تعدّ نشرات الأخبار الضحايا. هؤلاء لا ينقصون أبداً، فالعدد بتعبير مذيع النشرة "مرشح للارتفاع"، إذ كلّما عرفنا أكثر عن الوضع كلّما كثروا، فليتنا لا نعرف. يكبر العدد فيما تُكتب هذه السطور، فيما تُقرأ هذه السطور... يقولون أكثر من 9000 قضوا، وأكثر منهم ما زالوا مفقودين أو يتعذر الوصول إليهم ولا نعرف بأي حال يخرجون من تحت الردم. كل دقيقة إضافية سيفٌ مسلط على الرقاب والأرواح.
إنها أيام ثقيلة.
زلزلت الأرض لـ40 ثانية فقط فجر يوم الاثنين، الساعة 4:19. أربعون ثانية بدّلت عالمنا مرة أخرى، وهو الذي لا يعرف استقراراً على امتداد المنطقة، وبالأخص في سوريا منذ ما يزيد عن عقد من كافة أشكال "الانهيارات".40 ثانية كانت أكثر من كافية لتنهار كل المباني التي شيدناها في دواخلنا، ليتراكم حطامها قرب حطام المباني المادية التي نراها على الأرض وفي نشرات الأخبار.
في تركيا، مناطق بأكملها سويت بالأرض، وكان لها النصيب الأكبر من عدد الضحايا.
في شمال سوريا وشمالها الغربي، تزداد المأساة تعقيداً، إذ تسيطر أكثر من جهة على مناطق متجاورة. ويصير كلّ تقطيع لأوصال البلاد، من أي طرف كان، وكلّ منع للمساعدات وفرق الإنقاذ وتصعيب لحركة وصول المساعدات العينية والمالية، هو إجرام مضاعف مئات المرات في هذه الأيام! 40 ثانية من الزلزال كأنها 12 سنة من الحرب.. هيَ مأساة كاملة الأركان، حتى يكاد لا يصدقها عقل!
يقف المصابُ والناجي في عراءٍ مهول، ويلتفّ على رقابنا جميعاً حبلٌ لئيمٌ خانقٌ يُسمّى العجز.
يخرق هذا العجز ولو لثوانٍ قليلة خبر من هنا وفيديو من هناك لإخراج ناجين من تحت الأنقاض. ثمة صورة لفتاة هادئة تحضن رأس أخيها الأصغر تحميه من الأذى، تحمينا من اليأسِ الكامل. وثمة فيديو لطفل حديث الولادة يخرجه مسعف من بين ما بدا أنه موت مطبق.. ثم فيديو آخر لإخراج فتاة وعائلتها بالكامل أحياء من تحت الحطام في إحدى قرى شمال سوريا. صوتُ المهللين المكبّرين وصيحاتهم لحظة فرحٍ شحيحة، تأتي في الاستثناء فقط، في عزّ الألم العميم، لكننا ننتظرها كأنها آخر سبب لعدم الاستسلام لليأس/ للعجز.
لن نشاركَ صور الموت، فهي كثيرة، أكثر من احتمال المرء، وقد رأيناها هي نفسها في يوميات الحرب والقصف والتفجيرات البلا رحمة (وهذه – للفظاعة – من صنع البشر!). لن نشارك صور "قبل وبعد" لأحياء كانت يوماً عامرة بأهلها، فهذا الدمار أيضاً مألوف - أكثر مما ينبغي.. صورة واحدة أحياناً تكون حقاً بألفِ كلمة. صورة ابتسامات الناس الذين عزّت عليهم حياةٍ واحدة لم تُخطَف، لطفلة حيّة داخل مشهدٍ للموت. هم أنقذوها، صحيح، لكنها هي، لمجرّد أنها حيّة، أنقذت فيهم وفينا شيئاً أيضاً.