرطة التي لا تغادره وتكثِّف وجودها أيام الجمعة وفي ذكرى "يناير" من كل عام.
القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/1)
25-01-2021
القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/2)
01-02-2021
حضرت السلطة بشكل آخر في أماكن قريبة من ميدان التحرير مثل ساحة قصر عابدين، التي جسّدت خلال العقد الماضي، مكاناً متحرراً جزئياً من سطوة الدولة، مجسداً بالأصوات والروائح والمشاهد المعبرّة عن الحياة اليومية للسكان. خلال سنوات قليلة استطاعت السلطات السطو على العديد من الميادين العامة. ففي أيلول/ سبتمبر 2013 أعلنت محافظة القاهرة البدء في أعمال تطوير ميادين وسط البلد، وخصت بالذكر علاوة على ميدان التحرير وساحة عابدين، طلعت حرب وسيمون بوليفار وعبدالمنعم رياض ثم سرعان ما انطلقت نحو ميادين أخرى لتحقيق السيطرة من جهة والربح من جهة أخرى.
لا أشجار بعد اليوم
برزت حملات تقطيع الأشجار في بداية عام 2015، ولم تسلم حتّى المساحات الخضراء المحمية بموجب الدستور. البداية كانت عندما استيقظ سكان منطقة مصر الجديدة شرق القاهرة على ما عرف وقتها بـ "مجزرة الأشجار"، إذ أزيل أكثر من 800 شجرة معمرّة، بالإضافة لـ 300 نخلة قديمة مثمرة، بعدما أسندت إدارة المحافظة أعمال تطوير "حديقة المريلاند" إلى "شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير"، لاستثمار الحديقة البالغ حجمها 50 فداناً، وإقامة مطاعم وأماكن ترفيهية داخلها. غير أنّ المحافظة بعد "المجزرة" أعلنت عن عدم مسؤوليتها عن عمليات الإزالة وأنّها من فعل الشركة دون ترخيص، وحررت محضراً ضدها بهذا الصدد.
تعدّى في بعض الأماكن - مثل ميدان التحرير – مجرد استلاب الحيز العام من عموم المواطنين كإثبات للهيمنة. فقد غيّرت السلطة معالم الميدان وحولته إلى مكان آخر لا يعرفه الناس، أشبه بمتحف مفتوح وتوظيف شركة أمن مهمتها حماية الميدان من وجود الناس فيه على مدار الساعة، فضلاً عن عربات الشرطة التي لا تغادره وتكثِّف وجودها أيام الجمعة وفي ذكرى "يناير" من كل عام.
تتالت مذابح الأشجار لاحقاً، منتقلة من القاهرة إلى الإسكندرية والمنصورة وبورسعيد والإسماعيلية. وفي الوقت نفسه الذي كانت السلطات تستعد لاستضافة قمة المناخ في مدينة شرم الشيخ في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، لم تجد محافظة الغربية شمال البلاد، حرجاً في الإعلان عن مزاد لبيع أكثر من 1500 شجرة كافور، بينما تخبرنا الأرقام الرسمية عن احتياج مصر إلى 58 مليون متر مربع من الحدائق، وهي لا تحتوي إلّا على 5.4 مليون متر مربع منها، أي أقل من 10 في المئة من الحد الأدنى اللازم توافره للسكان ويتراوح من 12 إلى 18 مترا مربعا للفرد الواحد، يحصل منها المواطن المصري على أقل من 0.5 متر مربع.
في دراسة نشرتها دورية نيتشر عن كثافة الأشجار حول العالم، وصل نصيب الفرد من الأشجار في مصر إلى شجرة واحدة فقط، وهي النسبة الأقل في دول شمال إفريقيا.
تعكس الأرقام المتوفرة اختلالاً واضحاً في نصيب الفرد من المساحات الخضراء، تتحمل فيه القاهرة العبء الأكبر كما تكشف دراسة صدرت عن جامعة القاهرة 2019، درست أكثر أحياء العاصمة احتياجاً لزيادة المساحة الخضراء لتقليل أثر ارتفاع درجات الحرارة، لتكشف عن أنّ كل أحيائها تفتقر للحد الأدنى من المساحات الخضراء، بالاستناد إلى الكثافة السكانية ومستويات الفقر في كل منطقة. كما خلصت إلى أنّ 13 من أصل 46 منطقة في القاهرة معرضة لمخاطر مرتفعة للغاية من التعرض لموجات قاسية من الحرارة.
تتالت مذابح الأشجار، منتقلة من القاهرة إلى الإسكندرية والمنصورة وبورسعيد والإسماعيلية. لم تجد محافظة الغربية شمال البلاد حرجاً في الإعلان عن مزاد لبيع أكثر من 1500 شجرة كافور، بينما تخبرنا الأرقام الرسمية عن احتياج مصر إلى 58 مليون متر مربع من الحدائق، وهي لا تحتوي إلّا على 5.4 مليون متر مربع منها.
جدير بالذكر أنّ نصيب الفرد من الغطاء الأخضر انخفض بنسبة كبيرة مقارنة بعام 2008، الذي بلغ فيه متوسطه مترا ونصف المتر في القاهرة الكبرى وفقاً لرؤية مشروع القاهرة 2050، الصادر عام 2009 والذي استهدف رفع متوسط نصيب الفرد إلى 18 متراً وهو الحد الأدنى المطلوب تحقيقه من قبل الدول النامية، مقارنة بنسبة تتراوح من 20 إلى 40 مترا مربعا للدول الأغنى.
نمط الإنتاج "الكارتي"
تتماشى سياسات السلطة في إعادة توظيفها للحيز العام مع نمط إنتاجها الحالي، إذ تعتمد مصادرها على الضرائب في المقام الأول التي بلغت نسبتها 78.5 في المئة من إيرادات شهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس من العام المالي 2021، بينما يتعاظم نمط الإنتاج الخدمي بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ابتداءً من تحصيل الرسوم من المواطنين على كافة الخدمات بما فيها المرور على الطرق السريعة التي عدّتها السلطة باكورة إنجازاتها التنموية، حيث فرض ما يعرف بـ "الكارتة" وهي رسوم يتم تحصيلها من السيارات المارة على الطرق والمحاور الجديدة، بعدما تمّ تقنينها في تعديلات قانون المرور الجديد، وليس انتهاءً بالاستيلاء على الساحات والميادين وتحويلها إلى أماكن مخصصة لإقامة مطاعم ومقاه تحصّل إيجاراتها وتندرج ضمن موارد الدولة.
سمح ذلك بفرز طبقي أكثر عنفاً عما كان عليه سابقاً، يسْهل الاستدلال عليه من نسب الوقوع تحت خط الفقر التي بلغت ذروتها عام 2018 إذ وصلت الى 32.5 في المئة من السكان (وفق الحصر الرسمي للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء).
مثَلت المجالات العامة المستحوذ عليها من قبل السلطة الحالية مساحات مُحررة من الفئات المستبعَدة طبقياً واجتماعياً. وهذا يوضّح لأي مدى تستخدم السلطة التخطيط العمراني وإعادة تقسيم المدينة كأداة لضمان استقرارها وفرض أسلوب معين من الحياة يرتكز على الأقلية القادرة على دفع كلفة هذا النمط، بينما يستبعد الأغلبية ويعمل على إزاحتهم من أماكن ابتدعوها لراحتهم.
في ظل حالة الاستثناء القائمة منذ قرابة عقد، تتقلص مساحات الهروب من سطوة السلطة. حاولت الموالد الصوفية التماسك أمام هذا التجريف، وهي بطبيعتها الكرنفالية حالة جماعية تشاركية في الخروج عن النظام على الرغم من كل التكثيف الأمني، وتمثل آخر ما تبقى من مجالات التحرر من ضغوط الحياة، وفرصة نادرة لزوالٍ - ولو لحظي - للفجوات الطبقية الكبيرة بين الناس.
منحت كارثة "كورونا" السلطة فرصة ذهبية للاستمرار في إلغاء أهم الموالد الصوفية، واستمرّت حتّى اللحظة في منعها بذريعة الإجراءات الاحترازية من الفيروس، على الرغم من عودة الحياة لسابق عهدها. وهكذا وجدت السلطة في إلغاء الموالد فرصة جديدة للاستيلاء على فسحة الفقراء الأخيرة.
خنْق تلك المساحات وإحكامها بالقبضة الأمنية تارة، أو بالوجود الاستهلاكي ووقوعها في أيدي المستثمرين تارة أخرى، لا يؤدي إلى زيادة الشعور بالاستبْعاد فحسب، بل يعمل على تعميق الشعور بالاغتراب عن المكان، ويشوّه تصور المستبعَدين عن المدينة وموقعهم منها، ويسلب من السكان الذاكرة الاجتماعية التي تربط بينهم وبين المكان من جهة، وبين دوائرهم ومحيطهم الاجتماعي من جهة أخرى.
منع الموالد
فتحت ثورة يناير 2011 المجال العام أمام أولئك المستبعَدين المقيدين بمخاوف الحياة اليومية، بينما جوهر عمل النظام السياسي يقوم على تضييق مساحة التواصل بين الأفراد وبث حالة من الشك والتوجس بينهم، ما يمَكّنها من السيطرة والإخضاع وتمرير ممارسة العنف بحقهم.
وفي ظل حالة الاستثناء القائمة منذ قرابة عقد، تتقلص مساحات الهروب من سطوة السلطة، وقد حاولت الموالد الصوفية في مصر التماسك أمام هذا التجريف. فالموالد بطبيعتها الكرنفالية حالة جماعية تشاركية في الخروج عن النظام رغم كل التكثيف الأمني ومحاولات السلطة إحكامه والسيطرة عليه. غير أنّ هذه المساحة الروحية تمثل آخر ما تبقى من مجالات التحرر من ضغوط الحياة، وفرصة نادرة لزوالٍ، ولو لحظي، للفجوات الطبقية الكبيرة بين الناس. الكل في المولد سواسية، غير أنّ كارثة كورونا منحت السلطة فرصة ذهبية للاستمرار في إلغاء أهم الموالد الصوفية ("الحسين" و"السيدة زينب")، واستمرّت حتّى اللحظة في منعها بذريعة الإجراءات الاحترازية من فيروس كورونا، على الرغم من عودة الحياة لسابق عهدها. وهكذا وجدت السلطة في إلغاء الموالد فرصة جديدة للاستيلاء على فسحة الفقراء الأخيرة.
"المجال العام": ما حدث في مصر، وتدقيقٌ في التعريفات (1)
22-01-2020
المجال العام والفضاءات العامة (2)
07-02-2020
منذ سبعينيات القرن الماضي، عمل النظام الحاكم في مصر على سياسة مدينية جوهرها طرد السكان وتحويل العاصمة إلى مركز جذب سياحي وتجاري، وإحلال السكان في المدن الجديدة المقامة في الصحراء. وقد بدأها الرئيس الراحل أنور السادات، ثمّ استكملها مبارك وتجلت تلك السياسة بشكل واضح في مشروع "رؤية مصر 2050"، الذي انطلق عام 2009، غيرَ أنّ ثورة يناير حالت دون تنفيذه. جاء تنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أعلن إنشاء عاصمة جديدة للبلاد، كمؤشر على السير على نهج أسلافه لكن بصورة أسرع.
استمرت السلطة على مدى عقد كامل في ممارسة التفريغ وإعادة هيكلة المدينة من جديد، وطمس معالمها القديمة لمحو ذاكرة المكان ومن يرتبطون به، في خطة سريعة ولكنها طويلة الأمد لتغيير وجه مصر كما يحلم الرئيس ويذكر دائماً في خطاباته، حين قال مثلًا: "إدوني 20 تريليون دولار وأنا أخلي مصر عروسة"! لكن التغيير الذي طال المكان لم يعبأ بمصالح الناس واحتياجاتهم ورغباتهم، وهو لا يعبر عن هويتهم، وليس إلّا جنتهم المطرودين منها لصالح المستثمرين ورجال الأعمال.