في حضرة "يناير"، رسالة إلى الطبيب محمد غنيم قبل باقة الورد

يطلِق عليهم البعض اسم "المستقلين". يخطئون ويترددون ويغضبون لكن يدركون أنّ عليهم، أكثر من غيرهم، التحلي بالهدوء والموضوعية دون الوقوع في براثن وسماجة الحياد. فمتى تشهد مصر من جديد جمعاً مستقلّاً مبادِراً بنّاءً فريداً، يغتنم ـ كما غنيم ـ كل فرصة لتحديد مكمن العتمة من أجل فتح طاقة يدخل منها النهار؟
2023-01-29

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
ميدان التحرير، القاهرة.

استمعت إلى تلك الكلمات التي تحمل الكثير من الذكاء والشموخ والسعادة، فنزلتْ بمكانة خاصة في نفسي، سكنتْ في رحاب ساحة "التأسي"، تلك التي تضم منمنمات نجمعها على طول الطريق من مواقف وقراءات ومشاهدات لأشخاص نعرفهم ببساطة عن قرب، وآخرون لا تجمعنا بهم صلة غير أثر واسع الصيت استطاع أن يهديك على البعد شارة وإشارة.

كان هذا في افتتاح مؤتمر طبي عالمي في إحدى العواصم الأوروبية، حيث وقف محمد غنيم، الطبيب المصري الشهير، رائد زراعة الكلى بالشرق الأوسط، والسياسي المنحاز دون انتماء حزبي أو تمثيل نيابي، وقال: "أشكر اللجنة المنظمة على دعوتي لهذا الاجتماع. أنا من مصر، ولكني لست من القاهرة. القاهرة كارثة عمرانية. أنا من مدينة أصغر في الجزء الشمالي الشرقي من الدلتا، اسمها المنصورة. حرفيا، المنصورة ترجمتها المنتصرة .The Victorious ولماذا سميت المنصورة؟ منذ 800 عام، قرر الصليبيون غزو مصر في طريقهم لغزو القدس، فجمعوا جيشاً كبيراً من فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وهو ما نسميه الآن الناتو... جاء الناتو لغزو مصر. في هذا الوقت كانت مصر قوية، فهزمنا الناتو وأسرنا القائد العام للقوات المسلحة، الملك لويس التاسع. ولكن أين نسجن هذا الرجل المهم؟ في غوانتانامو؟ وإلا في أبو غريب؟ لكن المصريين لم يكونوا أقوياء فقط، بل كانوا متحضرين، فوضعوه في منزل القاضي بالمنصورة. بعد ثلاثة أشهر، دفع الأوروبيون للمصريين فدية كبيرة من المال. لكن مع الوقت اندثرت الحضارة المصرية، وأصبحنا جزءاً مما يقال عنه الدول النامية. وفي الدولة النامية، عن طريق الفساد والاستعمار من جانب الفرنسيين والإنجليز، ذهب المال مرة أخرى للبنوك الأوروبية في حسابات سرية، وبقى جزء بسيط من المال في المنصورة، وهو الذي بنينا به مركز أمراض الكلى والمسالك البولية في المنصورة" (1).

البروفيسور محمد غنيم

***

أخبرت من أهدى لي هذا المقطع ذات صباح قريب أنّي أتمنى لو أستطيع أن أرسل لهذا الرجل باقة ورد في مكانه بمدينة المنصورة. وهي ليست بالمهمة المستحيلة لكنها لا تخلو من الصعوبة، خاصةً في هذه الأيام الشائكة التي يعكر صفوها العالمي حروب واحتباس حراري ويمْرضها على امتداد الإقليم هوان العرب وعربدة أجهزة المخابرات المختلفة والموساد ودواعش التنظيم، أما محلياً فيكسوها غبار الطريق من وإلى القاهرة وضبابية الوضع العام في مصر وغلاء الأسعار.

"أنا من مصر، من مدينة المنصورة،The Victorious . منذ 800 عام، قرر الصليبيون غزو مصر في طريقهم لغزو القدس، فجمعوا جيشاً كبيراً من فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وهو ما نسميه الآن الناتو. آنذاك كانت مصر قوية، فهزمنا الناتو وأسرنا القائد العام للقوات المسلحة. ولكن أين نسجن الرجل المهم؟ في غوانتانامو وإلا في أبو غريب؟ المصريين كانوا متحضِّرين، فوضعوه في منزل القاضي". 

لكن هل الصورةُ فعلأً ضبابية، أم هذه محاولةٌ للتخفيف عن النفس؟ ما هو الضبابي في كل هذه القتامة؟ أقول لنفسي إن القتامة أكثر وضوحاً وصرامة من نصاع البياض أو تأويلات الأمل في ذلك الصباح الذي زارنا في مثل هذه الأيام قبل اثني عشر عاماً، صباح الخامس والعشرين من يناير، وما تلاه من أيامٍ ثمانية عشر. أنطقها بشكل خافت وأنا أكتب، وعلى الرغم من هذا، يصعد من داخلي في مكانٍ ما صوت جموعٍ تردد الهتاف... فهل هذا محض حلم أم لعلها أعراض التنفس تحت الماء؟ فنحن كما نعلم ويعلمون، نحيا حُطاماً.

"نحيا حُطاماً"، أهتف بها أمام مرآة الحمام ويرد عليّ أكثر من صوت بأكثر من هتاف، أميز من بينهم في تلك اللحظة صوت الطبيب محمد غنيم بقامته العالية، يأتي من ركنٍ بعيد في الميدان : "تحيا مصر".

هل أصبح هذا الهتاف يعني لي ولغيري ـ حقاً ـ شيئاً كثيراً ؟ أم أننا لم نعد نعي ما يعنينا إذ نتكاتف ـ كما نعلم ويعلمون ـ قطرةً قطرة على جدار الأيام حزناً وغياباً؟

"في الدولة النامية، عن طريق الفساد والاستعمار من جانب الفرنسيين والإنجليز، ذهب المال مرة أخرى للبنوك الأوروبية في حسابات سرية، وبقى جزء بسيط منه في المنصورة، وهو الذي بنينا به مركز أمراض الكلى والمسالك البولية".

إن اثني عشر عاماً بالتأكيد تفي بالغرض حتى يصل الجميع لاكتشاف مكمن المرض، إلا أن مِن ضمن ما يُحسب لهذا الطبيب/السياسي/الإنسان أنه قال ذلك بعد مرور أقل من اثني عشر يوماً: "ليس صحيحاً أن نترك الميدان الآن".

قال الرجل رأيه ضمن المجموع الواسع لـ"الجمعية المصرية للتغيير"، تلك الجمعية المؤثرة التي ضمت أهم أسماء النخبة المصرية، وجاءت في العام 2010 كحصاد لتاريخ طويل من النضال السياسي الذي له ما له وعليه ما عليه على مدار خمسين عام، وكان من الطبيعي أن يكون على رأسها رموز الجيل الجامعي المصري في فترة السبعينات من القرن العشرين، ناضلوا كلٌ بأسلوبه وفي ظل مقتضيات كل مرحلة، وصلوا إلى الميدان إثر دعوة شبابية مستقلة واجتياح شعبي له في "جمعة الغضب"، اجتمعوا في مقر الجمعية المؤقت صباح 29 كانون الثاني/ يناير 2011. فقد أصبح الميدان لنا، بيتنا، وصار الدخول والخروج من وإلى الشوارع المفضية إليه أمراً كريماً.

توالت الاجتماعات الصباحية والمشاورات المعتادة وغير المعتادة، يملك كل من حضرها ولا زال على قيد الحياة والحرية الفرصة كاملة ليحكي عنها وعن غيرها من التفاصيل التي غادرها الزمن، ولكنها تحتفظ بقيمتها كدروسٍ مستفادة. على كل حال، جاء بيان "خلع مبارك". وأياً كانت درجة تباين آراء النخبة السياسية حول صحة القرار القادم، فقد عاد الشعب إلى بيوته بفرحة أولى غريرة. لعله أمر يتعلق بحديث عهده بالتجربة أو بطبيعة الشعوب الممتدة حول النهر التي حيناً تزيد الطين بلة وحيناً تحيله نهاراً أخضرَ ممتداً، وقد ظنوا أن أجمل النهارات قادم في صباح الثاني عشر من شباط/ فبراير، فمشطوا الأرصفة ونظفوا الميدان.

من يومها الذي كان قبل اثني عشر عاماً، لم تقدّم النخبة للميدان أو الواقع السياسي سيناريو مكتمل الحيطة والحرص والحصافة. تخبطوا مرةً وعشرة بينما دفع الشباب ولا يزالون الأثمان المُرة. فهل كان "نموذج" غنيم ومن مثله يملكون الإقدام على فعلٍ أكثر قدرة على إحكام اللحظة؟ وهل لا زالت ثمة فرصة؟

ما هو المقصود بتعبير "نموذج غنيم"؟

إنهم هؤلاء المبتكِرون المكررَون داخل سياق كل حركة وطنية، ممن لهم أثر لا يثير الريبة ولا يقع ـ كثيراً ـ تحت سهام صائدي النوايا وعاشقي التأويل والتهويل، ممن لم يكتفوا بالأثر القائم على البناء خارج مساحات الاشتباك بل انخرطوا فيها بهوية متفردة وأسلوب خاص. هم في خانة المعارضة أغلب الوقت، ولكن من باب طرح الحلول أولاً والبحث عن "كلمةٍ وسطى"، عدا في اللحظات الحاسمة والحرجة.

"ليس صحيحاً أن نترك الميدان الآن". قال الرجل رأيه ضمن المجموع الواسع لـ"الجمعية المصرية للتغيير"، تلك الجمعية المؤثرة التي ضمت أهم أسماء النخبة المصرية، وجاءت في العام 2010 كحصاد لتاريخ طويل من النضال السياسي الذي له ما له وعليه ما عليه على مدار خمسين عام.

هؤلاء، ممن يفضّلون دوماً عدم رفع رايات حزبية أو خوض معارك انتخابية، دون أن يعني ذلك إلصاق اتهامات ساذجة تقليدية حول الانخراط بالعمل والتمثيل السياسي، بل يشجعون المتحمسات والمتحمسين عليه، وفي الوقت نفسه لا ينفون عن ممارسيه أثر الخطايا.

هم منهم لا عليهم. يطلق عليهم البعض اسم "المستقلين"، يخطئون ويترددون ويغضبون لكن يدركون أنّ عليهم، أكثر من غيرهم، التحلي بالهدوء والموضوعية دون الوقوع في براثن وسماجة الحياد.

إنهم أناس بمحاذاة الأضواء لكن لا تكسوهم الظلال، بمحاذاة النصر لكن لا ينخرطون كاملاً في الاقتتال، يتبادر إلى الذهن ضرورة حضورهم الجمعي في لحظات الحسم، وتبقى القيمة العليا لوجودهم حين يهمون للمبادرة في لحظات الحيرة، ويصبحون هم أنفسهم "الكلمة الوسطى" التي يلتف حولها الجمع.

من علماء الأزهر في أواخر القرن الثامن عشر إلى الأعيان من أعضاء "الجمعية الوطنية" إبان الثورة العرابية 1882، إلى ائتلافات المثقفين والمثقفات منذ العام 1919 وحتى الآن... نخبة واسعة رنانة تتسع قماشتها من أدوار التفاني والتجرد والاستشهاد إلى التملق والتكسب غير الشريف والهروب وقت الحسم، والخيانة...

يحتل أرباب العمل الصحافي والكتابة الإبداعية مساحات واسعة كأمر بديهي، وفي منطقة مميزة يأتي أصحاب مبادرات التنمية والعمل الخيري، وكذلك المحامون والمدافعون عن الحريات، وفي مكانة خاصة يأتي الرواد في مجالات علمية وعملية وأساتذة الجامعة ممن لديهم اهتمام سياسي. وعليه كان من الطبيعي في بلدٍ يعصره الفقر والجهل والمرض، أن يكون للأطباء دورٌ مميزٌ وفق ذلك السياق، فتواترت الأسماء على مدار الخمسين عاماً الأخيرة وحتى الآن، وقد انتقل أصحابها من دورٍ لآخر، اقتراباً وابتعاداً عن السلطة، ويبقى تقييم كل منهم ـ كغيرهم ـ أمراً يخضع للتقديرات الشعبية وتأويلات التاريخ.

لكن لماذا أتحدث ها هنا عن الطبيب غنيم بشكل خاص؟

طريق لم يقطعه الورد

أفكر في الطريق الذي لم يقطعه الورد، وأفكر في ما سمعته من هذا الرجل في لقاء تلفزيوني عن اعتزازه بتلك المدينة، على الرغم من كونه قاهرياً وسافر إليها بعد أن اختار بإرادته التقدم للحصول على فرصة العمل كمدرس مساعد في كلية الطب بجامعة المنصورة المنشأة حديثاً آنذاك.

المقصود ب"نموذج غنيم" المبتكِرون المكررَون داخل كل حركة وطنية، ممن لهم أثر لا يثير الريبة ولا يقع تحت سهام صائدي النوايا، ممَن لم يكتفوا بالأثر القائم على البناء خارج مساحات الاشتباك بل انخرطوا فيها بهوية متفردة وأسلوب خاص. هم في خانة المعارضة أغلب الوقت، ولكن من باب طرح الحلول أولاً والبحث عن "كلمةٍ وسطى"، عدا في اللحظات الحاسمة والحرجة.

تحدث ذلك الطبيب يساري الانحياز والتعريف عما تخلقه القاهرة من ضغوط طبقية تفاقِم من طبيعة المشكلات التي تجذرت في الواقع المصري. لقد نجا بنفسه بشكلٍ ما، استطاع أن يكون طبيباً وتنموياً وسياسياً في آن. أفكر بِما لو ظل في قلب الأحداث والأوجاع بالقاهرة؟ ماذا لو طحنته مع ملايين المطحونين آلات التفريق الطبقي وهو المستور مادياً لا ميسور الحال. 

في كتابٍ عن سيرته الذاتية حرره الطبيب والكاتب المنصوري أيضاً محمد الماخزنجي، نقرأ سطوراً عن تجربته الرائدة في خلق "قسم 4 بكلية طب المنصورة لأمراض الكِلى والمسالك البولية". وكيف استطاع هذا الذي سافر لأعوام قليلة إلى بريطانيا وأمريكا أن يعود بخطة حاسمة ومحكمة لتأسيس قسم رائد شهد إجراء أول عملية زراعة كِلى بالشرق الأوسط، وعاشت مصر معه أياماً هامة صاحَبها تضامن قانوني وشعبي وإعلامي من أجل استكمال بناء هذا الصرح وجمع التبرعات له، والتفنن - بلا مبالغة- في خلق الحلول من أجل توفير مواد البناء والحصول على دعم جهات دولية متخصصة بهدف التطوير دون أن يكون كل ذلك بعيداً عن كونه قسماً حكومياً في مستشفى تابعة للدولة تحصل على حصة من ميزانيتها وتخضع لرقابتها.

مرت به السنوات طويلة يبني هو وفريقه نموذجاً يحتذى بنجاحه. وعلى الرغم من تركه لرئاسة المركز منذ سنوات وتفرغه للبحث العلمي، لا زال أهل مصر يطلقون اسمه على المركز دون لافتة، ويتعالج فيه أي مواطن دون أن يتكلف مليماً واحداً وبكرامة كاملة.

في إحدى الحوارات التلفزيونية سمعته يتندر ضاحكاً على صخب القاهرة ويقول: "إحنا في المنصورة عندنا الدنيا بسيطة، مفيش "مولات مصر والعرب"، ولا نوادي بأسماء غريبة، كل اللي عايز يلعب رياضة بيروح يشترك في أنشطة نادي المنصورة العام". تحدث في أكثر من منحى، ذلك الطبيب يساري الانحياز والتعريف، عما تخلقه القاهرة من ضغوط طبقية تفاقم من طبيعة المشكلات التي تجذرت في الواقع المصري.

كيف يمكن لهذا البلد أن يجد ضالته في بعض من جذبتهم أو استبْقتهم القاهرة، ليساعدوها على الخروج من هذا المأزق، القاتم لا الضبابي، عبر سيناريو سياسي سليم ومنطقي في الوزارات والنقابات والبرلمان ومؤسسة الرئاسة وغيرها، دون أن يكون هناك أولاً مبادرات ومحاولات لمن هم على شاكلة غنيم، وهم كثر على الرغم من فداحة الأيام، في المنصورة وكل شارع مصري.

مناخ البطش والاستقطاب والإفقار السائد الآن يجعل التفكير في الحلول أمراً بالغَ الصعوبة وشحيح الاحتمالية. لكنه غير مستحيل، ليس لأن هذا الرجل لا زال ـ هو وغيره من أبناء جيله ـ على قيد الحياة بعقلٍ ووجدان وهمة لم تتلفها الأيام، ولكن لأن أجيالاً قد تعاقبت، من هؤلاء الماضين بمحاذاة الضوء باتجاه القادم، ويجمع بينها خيط الألق المُسمى "ثورة يناير". 

لقد نجا الرجل بنفسه بشكلٍ ما، استطاع أن يكون طبيباً وتنموياً وسياسياً في آن، أفكر بِما لو ظل في قلب الأحداث والأوجاع بالقاهرة؟ ماذا لو طحنته مع ملايين المطحونين آلات التفريق الطبقي وهو المعروف عنه أنه مستورٌ مادياً لا ميسور الحال، وأن عجلة القيادة في سيارته حتى الآن لم تعرف أي نوع من أنواع الماركات التجارية الكبرى؟ هل كان له أن يصبح رائداً وليس فقط مناضلاً ثورياً في لحظة استدعاء بالميدان؟ هل كان له وهو المشهور بالصرامة الشديدة بالعمل أن يذهب إلى "إستاد المنصورة الرياضي" ويتبادل في روح فكاهية بعض الملاحظات الصحية مع آخرين وأخريات ممن جاءوا للجري من أجل فقدان بعض الوزن؟ هل كان يمكن من الأصل أن يضمهم جميعاً المضمار نفسه داخل القاهرة الكاشفة لحجم القتامة التي وصل إليها الحال في مصر؟ هل كان له أن يجد البراح النفسي والفكري ليعقد مع آخرين الهمة لتدشين تلك "الجمعية الوطنية للتغيير"؟ هل كان له بعد أن كنس الشباب الميدان وعاد لعمله في المنصورة أن يعلن دعمه ورعايته لقائمة "الثورة مستمرة" في أول انتخابات برلمانية، والتي كان قوامها الرئيسي من الشباب دون تحالفات سياسية واسعة؟ هل كان له أن يعكف وآخرين على صياغة رؤية لتطوير التعليم الأساسي والجامعي؟ هل كان له أن يذهب إلى ذلك اللقاء التلفزيوني في 2016 بعد اندلاع سنوات الدم والسجن والاستقطاب، ليقول بعض آراء سياسية تتفق أو تختلف معها، لكنك بلا شك تنحاز له وتسعد أنه لا زالت لديه نقطة مضئية يتحدث عنها هي مركز العلاج، ويعلق على خاتمة مضيفته التي دعت الجميع للتبرع فيقول: "لكن ادفعوا الضرائب أولاً".

لعله نجا لأنه اختار "السعادة في مكانٍ آخر" كما عنوان كتابه. اختار أن يكون منصورياً لا قاهرياً، حسب المعنى لا الموقع الجغرافي، يركز على معارك "البناء" والمبادرة والعمل الجماعي اللحظي، على عكس كثيرين اضطرتهم الأيام للقدوم من الريف إلى القاهرة التي لا غنى عنها لمن أرادوا بنضالهم طرح أنفسهم كبديل على كل مقاعد المسؤولية والحكم، باتجاه سلطة مدنية تؤمن بالحرية والعدالة الاجتماعية.

لكن كيف يمكن لهذا البلد أن يجد ضالته في بعض من جذبتهم أو استبْقتهم القاهرة ليساعدوها على الخروج من هذا المأزق، القاتم لا الضبابي، عبر سيناريو سياسي سليم ومنطقي في الوزارات والنقابات والبرلمان ومؤسسة الرئاسة وغيرها، دون أن يكون هناك أولاً مبادرات ومحاولات لمن هم على شاكلة غنيم، وهم كثر على الرغم من فداحة تلك الأيام، في المنصورة وكل شارع مصري بلا مبالغة، فيعودون للبحث عن "النجاة في مسارٍ آخر"، يعودون للتفكير الجماعي المستقل الذي يضم المثقف إلى المبادِر إلى السياسي، من أجل خلق سياقات وصياغات قادرة على توليد "فعل / مطلب" سياسي/ اجتماعي يكتسب تأييداً شعبياً ويحقق "حلحلة/إزاحة" لا غنى عنها من أجل استكشاف طريق يوقف سيل الانجراف إلى داخل الهاوية؟

***

إنها بالفعل عشرات التجارب الجماعية الهامة عبر التاريخ المصري الحديث والمعاصر، ما يتذكره المصريون الآن باعتبارها إرهاصات الخروج الكبير، هو إنشاء حركة "كفاية" عام 2005، ومنها إلى الجمعية الوطنية للتغيير 2010، إلى تشكيل "لجنة المئة" عام 2012 للتوافق على مرشح رئاسي يمثل جمهور الثورة.

غير أن مناخ البطش والاستقطاب والإفقار السائد الآن يجعل التفكير في مثل تلك الحلول أمراً بالغَ الصعوبة وشحيح الاحتمالية، لكنه غير مستحيل، ليس لأن هذا الرجل الذي ذكرنا اسمه ها هنا أكثر من مرة لا زال ـ هو وغيره من أبناء جيله ـ على قيد الحياة بعقلٍ ووجدان وهمة لم تتلفها الأيام، ولكن لأن أجيالاً قد تعاقبت وتواترت من هؤلاء الماضين بمحاذاة الضوء باتجاه القادم، ولا زال يجمع بينها حتى الآن خيط الألق المُسمى "ثورة يناير".

نعم، هناك دعوة أطلقتها السلطة قبل أشهر تحت اسم "الحوار الوطني"، لكنها، على الرغم من مصداقية وصحة المطالب التي يطرحها المنخرطون فيها من قوى المعارضة، وعلى رأسها خروج مئات المعتقلين، فهي تجربة لم تستطع حتى الآن صياغة مؤشرات حول "المخرج العام"، بل إنها في ظل سياسات سلطة لا تتوقف عن مهاجمة كل ما يتعلق بالعمل السياسي والخروج الثوري واسم يناير ذاته، وأصبح مصيرها على شفا جرف أو لعله من الأصل مدفونٌ منذ اللحظة الأولى في باطنه.

فمتى تشهد مصر من جديد جمعاً مستقلّاً مبادِراً بنّاءً فريداً، يغتنم ـ كما غنيم ـ كل فرصة لتحديد مكمن العتمة من أجل فتح طاقة يدخل منها النهار؟ 

______________________

1  - https://www.facebook.com/wafaa.sabry/videos/848352589565944

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...