يقيم "الراب العربي" كنوع موسيقي "محْدَث" في تمفصلاتٍ تثير جدلا يصدر عن طبقات متراكبة لا يمكن إغفالُها، وتحديدا فيما يتصل بالتأسيس لما يُفترض أنهّ إنتاج مستويات مغايرة من الوعي المتفرّد داخل الجماعة التقليدية في بيئات تُلزم هذا الفرد، عموماً، إكراهاتٍ تنحو في خلاصتها نحو خنق أي إمكانات مفترضة للفعل الخلاق. وعيٌ متفرّد يصدم، على نحوٍ بالغ، الخارج الموضوعي، إذ يحيل المتلقّي، للوهلة الأولى، إلى دائرة من الغرابة والتفلّت تجانب مسايرة الذوق النمطيّ، قديمه وحديثه.
المدينة
نتحدث عن إيقاعات لا مجال فيها، بحال من الأحوال، لالتقاط النفَس. إنه سيلانٌ لا يخفت بين ذروة وأخرى، إلا أنْ يلائمَ ذلك التصدّع الجوفيّ "المخيف"، إذ يكون في خلاصته تصّدعا متصلا غير منفصلٍ بذاتٍ تنحو بتلك الإيقاعات إلى مستوى أوّلَ تلقائيّ من الانتشاء، هو التعبير الأصفى عن نقاءات كأنها مطمورة في الجسد المدينيّ، خلافا لإيحاءات السكون الريفيّ أو فسحة الأطراف. الجسد المدينيّ المحشور بالوقت، أو إنه الجسد الذي يلتقط الوقتَ أصواتاً وقرقعات وتفرّعات كلامية متشظّية عليها أن تسلك، قبل التخريج الموسيقيّ، سبيل التأصيل. والتأصيل في هذا الحيز هو إعادة ربط إيقاعيّ بين التحولات المدينيّة الخافتة والحادثة، التي هي بالكاد مرصودةٌ، وبين حاجة هذا الجسد المدينيّ لأن يعيد إنتاج مادته المتفلّته، الخام، باعتباره بالدرجة الأولى جسدا/ فعلا/ ذاتاً تعي وجودها في محيط من الأجساد، وتاليا، ذاتٌ تعي وجودها الجماعي في حيزٍ هو "المتروبول"، بكونه بوتقة قد لا يجدي السعي من جوفها إلى إقامة تمفصلات ثقافية حادة في ماهيتها الحديثة. بل يخيّل للرائي والسامع أن إيقاعات الراب هي تأسيس للذات الاجتماعية المدينيّة كبناء يسلك بتوتّره الشديد إزاء التفاصيل المادية خارجاً، وبالتقاطه السريع، إنّما اللامعِ، لملكة الوقت/ الحال.. يسلك مسلكا يساوق، بدرجة كبيرة، يوتوبيا المتخيّل المدينيّ ومآلها الثوريّ في ذهن الفرد الرابيّ الفاعل.
الربط
في الشأن النصيّ، هناك مزاجٌ بليغٌ (بلاغة) يأتلف معجم النصوص الموغلة في الإيقاع. معجم بمروحة واسعة من الامتدادات الأفقيّة والرأسية. إنه، أيضا معجم يتعبّد بالإيقاع الذي هو، في هذا الحيز، جذب للتراكيب التي لا يمكن أن تستقيم، بحال من الأحوال، من دون أن تأخذ مجالها الواسع في محاكاة الطبقات التي تتشابك خلالها المتون القولية القديمة مع ما يفد على الهويّة المدينيّة العربيّة من "خارج". وليس الـ "خارج" هنا، هو الآخر المتثاقِف الذي يتقمص نوعا إيقاعيا أو نبرا منفصلا، فيوقع الذاتَ في التدخيل والتبهيت، بل هو الآخر الذي يتوحد ذاتاً مع تصورات إنسانية مشتركة تتمثل في مآل ومغزى"المتروبول" الحديث. فالمعجم واللغة الرابيّة ليست، إذا، تطويعات غضبيّة عشواء يراد لها كيفما شاء أن ترْكب الإيقاع، بل هي ـ على فداحتها القولية، وجنونها النفَسيّ المتوحش وتقطيعاتها الشوراعية الفسيحة والبالغة ـ تُقيم في البلاغة، من وجه كونها تتصل بأنسجة التعبير التحتية في أصول التمثلات والاقتباسات المتنية القديمة، وإن بدا ظاهراً أنّها تنجز جهوداً مضنية للإفلات من كلّ تجذير. إنه المعجم الإيحائي إذ يحيل مراراً وتكراراً عند كل دورة أو شوط إيقاعيّ إلى مستوى من مستويات الذات التي تحاول الانعتاق. وهو انعتاقٌ من المفترض أن يتأسس في العمق على وعي ذاتي "عضويّ" بتوظيفات المتون القديمة وإمكانات الغنائيات التراثية والمناطق الأكثر وعورة في اللغة، كإمكان تخييليّ أول صدر عنه "الوحي/ التجربة" مكيّاً ومدنياً. نعني اللغة باعتبارها على الدوام، المصدر الملهِم (Muse).
الجسد الأدائي
ولتشريحٍ أكثر إيغالا، وبنظرة على أحد عروض الراب العربي الذي استضافه مسرح "مترو المدينة" مؤخرا في بيروت، حفل "إنما المسوخ إخوة"، نستطيع الانتباه إلى دلالات الحركة/شكل الجسد المخلوق (مسوخ) في تكوين هذا الوعي الفرديّ بالذات. من غير بلد عربيّ، أسماءٌ من نوع "محراك" و "الراس" و "الدرويش".. تحيل إلى توظيف مركزية الجسد الأدائي في توصيل ما يفترض أنه احتجاج حركيّ على نحو بالغ الشراسة. إنه، في العمق، الفعل الإيقاعي الفالت والمالئ المساحة، جيئة وذهابا، إذ يكون متماسّا مع سطوات بصريّة في الشاشة لا تقيم حدوداً بين المعنى المتخيّل عبر استدخال الصورة ذهنيا مع الإيقاع. إنّها الحركة التي يراد لها أن تكوّن جسدا لغويّا كلاميّا، أو أنّ كلاماً لغوياً هو في طور التجسدّ الحركيّ فوق الخشبة عبر مستوى من مستويات الإدماج والتلبيس على المتلقي الذي يصير في مستوى ثانٍ أو موازٍ مدمَجاً بطبيعة الحال في المسار نفسه، أو التّدرّج النفسي ذاته، بأداة انسياقه الإيقاعيّ أيضا ومن ضمن النشوة الإيقاعية العامة. هنا، تغدو ثيمة "تأصيل الرابّ" كحدث مدينيّ وقتيّ خلاق أكثرَ جلاء، إذ تتداخل مستويات التدرّج والمسار والمقام وإعلاء شأن الجسد المتحرّك. ذلك الجسد الذي نعرف أنه أداة مركزية في معجم الموروث الصوفيّ والإشراقي. زد على ذلك أنّ الجسد قد يصل بالمتدرج السامع إلى أن يخطف، في الراب أيضا، كامل الحيز الإبداعي على المسرح عبر مقاطع يتكاثف فيها التركيز الذهنيّ في عملية المحاكاة: تقاطيع اليدين قد توحي بالتفكك، التوازن في الحركة العرضيّة لساقين أمام الخشبة قد يوحي بالدقة العبثية اللانهائية المضنية للأشياء بتكراراتها، الرأس المنهزم الدوّار المتصبب عرقا قد يحيل في الخلاصة، إلى بؤس دورةِ المتروبول.
على ما تقدّم..
نستطيع إذاً أن نعيَ بدرجة معقولة حاجتنا للرؤية إلى "الراب العربيّ" من خارج تعميمات وتسطيحات مفاهيم "الوافد" و"الدخيل". يفترض بدءا أن تتأسّس الرؤية إلى "الراب العربيّ" لجهة كونه بالدرجة الأولى مفهوما ((Concept. ونقول مفهوما في سبيل القدرة على تأطير المنجز، مهما يكن حجمه وربطه بسياق زمني واجتماعي (كرونولوجيّ سوسيولوجيّ)، مادي/اقتصاديّ يتصل، في العمق، بتفاوتات المدينة العربية وتحولاتها أو بأحوال الجماعات المتعددة من ضمن الثقافة العربية العامة. في هذا الحيّز، نرى إلى الرابّ العربي كنوع وليد، أداةَ احتجاج جسديّة في الظاهر، تسعى بأنماطها الصادمة والكاسرة إلى أن تنتج جسدا/ فعلا حرا. والحرية هنا هي السعي المتواصل إلى هدم التواضعات الجمعيّة التي هي الخلفية التأسيسية الذي تعاكس كل سعي فرديّ بوجه الجمع، لتفكيك السلطة على الأجساد أو السلطة بالأجساد. بهذا المعنى، نفهم بؤرة الراب، التي تعاند إكراهات لا حصر لها، على أنها بؤرة تنفلش، من غير قصد، صوب أفراد (شبان وشابات) دلفوا إلى المدينة، من خارج أو في المدينة من تجاويفها، احتجاجا على أنماط إنتاج جماعاتهم القديمة للمعنى، كلاما وتعبيرا محافِظاً، بسلوكيات الجسد، في سبيل توليد المعنى الذي يضمن، بالحد الأدنى القدرة والإحساس بقيمة الفعل.. كنواة انقلاب من خارج الروتين. الفعلُ مدرجاً، بالنتيجة في عملية أسلبة عيش، يكون جوهرها تثوير كل ساكن.