فخ فصل السياسي عن الدعوي

حركة النهضة، منذ أن لمّت شتاتها بعد سنوات الجمر والمنفى، أصبحت أحد أعمدة المشهد السياسي التونسي، مستفيدة من تشتت بقية القوى السياسية. ولقد أجبرها الانخراط في الحكم على تقديم تنازلات مؤلمة تتعلق خاصة بمقولة تطبيق الشريعة كمرجعية في الدستور الحالي، والقبول بالنص على مدنية الدولة، وهو تنازل فرضته القوى المجتمعية المدنية.
2016-06-09

فؤاد غربالي

باحث في علم الاجتماع، من تونس


شارك
ماحي بينبين - المغرب

عقدت حركة النهضة مؤتمرها العاشر في ملعب رادس الأولمبي، حيث كانت تعقد قبل خمس سنوات مؤتمرات "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم وقتها والمنحل بفعل ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011. استعراض جماهيري وتسويقي ومشهدي، عبر عنه الحضور الكثيف للقواعد والضيوف المحليين والأجانب، أولهم الرئيس السبسي "العدو السابق" والحليف الحالي لحركة النهضة الإسلامية ذات المرجعية الإخوانية، وكذلك عبر التوظيف المكثف للمسرحة السياسية مستعينة في ذلك بخبراء عالميين في مجال الاتصال السياسي. ولعل الرسالة الأساسية التي أرادت النهضة أن تمررها إلى جزء من التونسيين الذين يعارضونها بشراسة وينتمي أغلبهم إلى الطبقات المتوسطة المتعلمة المنخرطة في إيديولوجيا "الحداثة"، والمتوجسين من فكرة ''إعادة أسلمة المجتمع''، أن النهضة قد تغيرت، وأنها قد قطعت مع مرجعياتها الإخوانية، لتعلن بذلك ''خروجها" النهائي من "الإسلام السياسي" المحكوم بشعارات "الإسلام هو الحل" و "الإسلام دين ودولة".. وتدخل في نموذج "الحزب المدني" المبني على مرجعية الديمقراطية بمعناها الحديث، مثلما صرح بذلك زعيمها راشد الغنوشي وأكد قادتها التاريخيون. لكن التصريحات وحدها لا تكفي، والنوايا لا تفسر التغيرات التي تحفّ بالحركات والظواهر السياسية، بل يقتضي الأمر وضع الإسلام السياسي، وحركة النهضة بشكل خاص، ضمن السياقات السياسية والثقافية والفكرية الحالية، وتحولات المجتمع التونسي نفسه. فمثلما "لا تتغير المجتمعات بأمر سلطاني"، فإن التنظيمات السياسية من حيث هي تنظيمات إجتماعية لا تتغير هي الأخرى بمجرد عقد مؤتمرات وارتداء ربطات عنق و معانقة الخصوم السياسيين وعدم ارتداء الحجاب. الأمر يحتاج إلى كثير من الجهد، ليس على مستوى أدبيات التنظيم السياسي فقط بل على مستوى القاعدة الاجتماعية والرؤية والسلوك والثقافة السياسية السائدة.

التجميل والتغيير

حاول الطاقم الاتصالي لحركة النهضة في مؤتمرها الأخير إضفاء صبغة "جمالية" على الحركة وعلى منتسبيها القدامى والجدد، تقطع مع تلك الصورة النمطية لحركة يتسم قادتها عادة بتجهم الوجه والملامح مثلما جرت عليه العادة لدى التيارات الدينية المتشددة. فبدت الوجوه منشرحة، وحضرت المحجبات بألوان زاهية، وتصدرت بعض من نجمات الفن والتنشيط التلفزي المقاعد الأولى وارتدى بعض من "صقور النهضة" البدلات الإفرنجية بدل "القميص السلفي"، بعد أن كانوا بالأمس القريب يفتون بتجريم الاحتجاجات الإجتماعية معتبرين إياها ''فسادا في الأرض" وجب إقامة الحد على المشاركين فيها. تتساوق عملية التجميل هذه التي تمت مسرحتها إعلامياً من خلال عرض تقني فائق الحداثة، مع فكرة أن النهضة قد "تغيرت" وأنها لم تعد ''إخوانية" وأن الإسلام السياسي لم يعد النموذج المفضل، بل إن ''المدنية" و ''الحداثة" مع بعض المسحة ''الهويّاتية" المتعلقة بالانتماء الحضاري في جانبيه العربي والإسلامي هي المرجعية الأساسية. وبقدر أهمية هذا الإعلان، تظلّ فيه أعطاب من الناحية السوسيولوجية وحتى السياسية، ويظل هلامياً غير واضح الملامح.

تواترت التحليلات التي رأت في مؤتمر النهضة مجرد ''حيلة سياسية" لتثبيت التأقلم لا غير مع سياق محلي ودولي ثبت فيه فشل الإسلام السياسي وتهافت مقولاته، وتُشَن فيه حملة ضد الجماعات الراديكالية المتشددة التي تنهل من نفس المعين الفكري للحركات الإخوانية.

يبدو أن مقولة "فصل الدعوي عن السياسي" كانت بمثابة الطعم الذي رمت به النهضة لخصومها السياسيين التقليديين، وروّجت له كثيراً عبر كل ما تمتلكه من وسائط دعائية، دون أن يتم التأصيل النظري والفلسفي لهذا التحول. فحتى كتابات زعيمها راشد الغنوشي لا تزال تتحرك في الأرضية المعرفية للفكر السلفي التقليدي الذي يعطي مساحة للخلط بين النطاقات الدينية والسياسية، ودون أن تدخل كذلك الحركة في عمليات ''نزع السحر" والتشريح الفلسفي للمقولات الدينية التي تهيكل رؤيتها السياسية منذ تأسيسها في نهاية سبعينيات القرن الفائت وتحويلها إلى موضوع للنقاش العمومي. وعلى هذا النحو فحركة النهضة تعلن '' تغييراً'' مفرغاً من أية نظرية سياسية ومقولات تأصيلية لفكرة فصل ''الدعوي عن السياسي'' التي تعاني بدورها من مفارقات وتناقضات بيّنة. ذلك أن إعلان استقلالية 'الجناح السياسي عن الجناح الدعوي الذي سيتكفل به الصقور القدامى (تمت إزاحتهم من الواجهة، على غرار الزعيم التاريخي الحبيب اللوز) يعني في الحقيقة فتح المزيد من الهوامش الإستراتيجية لإعادة أسلمة المجتمع من القاعدة بعد أن تبين فشل إعادة أسلمته عبر امتلاك الدولة المتسمة في عمقها بالعقلانية والتنظيم، وكذلك بعدما تبيّنت شراسة المجتمع المدني التونسي وجزء من فئاته المتعلمة في فرض خيارات مدنية على الإسلاميين الذين لم يفارق حلم ''تطبيق الشريعة" الكثير من قادتهم.

كما يعني فصل السياسي عن الدعوي إعطاء مساحة للعمل الخيري الجمعوي ذي المرجعيات الدينية في التكفل بالمسألة الاجتماعية ومعالجتها، خاصة في النطاقات الحضرية والريفية المقصية بفعل السياسات النيوليبرالية التي لم يقف ضدها الإسلاميون يوماً. وهو أمر ينسجم مع اقتصاد السوق الذي يدافع كبار كهنته عن مقولة الانسحاب التدريجي للدولة من التكفل بالمسألة الاجتماعية. وفي اللحظة التي تغيب فيها الدولة عن التكفل بالاجتماعي، فإن الديني والدعوي والأخلاقي هو الذي يأخذ مكانها. وعلى هذا الأساس، فحركة النهضة تستفيد أيما استفادة من مقولة "فصل الدعوي عن السياسي"، حيث ستعمق انخراطها في المجتمع وبخاصة فئة الطبقات المتوسطة والشبابية المسكونة بالخوف واللايَقين إزاء المستقبل، بفعل الجمعيات الخيرية التي ستنفصل عنها على نحو شكلي، وبفعل الكتاتيب القرآنية والأئمة الموالين لها. وهنا بالذات تكمن المفارقة. ففصل السياسي عن الدعوي لا يبدو كفعل تغيير راديكالي لإيديولوجيا سياسية بل هو في الأصل إستراتيجيا سياسية عملت النهضة على تسويقها وتحويلها إلى شعار المرحلة. وهي إستراتيجيا فاعلة ستجعل النهضة في مواقع متقدمة مقارنة بالأحزاب اليسارية التي لم تقدر حتى الآن على التجذر الاجتماعي. يغدو الفصل وصلا وتمكينا. ومن السذاجة الاعتقاد أن حركة النهضة والحركات ذات المرجعيات التوتاليتارية (الأمة، الدين، القومية، العرق) تتخلى بسهولة عن أدوات الحشد والتعبئة التي تعتمدها، خاصة إن كانت المقولات الدينية احدى هذه الأدوات التي أثبتت فاعليتها ونجاعتها لحركة سياسية تتحرك في مجتمع لا يزال المقدس يهيكل رؤيته للعالم، ولا تزال تجربته التحديثية معطوبة وغير مكتملة، ولا يزال الفرد فيه هو "فرد منتصف الطريق"، يعيش معاناة المواءمة بين التقليدي والحديث، ولا يزال الاعتقاد الراسخ هو أن الدين شأن جماعي وعمومي وليس شخصيا وذاتيا وحميما.

فهل يمكن أن تتغير حركة النهضة دون وضع الدين الإسلامي نفسه موضوع تحليل تاريخي بعيداً عن السياجات الدوغمائية المريحة؟ هل من الممكن أن تتغير النهضة وراشد الغنوشي يحمل صفة "الشيخ" التي تحيل في مدلولاتها إلى نموذج سياسي وسلطوي يقوم على ثنائية ''الشيخ والمريد'' بمحمولاتها الرمزية التي تعني الطاعة والولاء، التي تتعارض مع الممارسة الحديثة للفعل السياسي.

زمن ''الإسلاموية الجديدة''؟

حركة النهضة، منذ أن لمّت شتاتها بعد سنوات الجمر والمنفى، أصبحت أحد أعمدة المشهد السياسي التونسي، مستفيدة من تشتت بقية القوى السياسية. ولقد أجبرها الانخراط في الحكم على تقديم تنازلات مؤلمة تتعلق خاصة بمقولة تطبيق الشريعة كمرجعية في الدستور الحالي، والقبول بالنص على مدنية الدولة، وهو تنازل فرضته القوى المجتمعية المدنية. وتتحالف النهضة حالياً مع حزب "نداء تونس" الذي يرأسه الباجي قائد السبسي في إطار ما اصطلح عليه بالتوافق، وفرضته طبيعة اللعبة السياسية والالتزامات مع القوى الدولية المؤثرة. وبدخول النهضة منذ خمس سنوات في منطق الحكم والدولة، صارت تنحو نحو "إسلاموية جديدة"، أو ما يصطلح على تسميته بـ "ما بعد الإسلاموية" التي تبزغ في ظل السياقات الحالية للعولمة، بعد أن اتضح الإفلاس الفكري لمقولات الإسلام السياسي التي هيمنت في السبعينيات والثمانينيات، لتأخذ مكانها رؤية جديدة يقول عنها عالم الاجتماع آصف بيات أنها ''تمثل سعياً نحو دمج التدين بالحقوق والإيمان والحرية والإسلام، بالتحرر". لكن مع هذا، لا تزال حركة النهضة ممزقة بين خطابات اللحظة التأسيسية والتنظيم الحديدي للحزب، وبين خطابات جديدة تبحث عن إعادة تشكيل للإسلام السياسي على نحو يتواءم مع منظومة حقوق الإنسان الكونية بما تعنيه من احترام للفرد كذات حرة ومستقلة، وبما يعنيه من اعتراف بالتعدد والإختلاف. بين هذا وذاك، يبدو أن السلوك السياسي والفكري لحركة النهضة لا يزال يتحرك في منطقة رمادية، أضفت على مؤتمرها الأخير الالتباس والغموض.

وقدرة الإسلاميين على التأقلم أفضل وأكثر فاعلية من فعل التغيير الجذري نفسه الذي قد تكون نتائجه وخيمة على حركة يدرك قادتها جيدا معنى التنظيم وفاعلية التحرك كـ "جماعة" بمعناها الطائفي. ذلك أن حركة النهضة ليست مجرد حزب يراهن على الوصول إلى السلطة، بل هي أشبه ما تكون ''بالمجتمع السري''. فكرة فصل الدعوي عن السياسي شعار فرضته مقتضيات المرحلة التاريخية والظرف. وهو ما تؤكده تحليلات الراحل حسام تمام الذي أكد على قدرة هذه الحركات على التأقلم مع التغيرات والتحولات وأن قدرتها الأساسية تستمدها أساساً من "مركزية العمل الجماعي ووحدة التنظيم في الفكرة الإخوانية وقوة التأسيس الديني لهذه الفكرة التي مثلت حماية كبيرة للجماعة".

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تونس: الثورة تنقسم على نفسها

كان 17 كانون الأول/ ديسمبر هو لحظة تكثيف معارضة التونسيين لتوصيات مؤسسات التمويل العالمية التي كانت تونس أحد "تلامذتها النجباء"، والتي أفرزت شروخاً اجتماعية، وجيوشاً من العاطلين عن العمل، ولا...

تونس: مثقفون هاربون من السياسة

لم تكن النخب الثقافية في تونس تتوقع أن يحدث تغيير جذري يطيح بالنظام، بل أن يُحْدِث النظام إصلاحات سياسية تتعلق بحرية التعبير والتعددية السياسية. تهاوي النظام كان الصفعة القاسية لغالبيتها،...