رغم أن فيلم "في أرض الدم والعسل" الذي عُرض في 2011 كان تجربة الممثلة الأميركية أنجيلينا جولي الأولى في الإخراج، إلا أنه لم يكن أول فضاء تلتقي فيه جولي مع تفاصيل صناعة الحرب. الفيلم الروائي الذي تدور أحداثه في سراييفو، يتناول علاقة مجند صربي بامرأة بوسنية خلال سنوات الحرب في التسعينيات. أما ما سبق الفيلم فكان قبول عضوية جولي في "مجلس العلاقات الخارجية في 2007". المجلس ومقره واشنطن يعنى بإجراء ونشر الأبحاث بغرض إسداء النصح للإدارة الأميركية في ما يتعلق بسياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية. أما العضوية الإدارية لمجلس العلاقات الخارجية فهي تضم أسماء كالجنرال العسكري المتقاعد كولن باول وزير الخارجية في إدارة جورج بوش الابن بين عامي 2001-2005 التي تخللها اجتياح القوات الأميركية للعراق، بالإضافة إلى مادلين أولبرايت التي شغلت المنصب ذاته في ظل رئاسة بيل كلينتون للولايات المتحدة... وهي التي سُئلت عام 1996 في مقابلة إذاعية معها عما إذا كان الحصار المفروض على الشعب العراقي والذي حصد أرواح نصف مليون طفل حتى ذلك العام هو "ثمن يجب أن يدفع"؟ وردت (وقتها كانت سفيرة في الأمم المتحدة): "أعرف أنه ثمن باهظ ولكن يجب يُدفع". وفيما كان "الثمن يُدفع" في العراق، كانت أولبرايت الواجهة الأميركية لمفاوضات "إنهاء" الحرب في البوسنة.
تنقلت جولي التي أصبحت سفيرة الأمم المتحدة للنيات الحسنة في 2012 من إنقاذ نساء البوسنة إلى غلاف القضية الأكثر جاهزية للتسويق اليوم: مخيمات اللاجئين السوريين، حتى وصلت إلى محطة جديدة وهي تدريس صفوف عن النساء في مناطق الحروب ضمن برنامج للماجستير في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية LSE. جولي ستحاضر كأستاذة زائرة جنباً إلى جنب مع ويليام هيغ، الذي شغل منصب وزير خارجية بريطانيا السابق إلى منتصف عام 2015. ووفقاً للخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية، سيحاضر كلاهما عن أثر الحرب على حياة النساء.
هل أبدأ من تعليب الإنتاج المعرفي عن آثار الحرب في غرفة منفصلة عن تاريخ صناعة الحرب؟ أم أبدأ من كارثة تمثيل "الرجل الأبيض" للضحية، وكأن الحرب فراغ لا أصل له ولا سبب؟
هيغ كان وزيراً في حكومة بلد تبيع القنابل العنقودية التي تستعمل في الحرب في اليمن وفق تقارير منظمة العفو الدولية. ربما لم تسمع جولي بثورات شهدت أشهرها الأولى في سيدي بو زيد وصنعاء والقاهرة وبنغازي والمنامة ودرعا... ثورات وثقت شعاراتها نضالاً صادقاً للخروج من مطرقة سلطوية الحكام وسندان الاستعمار. صرخة ضحية اليوم لم تخلق من الفراغ، بل بعد أن وطأت قدم الديبلوماسية الدولية والتسليح على عنق تلك الهتافات، فكانت الحرب وكانت الضحية.
فصل الحاضر عن تاريخ نظام عالمي تعانق فيه الرأسمالية الحذاء العسكري الأبوي في صيغتيه الاستعمارية والشمولية الديكتاتورية القومية هي جريمة توازي ما يتعرض له الجسد الذي يتم الحديث عنه في محافل يفترض أنها تنتج المعرفة. وأي معرفة تُنتج "السلام" حين ينتجها صانع الحرب؟ هي بتعبير أدق عملية إعادة إنتاج المعرفة الاستعمارية حيث يحاضر الرجل الأبيض عن "الآخر" في ظلّ وهم أن هذا الآخر لا يملك أدوات الحديث عن نفسه. والواقع أنه لا يُسمح له بالحديث عن نفسه ليظل "آخراً" يُروى تاريخه بالنيابة عنه لتتم صياغة حاضره على الشاكلة نفسها. ليس هناك ما هو أعمق من حديث طفل سوري لمح العنف والكراهية في وجوه من حوله بعدما أوصلته رحلة التهجير القسري إلى الحدود المجرية، فواجه الكاميرا صارخاً: أوقفوا الحرب في سوريا ونحن لن نأتي لأوروبا. فقط أوقفوا الحرب فنحن لا نريد أن نرحل إلى أوروبا.
كامرأة يمنية، تعرف عيناي المجردتان أنواع الأسلحة الأميركية التي واجه بها نظام علي عبد الله صالح التظاهرات السلمية في 2011، قبل أن تمنحه المبادرة الخليجية برعاية أممية حصانة من أي مساءلة قضائية بشأن جرائم اقترفها على مر ثلاث وثلاثين سنة. أعرف الأسلحة العنقودية البريطانية التي تستعمل في الحرب على ذات الـ "صالح" منذ عام ونصف في اليمن، ليس من الأخبار بل من الشظايا التي أجمعها في صندوق يذكرني بأنني لا زلت على قيد الحياة بعد انقضاء كل غارة. أعرف تماماً موقعي في هذه الحروب وأجيد الحديث عن أبوية كل رعاتها في الداخل والخارج، ولا أثق ببرنامج ينتج المعرفة عبر من أنتج الحرب وإن تم تجميله بجولي التي إن كانت تدرك إلى جانب من تحاضر فهي تساهم في صناعة معرفية تخدم آلة الحرب، أما إن كانت لا تدرك ذلك، فنحن أمام كارثة ممثلة لا تستطيع التفرقة بين فيلمها المأخوذ عن لعبة الفيديو ("مغيرة القبور"/ Tomb Raider) والحاضر الذي لا يمكن أن يُقرأ من دون الماضي، فما بالنا بتدريسه.
نقف اليوم تحت مطر القذائف والبراميل والرصاص والصواريخ نتحسس الأرض بأقدامنا لنتأكد أننا لا زلنا واقفات ولم تبتلعنا. وحتى عندما يأخذ القصف استراحته، نبقى نحن في حروبنا مع الأبوية التي يخفيها وهم وقف إطلاق النار. كل واحدة منا تعرف تماماً من يقتلها وينهبها ويتحرش بها ويعنفها ويغتصبها، أكان من عرقها أو من عرق "المحرِّر" المحتل. هذه المعرفة هي قصة النساء والحرب. وفي طياتها قصة نضال يومي ضد كل ما سبق. أما أن ينتج مهندسو الحرب إنتاجاً معرفياً يهدف لتمثيل ضحية الحرب، فهو مشروع يقتل الضحية مرتين. اليوم ينتزع صوت الضحية وسط تصفيق حاد، الإصابة بالصمم جراءه تبقى خياراً لمن يرفض أن يسمع القصة من صاحبتها خشية أن يعكر صوتها صفو الاحتفاء بمخرج/ة فيلم - عن ـ الضحية.
مواضيع
استعمار القصة والصوت
مقالات من اليمن
"حاملات الشَّرِيْم" في اليمن
يُعدّ "الشَّريم" من أهم أدوات العمل الزراعي في الريف اليمني. إذ يغلب على استخدامه في حصد الزرع أن يكون الرجال هم من يقومون بذلك. أمّا استخدامه في حشّ العشب (الحشائش)...
تحوُّلات العاصمة في اليمن
يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...
حضرموت المغبونة.. فتيل مبتلّ بالنفط
حدد "حلف قبائل حضرموت" ثلاثة مطالب رئيسية، أوّلها أن يعترف رئيس "مجلس القيادة الرئاسي" "بحقّ حضرموت" في شراكة سياسية فاعلة، على مستوى السلطة العليا للدولة، وفي تقرير نوع التسوية الشاملة...
للكاتب نفسه
من نهر المسيسيبي حتى جبل صَبِر في اليمن
لا يمكن أن يعيش اليمني حياته دون أن يكون قد تحدَثَ و لو لمرة واحدة على الأقل عن الإيقاع. الحديث عن الإيقاع هنا موسيقيٌ بحت. فالموسيقى في ريف اليمن وحضره...
ليلة العيد في اليمن: "ماتو أهلي ومن حظ النكد عشت أنا"
أشعر وكأني أضعت شيئاً و أنا أنظر إلى كفي الشاحبة التي لم تعد مشاغلي تنفع كحجة لإهمالي لها، فأنا لا أرى في مشاغلي مبرراً كافياً لقطع عادة نقش الحناء على...
نزيف
"تقصم الظهر"، أكثر تعبير كانت تستعمله أمي لتصف حقيبتي منذ الدراسة الابتدائية.. أمي حاولت بشتّى الوسائل أن ترفق بي من الحقائب التي كانت تكبر عاماً بعد عام حتى أصبحت مشاويري...